أفكار وآراء

إعادة تشكيل المواقف.. من الفطرة إلى المنهج

تشكيل المواقف، أو العمل على تبدلها، هي قضية تدخل فيها السياسة من أوسع الأبواب، كما تدخل فيها مكملات السياسة من الاقتصاد، والثقافة، والدين، والتجارب الإنسانية، ولا ترتبط بسن محدد، وإن كان يقع فيها ضحية الأقل سنًا، والأقل خبرة بالحياة، ذلك أنَّ تبدل المواقف، وتشكلها يبقى مآلها الأول العقل، قبل العاطفة، فالعاطفة تنجر سريعا، وانجرارها السريع، وتسليمها المطلق، يؤدي بصاحبها إلى الوقوع في خسارات أكثر، بينما من يحكمه عقل راشد، وخبرة حياة كبيرة، يكون التأثير على مواقفه وتشكيلها أقل بكثير، ويحتاج إلى جهد كبير للوصول إلى قناعة يمكن من خلالها أن يشكل موقفًا معينًا، ويعيد ترتيب أوراقه من جديد، فهو يعي تماما أن التنقل من موقف إلى آخر لا بد أن يصاحبه دفع ثمن، أو تضحية بمبدأ، أو تبني لموقف، وهذا كله يحتاج إلى كثير من التفكير، والصبر، وليس من الحكمة إطلاقا أن ينجر الإنسان سريعًا في هذا الاتجاه، ولو رأى فيه مكسبًا آنيا، قد يحل له مشكلة، أو ينقله من حالة العسر إلى حالة اليسر، ولذلك، غالبا يعمل أصحاب القرار «الكبار» عندما يرسلون مفاوضا لأمر ما معني بالوطن على سبيل الخصوص يرسلون أصحاب العقول الراشدة، وأصحاب الخبرات الكبيرة والواسعة في الشؤون العامة، لإيمانهم الكبير، أن مثل هؤلاء يمكن أن يقولوا كلمة الفصل في الشأن الذي أرسلوا إليه، مع أن الضرورة تقتضي -خاصة في القضايا الوطنية- ألا يكون الموفد للتفاوض شخصا واحدا بعينه، مهما بلغ من الحكمة والرشد والتبصر مبلغه، فلا بد أن يكون هناك وفد مفاوض، إن ظل أحدهم، ذكره الآخر، وإن ظل الاثنان، ذكرهما الثالث والرابع، وهكذا تتسلسل الأهمية في أي شأن يحتاج إلى تشكيل موقف فيه، أو إعادة النظر فيه، ولذلك يظل تبني المواقف، أو إعادة تشكيلها مسألة معقدة وحساسة إلى حد كبير.

لا ينظر إلى عمليات إعادة «تشكيل المواقف» على أنها جريمة، وربما لا تصنف كذلك من وجهة نظر قانونية، وإن أدى ذلك إلى غش الناس، وإلى الإضرار بالبيئة، لأن المسألة متوقفة على قناعة المتلقي بالرسالة المبثوثة إليه، فهو حر أن يقبلها، أو يرفضها، ومن هنا ربما تكتسب براءتها القانونية، كفعل ممارس مباشر في زمن أو مكان ما، أو في بيئة ما، وقد يحدث أن تثار قضية ما تجاه منتج ما، عندما تتضاعف الآثار السلبية على المستهلكين، ولكن قد تقف الشركات المنتجة لهذه السلعة أو تلك مثار الجدل، على أرضية صلبة، من أنها لم تلزم المستهلك بأن يأخذ هذا المنتج على وجه التحديد، ولذلك تلعب الشركات الضخمة دورًا محوريًا في تشكيل المواقف لدى مجموعة الناس، فتنقلهم من حالة الضد لمنتوجاتها، إلى حالة تبني المنتج والترويج له وتسويقه، وذلك من خلال أساليب ترويجية مختلفة تخاطب العاطفة قبل كل شيء، تستخدم فيها المسموح والممنوع، فالمهم أن تعيد المجموعات المستهلكة إلى حظيرتها الإنتاجية، وذلك للوصول إلى الربح السريع، والمضمون، ويحدث ذلك أكثر عندما تظهر شركة منافسة لذات المنتج، متجاوزة بذلك مجموعة الأضرار والتداعيات التي قد تصاحب هذا المنتج أو ذاك، ولكم سمعنا وقرأنا -خاصة في المجال الصحي «التجميلي»- عن مآسي وقعت فيها النساء، نتيجة انجرارهن إلى منتج معين لقوة الدعاية الإعلانية التي صاحبته، مع وجود بديل مستخدم، ولا يشكل تلك الخطورة التي أحدثها المنتج الجديد، وكانت هناك قناعة لطول الاستخدام من أن المنتج المستخدم «القديم» هو أكثر أمانًا من الحديث، ولكن لأن المصنع الجديد لديه من أساليب الترويج الخاضعة لمنهج قوي، أثر ذلك في تبدل المواقف وتشكيلها عند مجموعة المستهلكين، فانحازوا إلى الجديد دون سابق معرفة بحقيقته الصحية والبيئية على حد سواء، والأمثلة كثيرة.

