أعمدة

هوامش... ومتون : «مقامات زليخا»: الشمسُ حين تُضيء

 
«أصدقُ العاشقاتِ أنا

أنبلُ الغاضباتِ أنا

وأنا الشمسُ حين تُضيءُ..

والنجمُ حينَ هوى

وأنا البحرُ يختالُ في زُرْقةِ الكونِ ..

وأنا البئرُ غائصةً في سُكونِ الدُجى»

بهذه السطور تفتتح الشاعرة شميسة النعمانية ديوانها «مقامات زليخا» منطلقة من (أنا) مندمجة بالفضاء الكوني والإنساني، لا أنا الذات الشاعرة، وقد جعلت المفتتح عتبة نصية تضيء فضاءات ديوانها الصادر عن مركز الشيخ إبراهيم بن محمد آل خليفة للثقافة، والبحوث بالمنامة،

وقبل ذلك يشكّل عنوانها جزءًا عضويّا من النص، أو النص بعينه، كما يرى الفرنسي جيرار جينيت الذي وضع العنوان في مرتبة عالية، فاعتبره نصا موازيا، لا من الزوائد الجماليّة، لما له «من دور في كشف مقاصد المؤلف والناشر على حد سواء»، فقام باستنطاقها بوصفها مفاتيح إجرائية، فالكلمة الأولى من العنوان (مقامات) مستلّة من قاموس المتصوفة، وتعني المرتبة التي يصل إليها المريد،

والدرجة، عن طريق الزهد والتقوى والصبر، والرضا، يرى الباحثون أن المتصوّفة «أخذوا المقامات وعن المحبين، فالحسّي يقع أولًا، ويجيء الحب الروحي ثم الإلهي ثانيًا» لكن الشاعرة شميسة النعمانية تعيد المقامات إلى المحبيّن والشعر، في إصدارها الشعري الثالث، بعد ديوان «ما تبقى من اللون» الصادر عام ٢٠١٦م عن وزارة التراث والثقافة بالتعاون مع مؤسسة الانتشار العربي، وديوان «سأزرع في الريح قمحي» الصادر عام ٢٠١٨م عن الجمعية العمانية للكتاب والأدباء بالتعاون مع دار مسعى.

أما الكلمة الثانية (زليخا) فهو لقب زوجة عزيز مصر عند قدوم يوسف لمصر (اسمها راعيل)، وكانت مشهورة بحسنها، وجمالها، وحكايتها مع سيدنا يوسف عليه السلام التي شغفها

حبّا، الواردة في سورة (يوسف) معروفة.

والمراتب الصوفية، والمقامات سبعة لدى الكثيرين وهي: التوبة، الورع، الزهد، الفقر، الصبر، التوكل والرضا، فمراتب الحب لدى شميسة سبعة أيضا هي: العشق، العتاب، الرحيل، البكاء، الحنين، التأمل، الشفاء، لما لرقم سبعة من دلالات مقدّسة في موروثاتنا الدينية، ويتألف كل مقام من نصوص تطول وتقصر، أطولها يتألف من ستة نصوص وأقصرها ثلاثة، تشترك بتمجيد الحب، والعشق، وفي واجهة كل مقام تضع عتبة نصية قد تتألف من أربع كلمات، كما في (مقام العشق):

ما العشق ذنب

إنّه الحسنات

أو سبع كلمات كما في (مقام الرحيل):

ولأن قلبي خائب في حضرتك

ما عدت أقوى

وهي بذلك تصوغ حكاية تبدأ بالعشق، وتنتهي بالشفاء منه، فتتحدّث عن حب حسّي، وعلاقة إنسانية تحاكي خيبة زليخا في استدراج النبي يوسف عليه السلام، كما نقرأ في واحد أطول وأجمل نص في الديوان هو (من زليخا إلى يوسف: رسالة لم تصل)، وهو النص الذي استلهمت منه عنوان الديوان:

يا نحيبَ الكونِ مُرْتَجًّا بقلبي ..

وأنا بالصمتِ داريتُ زماني

يا لظى الإحساسِ بالمنفى بعيدًا

يا احتراقي إذ يجولُ الشوقُ في جوفي ذئابا!

بيدَ أنَّ اللهفةَ الأولى على جفنيْكَ شَمْعٌ شبَّ مبهورًا

ولما جاءَتْ الريحُ السماويةُ ذابا

وأنا أُشْفِقُ تَحنانًا

على النهرِ الذي يزدادُ بُعدًا بينما يَبْغي اقترابا

وفي نصّها (ربيعٌ سابق) بديوانها الذي يتألف من (111) صفحة من القطع المتوسط، ٣٧ قصيدة معظمها من شعر التفعيلة، تعزّز الحب الحسّي، والشعور بالخيبة:

يا ربيعي

الذي أزهرَتْ في فؤادي حروفُ اسمِهِ

أبدلوكَ خريفا

يا شظايا الحنينِ التي خَدشتْ كلَّ خُطْواتِنا في الشواطئْ

نفُوكَ من المتنِ

حتى غَدَوْتَ بلا أثَرٍ

عابرًا وخفيفا

وتجنح في نصوص أخرى إلى التصوف لتوازن طرفي المعادلة، كما في (صوفية الهوى)،

فتقول:

لو غفوتَ الدهرَ في عينيَّ أغدو مُغْمِضًا أعمى

ولا أرتدُّ للضوءِ بصيرا

إنني أخشى إذا فَتَّحْتُ أن يُقْلِقَ ضوءٌ نومَكَ الحاني

ويغدو فرحي منكَ فقيرا

إنَّ قلبي زاهدٌ في الكونِ إلا منكَ

يا جَرَّةَ ماءٍ عند راعٍ ساقَهُ للظلِّ صيفُ

وتستدعي الصراع بين قابيل وهابيل، كما في «سيرتُنا / سيرةُ الإنسان: الكلماتُ الأخيرةُ لهابيل» التي جاءت على لسان هابيل قبل مصرعه:

سِيّانَ يا قابيلُ

يا وجهي الرديفُ

أنا وأنتَ جذورُنا دَمُنا..

وإِنْ تتشعبُ الأعراقُ؛

طينُ الأرضِ مَعْجونٌ

تَشَكَّلَ من دَمِي قبلَ المخاضِ

ومن دَمِكْ

دَمِيَ المُعَتَّق في عُروقِ الشمسِ

نضّاحاً بلَوْنِ الحِنْطةِ السمراءِ

في حقلِ الزمانِ

وكل ذلك يأتي في صياغات، وتراكيب وقوالب شعرية تقوم على المجازات والكناية والاستعارات، والتشبيهات، عبر التماعات في مناخاتها الشعرية العامة، لا يتّسع لها المجال، وتحتاج إلى وقفة أطول في تجربة تعدّ الأنضج في تجارب الشاعرة شميسة السابقة، كونها تعد طبختها الشعرية على نار هادئة.