أفكار وآراء

المعتقد الديني.. بين العدل والظلم

10 فبراير 2022م.. الفتاة الهندية المسلمة مسكان خان تواجه تعصب بعض الهندوس بسبب الخمار «الحجاب»، حادثة تحكي مسيرة طويلة من الصراع الهندوسي الإسلامي في الهند، تخللها انفصال باكستان عن الهند عام 1947م. كما أنها ملخص لصراع المعتقدات لدى الشعوب. المقال.. لا يتطرق لتفاصيل الصراع الديني ذاته؛ الذي لن ينتهي ما دام أصحاب الأديان يتعصبون لمعتقداتهم، وإنما يتحدث عن تحريم الدين للظلم، وضرورة تحييد المعتقدات من الزج بها في صراعات غاشمة.

إن ربط الاضطهاد بالمعتقد الديني أمر لا يمكن نكرانه، وقد مارسه الدكتاتوريون في كل زمان، إلى درجة الإبادة، فما حدث في البوسنة والهرسك خلال التسعينات شاهد مؤلم على الإبادة الجماعية التي شنها الجيش الصربي على المسلمين، وكذلك.. تعرض المسلمون الروهنجا للاضطهاد في بورما، وجرى لإخوانهم الإيغور مثل ذلك في الصين. كما حصل تطهير عرقي في بروندي بين التوتسي والهوتو استمر حوالي عقد ونصف، ورغم كونهم جميعاً مسيحيين إلا أن الكنسية متورطة في هذه المجزرة. أما العصور الوسطى في أوروبا فحدّث عن حروب المعتقدات فيها ولا حرج، سواء بين المسيحيين أنفسهم، أو مع المسلمين في الحروب الصليبية. وهل يوجد أشرّ مما قام به الأوروبيون باسم المسيح من إبادة ماحقة؛ أفنوا فيها معظم الهنود الحمر سكان أمريكا الأصليين، ومن المضحك المبكي أنهم كانوا يقتلون الأطفال، وأثناء احتضارهم يعمّدونهم لمنحهم الخلاص الأخروي. والمسلمون.. كذلك مارسوا الاضطهاد؛ قديماً وحديثاً، ضد بعضهم البعض، إلى حد تفجير المساجد وقتل المصلين، كما أن التنظيمات الإرهابية عملت على تصفية الإيزيديين في العراق، وسبت نساءهم، وبيعت في أسواق النخاسة. فمسلسل الإرهاب العقدي متواصل الحلقات، يطل برأسه الشيطاني كلَ مرة يستغل فيها الدين.

ولأن الاضطهاد يحصل باسم الدين؛ فقد وقع ربط بين الظلم والأديان، وهذا تصور خاطئ، واقع في حبائل الأدلجة العمياء، لأن الدين في أصله يأتي محرماً للظلم آمراً بالعدل، ساعياً بالرحمة بين الناس، إلا أن البشرية قد استمرأت تسويغ أفعالها الإجرامية، وليس هناك من تبرير تستند إليه أقوى من المعتقدات الدينية، وحتى إن لم تسعف المتطرفين نصوصُهم الدينية -التي غالباً أصابها التحريف والاجتزاء- في شن هجماتهم الغاشمة على خصومهم، فإنهم لا يعييهم فعل ذلك باسم الدفاع عن دينهم.

لم أجد رؤية مكتملة لتحقيق العدل ورفض الظلم مثلما هي في القرآن. فالله عادل.. وبالعدل أمر: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ)، فالله الذي تتوجه إليه الخلائق لن يقبل منهم الظلم، ومَن رَسَخ هذا الإيمان في نفسه فإنه لن يظلم أبداً، لأن الله لا يظلم أحداً: (وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ)، ولا يظلم شيئاً ولو كان هباءً: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ). وقد ركّب الله الوجود على ميزان العدل: (وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ، أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ)، فربط الميزان بإحكام السماء فيه تحذير بليغ من الفوضى التي تتفشى في الاجتماع البشري عند اختلاله بالبغي والطغيان.

لقد أرسل الله للناس رسلاً بالبينات، ولا تستقيم البينات إلا بالقسط بين الناس جميعاً بمختلف أديانهم وأعراقهم وأماكنهم وأزمانهم: (أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ).

والظالمون.. وحدهم من يخسرون مآلهم عند الله: (يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا). وقانون الإهلاك عند الله؛ إنما ينزل على القرى الظالم أهلها: (إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ)، ولن تهلك القرى وهي مصلحة: (وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ).

