أفكار وآراء

اتِّحَادُ أحلامٍ ورؤى للخروجِ من الجُبّ

مع كل أزمة سياسية عالميا تظهر إعلاميا وسياسيا دعوات لتشكيل اتحادات وتكتلات اقتصادية عسكرية، تماما كظهور تحذيرات من خذلانات ناتجة عن التحول للأقوى أو لترجيح المصلحة الفردية على حساب إنقاذ الحليف، ولا ينبغي الاستهانة بالدعوة، ولا الاستهزاء من التحذير، خصوصا إن تبدّى من استقراء الواقع (واقع القرن الذي نعيش) أن التكتلات الدولية ضرورة لتشكيل درع عسكري قائم على تعاون سياسي اقتصادي وثيق؛ على أن يكون لهذه التكتلات ضماناتها وشروطها الموثّقة دوليا، ثم العناية بالتحذيرات من التحالفات واستنزاف أموال الشعوب في تعبئة عسكرية خيالية مع ما شهد العالم كذلك من خذلانات مُؤكدةً انسحاب الأقوى إن وجد حليفه هو الحلقة الأضعف في صراع المرحلة، ولنا في أحداث 'الربيع العربي' ما يكفي من أمثلة على تساقط التحالفات والانتصار للمصالح.

ولعلّ ما صنعت أزمة أوكرانيا الحالية يعيد إلى الأذهان كل ذلك، فلا يلبث العالم العربي أن ينقسم بين وكلائه من الدول العظمى، بين داعم لروسيا ومؤيد لأمريكا، وفي خضّم ذلك سيجد كلٌّ منهم مِن المبررات ما يكفي لتسجيل نصرته التاريخية لفريقه ضد الخصم.

يقينا الحرب ليست لعبة، ولن تكون كذلك، لكن مجرد التلويح بالحرب من قبل دول مؤثرة اقتصاديا وعسكريا بل وثقافيا سيكون له عواقبه الوخيمة، لا على أوروبا وحدها، بل على دول العالم جميعها، لا سيما ونحن نعيش هذا التفاعل الرقمي المفتوح المرعب اقتصاديا واجتماعيا، سلبيا أو إيجابيا.

ويمكن للمتأمل في هذا الصخب أن يلحظ - دون شك- تأثير كل ذلك على طاولات العلاقات السياسية عالميا، وإعادة ترتيب 'أجنداتها' وأولوياتها، فها نحن نجد الاتفاق الإيراني النووي يعود لطاولة النقاش عالميا سعيا لرفع القيود عن اقتصاد إيران المنتظر طويلا كملف عالق، كما أننا نقرأ ونسمع يوميا عن ضرورة تعزيز العلاقات التركية العربية من جهة، والعربية الفارسية من جهة أخرى.

هل تصمد هذه الدعوات لتعزيز قيمة المشتركات الآسيوية الشرقية بين هذه الحضارات الثلاث لتقوى معا؟ وهل يصل منظرو وواضعو سياسات هذه المرحلة لهذه القناعة بعيدا عن الانقياد لصنع عداوات مرحلية، وتصنيع أعداء وهميين ضمانا لاستنزاف كل من هذه الحضارات على حِدَةٍ بحجة حمايتها من جارتيها؟

هل نفيد جميعا من درس ضعف الفرد وقوة الجماعة في قول الشاعر؟

كونوا جميعاً يا بنيّ إذا اعترى خَطْبٌ ولا تتفرقوا آحاداً

تأبى الرماحُ إذا اجتمعن تكسراً وإذا افترقن تكسَّرت أفراداً

هل يمكن أن نعيد ما بيننا من مشتركات ثابتة لإنعاش الراكد منها عقب ما خلّف المستعمر وأطماع السلطة من أحقاد وضغائن وإحن؟ لعلّ الدين هو أحد أهم ما يمكن تفعيله شعبيا واجتماعيا، كما أنه يمكن للجوار جغرافيا ردم هوة ما كان من فتور أو تلكؤ، فضلا عن ضرورة صنع تكتلات اقتصادية تقينا جميعا مخاطر المستقبل وأهواله ونحن فرادى، خصوصا مع ما نعيش اليوم من تحديات وتقلبات اقتصادية سياسية.

ضمن هذه التقلبات والتحديات الاقتصادية السياسية تم استغلال كل شيء، حتى الإنسان فرَّغ من إنسانيته وأحلامه، حتى ساقه الساسة أداة لصراعات صُغرى مُصطنَعة أو حتى كُبرى مروِّعة، والمرعب حقيقة أن حتى صوت المثقفين المؤثر مجتمعيا وفكريا خفت كثيرا حتى لا يكاد يسمع. ذلك الصوت الذي ينبغي أن يكون مجلجلا عالميا رافضا للحروب داعيا لاستثمار طاقات الإنسان وموارد الشعوب لما فيه صالحهم صحيّا وعلميّا واقتصاديا، عوضا عن استنزاف كل ذلك في لعبة الصراعات الدولية.

هل يمكن للمثقف أن يؤثر صانعا فرقا في هذه التشكلات الصعبة، والتحولات الخطيرة؟ لعلّه يستطيع ذلك فعلا إن أدمن التعبير بالممكن من أدواته محاولا بالمقنع من حجج وبالمؤكد من دروس التاريخ استقطاب أصداء لصوته من أصوات مثقفين آخرين في مواقع مختلفة؛ تؤمن كلها بما ترسّخ من عقيدته وما تأصّل من عزيمته على فكرة الاتحاد تكاملا لا يقبل الأنوات الفردية، وإنسانية لا تقبل التكتلات المؤقتة النفعية، أصواتا كلها منفِّرة من الحروب داعية للسلام وحسن الجيرة. ولا أحسب إنسانا عاقلا واعيا يسعى لإضرام الحرب محتفيا بأوراها كما نصح زهير بن أبي سلمى في معلقته:

وَما الحَربُ إِلّا ما عَلِمتُم وَذُقتُمُ وَما هُوَ عَنها بِالحَديثِ المُرَجَّمِ

مَتى تَبعَثوها تَبعَثوها ذَميمَةً وَتَضرَم إِذا ضَرَّيتُموها فَتَضرَمِ

قد تبدو هذه الأصوات أصواتا حالمة غارقة في رومانتيكية لا يقبلها عالم اليوم، حيث نعيش في عالم فولاذي لا مكان فيه للحلم، لكن الحلمَ أول خطوة في درب التحقق، وإن كانت بداية النفوذ والسلطة حلما وجد طريقَه مع ضعف الجماعات وتجهيلها وتجويعها، فلمَ لا يكون للوحدة والتكامل أحلامهما التي تتخذ طرقا نبيلة وصولا لهدف نبيل هو وحدة الشعوب وتكامل الدول ؟!.

•حصة البادي شاعرة وأكاديمية عمانية