ثقافة

من تراث الفكر السياسي في الإسلام (المعتزلة)

مرفأ قراءة ..

 
-1-

كانت فرقة «المعتزلة» الشهيرة، في تاريخ المذاهب والفرق الإسلامية، هي الفرقة الحاملة والداعية لسلطة العقل والعقلانية في التراث الإسلامي، منذ ظهورها وحتى اختفائها من على مسرح الحياة الفكرية والثقافية في القرن الخامس، لكن أثرها لم يخبُ تمامًا رغم ما تعرضت له أصول المعتزلة من حرقٍ وطمس وتدمير، ولم يبق إلا أقل القليل مما نقله عنهم مؤرخو الفرق الدينية، ومعظمها من منظور الخصوم، وأصل نشأة المعتزلة، كان قول مؤسس المذهب واصل بن عطاء المعتزلي إن مرتكب الكبيرة ليس بكافر، ولا هو مُعفى عنه،‏ وحسابه عند ربه.

وشُهر المعتزلة،‏ في تراثنا الفكري بأنهم الذين فتحوا طاقة ضوء منيرة على العقل العربي والإسلامي، وكيف جاهدوا لتبرير حرية الاختيار وحرية الإرادة بالنسبة للإنسان،‏ فنجدهم في محاولتهم الرد على المدرسة الجبرية يقولون‏:‏ لو لم يكن الإنسان حرًّا في تصرفاته لما كان مسؤولًا عنها، وما كان من العدل الإلهي مجازاته عليها ثوابًا أو عقابًا،‏ بمعنى أنه إذا كان الإنسان مسيرا من قبل الباري،‏ فليس له إرادة أو حق في الاختيار،‏ فكيف يجوز لله أن يعاقبه على شر كتبه له،‏ أو ابتلاه به؟

ويقول المعتزلة بما أن الله كريم،‏ وعادل،‏ ومنزه عن الخطأ،‏ ولا يخلق إلا الإصلاح،‏ فهو تعالى خلق الكون وخلق الإنسان على أكمل صورة،‏ وعلى أحسن وجه،‏ ولهذا فليس هناك داعٍ لأن يتدخل الله في الكون أو في شؤون العالم بعد الخلق،‏ والقول عكس ذلك ينفي صفة الكمال المطلق عن الخالق،‏ حيث لا يخلق الكامل اللا متناهي الناقص المتناهي،‏ إنما يخلق الناقص ناقصًا،‏ فالله تعالى هو الوحيد الكامل،‏ وما خلقه هو كامل بخيره وشره،‏ وبنعيمه وجحيمه‏‏.. هذه مجرد لمحة سريعة عن فكرة المعتزلة حول حرية الإرادة والعدل الإلهي وطريقة تفكيرهم في مثل تلك القضايا المجردة.

-2-

وإذا كانت فرقة المعتزلة من الفرق الإشكالية في تراثنا الإسلامي، قد حظيت بدراسات معمقة وواسعة على المستوى الفلسفي، والكلامي، واللغوي البلاغي، لكنها لم تحظَ بالقدر ذاته على المستوى السياسي، سواء من ناحية الأفكار النظرية أو من خلال محاولات وتجارب تطبيقية، فإن ثمة عددًا قليلًا من الكتب التي تصدت لهذا الموضوع بتفصيلٍ واستقصاء، أذكر منها على سبيل المثال دراسة الدكتور عبدالرحمن سالم «التاريخ السياسي للمعتزلة حتى القرن الثالث الهجري» التي صدرت قبل أعوام عن دار رؤية بالقاهرة، لكن ثمة كتابًا آخر يعود إلى تاريخ أقدم بكثير لكاتب وصحفي ومؤرخ مصري، نالت كتاباته الموجهة للقارئ غير المتخصص قبولًا وذيوعًا وشهرة واسعة، وهو المرحوم جمال بدوي أحد أقطاب الصحافة المصرية في العقود الثلاثة الأخيرة من القرن العشرين، وصاحب الكتب والمؤلفات التاريخية والتراثية الشهيرة.

من بين أهم مؤلفات جمال بدوي التي لم تحظ بشهرة كبيرة مقارنة بكثيرٍ من مؤلفاته الأخرى كتابه الرائع «من تراث الفكر السياسي في الإسلام»، وهو كتاب يعود تاريخ نشره إلى عام 1989، ورغم صغر حجمه، وقلة عدد صفحاته (185 صفحة من القطع الأصغر من المتوسط)، فإنه يمثل من وجهة نظري واحدًا من أفضل ما كتب عن تاريخ المذاهب والفرق الإسلامية في جانبها السياسي، وبالأخص فرقة «المعتزلة» التي كان دائما ما يتم التركيز على بعدها الفكري والكلامي (الديني)، وما يتصل بصراع التأويلات الفقهية والعقدية في القرون الأربعة الأولى للهجرة.

ولا يقتصر الكتاب على التعرض للفكر السياسي عند المعتزلة فقط، بل يعرض كذلك للفكر السياسي عند المرجئة والقدرية وعند أهل السنة والجماعة، وينقب في تراث الأئمة الأربعة المشهورين في التراث الفقهي السني.