وفي القرآن.. الدعوة إلى إقرار العدل ورفع الظلم مرتبطة بكل أنظمة الحياة؛ ففي المعاملات المالية: (أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ)، وفي العلاقات الاجتماعية: (وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَة)، وفي فصل الأحكام: (وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ)، وهكذا.. نجد القرآن يحث على العدل ويحذّر من مغبة الظلم في سائر الأحكام، ولذلك.. فإن كان صدور الظلم من عموم الناس شنيعاً، فصدوره من المسلمين أشنع؛ بعدما آمنوا بالقرآن ووجب عليهم اتباعه.

إن الرؤية القرآنية في منظومة العدل الشاملة لا تنبني على الموافقة في المعتقد الديني، بل هي تعم كل الخلق، فالعدل.. هو القسطاس المستقيم الذي يجب أن يحكم تفكير الإنسان تجاه جميع الموجودات، فمن الظلم.. الإفساد في الحياة، ومن الواجب الأخلاقي.. التصرف فيها بميزان محكم يقدّرها حق قدرها.

الدعوة إلى العدل عبر القرآن.. أتت في أحلك الظروف التي تمر بها البشرية؛ وهي الحروب، تلك الحالة الأكثر مدعاة للاعتداء والظلم والفساد، كما هو معتاد البشر، إلا أن القرآن يحرّم الاعتداء فيها: (وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ). والدعوة إلى التزام العدل تأتي أيضاً في حق ممارسة الإنسان تعبّده، وهو حق تكفله الأديان والشرعة الدولية، والوجود الإنساني ذاته، بيد أنه لا يجوز الاعتداء في تحقيق هذا المقصد الأسمى، وإن وقف ضدك الخصم: (وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا)، بل القرآن يذهب إلى أكثر من ذلك في التعامل مع المختلف في الدين، وهو البر والقسط لغير المعتدين: (لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ)، ويمد القرآن الطريق لاحباً أمام التعامل مع العدو: (عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ).

إن هذه المعاني العظيمة التي جاء بها الوحي الخاتم؛ تقرر قيماً إنسانية قائمة على العدل؛ فهي:

- تتجاوز النظريات التي تتبنى مُثُلاً غير واقعية، أو تغوص في تنظيرات مجردة، حيث نجد الأمر بالعدل منبثاً في كل نواحي الحياة؛ بما في ذلك تصورنا للخالق، ونظرتنا للكون، وتطبيقنا لشئون الحياة.

- تربط سعادة الإنسان في الدنيا ونجاته في العقبى بإقامة العدل واجتناب الظلم، وهذا من أقوى الأواصر النفسية لتحقيق المقاصد، ومن أوثق العرى بين الناس في التعاقد على إدارة شئونهم في الحياة بالحسنى.

- لم تربط إقامة العدل بالدين والمعتقد، فالعدل قضية إنسانية مطلقة، ولذلك.. يعد تجاوزاً لحدود الله الانتصار لمن يوافقنا في المعتقد مع انسلاخنا من لباس العدل.

- لا تخلط بين الاقتصاص من الظالم والاعتداء عليه، فالعدل.. لا يسمح بتجاوز رد الظلم، ولا تخلط كذلك بين ظالم وغير ظالم يشتركان في الدين. وهذه عقبة قلّما يستطيع الإنسان أن يقتحمها، فهي تحتاج ذا عزم متجرد للحق وحده.

ختاماً.. على النظام العالمي أن يتبنى منظومة العدل، بعيداً عن التقلبات السياسية وألاعيبها، وألا ينحاز للمصالح الضيقة، فلن يستقيم هذا النظام ما لم يراجع مواثيقه في قضية العدل وتطبيقاته، بحيث يجعله لسان الميزان في حل القضايا الدولية. كما أن على المسلمين أن يسعوا بين الإنسانية بإرساء هذه الفضيلة العظمى، فهي وحدها الضامنة لإنزال مراد الله بين البشر، بدلاً من الاشتغال بأمور يحسبونها من الدين، وما هي من الدين، إن هي إلا تصورات ذهنية وتراكمات تأريخية ونقائض اجتماعية. بل علينا أن نراجع تاريخ البشرية وننقد كل مثالب الظلم عند الأمم، مهما كان الدين الذي يعتنقونه، فهذا ليس إحقاقاً للحق فحسب، وإنما هو أيضاً تبرئة للدين من أفعال الظلمة المنتسبين إليه والمستغلين له، والتي تعد بذاتها ظلماً.

• خميس العدوي كاتب عماني مهتم بقضايا التاريخ والفكر ومؤلف كتاب 'السياسة بالدين'