ورغم ذلك، فإن المعتزلة كانوا أصحاب النصيب الأوفى من العرض والقراءة والتحليل؛ وتوقف جمال بدوي أمام محطاتهم المفصلية منذ الظهور في البصرة في القرن الثاني الهجري؛ معتمدًا إلى إيراد النقول والنصوص التي عالجت تاريخهم من المصادر القديمة والمراجع الحديثة على السواء، لكنه دائما يراعي أن تكون الرواية أو النص المنقول في حيز مقروء قدر الإمكان ويتعمد الشرح والتعليق والربط بين الروايات أو كشف التعارض بينها وكل ذلك في سياق متصل ممتع أفاد فيه من خبرته الصحفية والكتابة الموجهة لجمهور عام إفادة رائعة ووظفها خير توظيف.

-3-

يقدم الكتاب قراءة الأصول الخمسة للمعتزلة من وجهة سياسية، متعرضًا بالضرورة إلى بحث نظريتهم في الحكم، أو دراسة مبحث «الإمامة»، وهو المبحث الذي تناوله المتكلمون والفقهاء بل حتى المحدثون بحدة وضراوة، ودارت حوله المنازعات والشقاقات، بصورة لم يعرفها أي مبحث آخر بطيعة الحال.

وإذا كان الجانب النظري من البحث حول «الإمامة» ينصب على نشأة المعتزلة وأفكارهم الأولى التي تبلورت حول فكرة «الإمام» ووجوب نصبه والشرائط التي يجب أن تتوافر فيه، وهل يجوز الخروج عليه بعد انعقاد الأمر له أم لا، كل هذه الأسئلة التي سعى مفكرو المعتزلة إلى التعرض لها والإجابة عنها، فإن ثمة علاقة قوية تعرض لها الكتاب تفصيلًا بين التشيع والاعتزال في هذا الجانب، أي نظرية الإمامة، نظريًا وعمليًا، وتطور هذه العلاقة في الفترة المتأخرة من تاريخ المعتزلة.

-4-

تاريخيًا، ومن خلال الأحداث والوقائع التي ترافقت مع ظهور المعتزلة على مسرح الحياة السياسية والاجتماعية والفكرية في القرن الثاني للهجرة، يتتبع مؤلف الكتاب تاريخ المعتزلة، ونشاطهم السياسي خلال حكم الأمويين والعباسيين (كانوا مصدر قلق كبير لخلفاء البيت الأموي، ومن بعدهم بني العباس)، مع التوقف تفصيلًا لدراسةِ علاقة المعتزلة بالخليفة المأمون، ومن بعده الخليفة المعتصم، والدور الكبير الذي لعبوه في هذه الفترة، ثم المأساة التي تشكَّلت فصولها إبان اقترابهم من رأس السلطة، وما نتج عنها من محنةٍ عُرفت في التاريخ الإسلامي بـ«محنة خلق القرآن»، التي يتعرض الكتابُ لكشف أبعادها السياسية، ليخرج «فرسان العقل في التراث الإسلامي» وهم محملون بوزر الاستبداد وإجبار المخالفين على اعتناق آرائهم وأفكارهم وتصوراتهم حول القرآن والذات الإلهية قسرًا وجبرًا!

ولأنه، فعلا، كما تدين تدان،‏ فقد ذهب الخليفة المأمون، وأتى الخليفة المتوكل ليخوض معركة عنيفة ضد المعتزلة، وضد القائلين بخلق القرآن،‏ مستندًا في معركته إلى من عانوا من الظلم في عهد المأمون، وخاصة أتباع ابن حنبل،‏ وصاح في الناس آمرا ومستندا هو أيضًا إلى السيف والسجن «إياكم والقياس،‏ قدم الإسلام لا تثبت إلا على قنطرة التسليم،‏ إياكم والتعمق فإن من كان قبلكم قد هلك به»!

مع مجيء الخليفة الواثق العباسي، الذي أبطل الإجراءات التي أدت إلى المحنة، تبدأ صفحة جديدة في تاريخ المعتزلة، حيث ينقلب السحر على الساحر، وتبدأ محنة المعتزلة الكبرى على يد الخليفة المتوكل، وهو ما يتطرق إليه الكتاب لكشف مظاهرها، والبحث عن أسبابها وتفسير النتائج التي تمخضت عن التنكيل بالمعتزلة واضطهادهم في مجرى الحياة الفكرية والسياسية الإسلامية.

-5-

ويختتم الكتاب رحلته مع المعتزلة، قبل سقوطهم وخروجهم من مسرح التاريخ، بالوقوف طويلًا أمام ظهور أبي الحسن الأشعري، صاحب الدور الكبير والمؤثر في تقنين ما يسمى بالوسطية الإسلامية، حيث بدأ الأشعري معتزليًا وانتهى مؤسسًا لتيار «الأشعرية» التي كُتب لها السيادة على العقل السني الإسلامي، منذ القرن الرابع وحتى الآن.

ويناقش الكتاب التأثير الضخم الذي أحدثه ظهور أبي الحسن الأشعري على الكيان الفكري للمعتزلة، مما كان إيذانًا بخفوت صوتهم، ونهاية الوجود المستقل والفاعل والمؤثر لفرقة لم يُكتب لها المكوثُ على مسرح التاريخ الإسلامي، والحياة الفكرية والثقافية الإسلامية، أكثر من قرون معدودة.