ينظر إلى سلوك تشكيل المواقف على أنه واحد من «التأثير المعياري الاجتماعي» وهو المعرف وفق النص التالي: «تأثير الآخرين الذي يؤدي إلى اتباع أمر يجعلنا مرتبطين بهم ومقبولين من قِبلهم بحسب موسوعة ويكيبيديا - الموسوعة الحرة»، ولكن يبقى الفارق هنا أن هذا الاتباع لا بد أن يكون واقعا تحت تأثير رسالة ما، قصدها المرسل، وعزز إرسالها بتحقيق هدف ما، فالمسألة هنا «تشكيل» تحتاج إلى جهد ما، حتى يتحقق، ولا يأتي هكذا عفويا، كما هو حال الكثير من التأثيرات المعيارية الاجتماعية الأقرب إلى الفطرة، فالمسألة هنا تحتاج إلى منهج، لأنها مقصودة وموجهة، وهناك حالة ترقب وانتظار لما سوف تسفر عنه مجموعة البرامج الموجهة والهادفة إلى تغيير حالة قائمة، واستبدالها بحالة جديدة وفق ما سوف يسفر عنه تشكيل الموقف، أو ردة الفعل، ولعلنا نلاحظ ذلك في استجلاب الطاعة من أطفالنا ولو أنه في تقديري سلوك غير تربوي، وذلك من خلال تقديم ما يرغب فيه الطفل، كنوع من الحلوى، أو الألعاب، واليوم تدخل على نفس الخط الأجهزة الإلكترونية، فبتحقق أي من هذه الوسائل في يدي الطفل، تكون ردة الفعل أن هذا الطفل استسلم استسلاما يكاد يكون مطلقا للطرف الآخر، وبالتالي يتم موقفه الرافض لأمر ما، إلى تشكيل سلوكه وفق ما يريده الطرف الآخر، المتقدم بمجموعة من الوسائل «الاستعطافية» الآنفة الذكر، وخطورة هذه المسألة بالنسبة للأطفال أنهم لا يدركون خطورة تشكيل مواقفهم، وتغيير سلوكياتهم، وذلك لأنهم الأقرب إلى العاطفة منها إلى العقل، فلا تزال عقولهم صغيرة لا يدركون «مكر» الكبار، حيث يسلمون الأمر بكل طواعية، ولذلك يستغل أصحاب النفوس الدنيئة، والأفكار الجهنمية هذا الضعف عند الأطفال، ويأخذون منهم أعز ما يملكون في حالة ضعفهم هذا.

يعزف الموكول إليه تشكيل المواقف لأمر ما على وتر النفس، أكثر من غيرها من العواطف والمشاعر، وذلك خلال وسائل عدة منها: إثارة الشكوك في نفسيات المتلقين، سواء الأنظمة أو الشركات، أو الأفراد، ويحشد لنجاح ذلك مجموعة من الرسائل النفسية، ونقل حالة المتلقين لهذه الرسائل من موقف الرفض، إلى حالة القبول والتبني، ويعد لذلك الكثير من البرامج، ومن البحوث «المدفوعة» حيث يدخل تحت هذه المظلة متخصصون وباحثون، ويتم غالبا استخدام أسلوب الـ«صدمة» وذلك من خلال تبدل المواقف المتشددة إلى مواقف متسامحة، أو من عداوة إلى صداقة، أو من رفض مطلق، إلى قبول مطلق غير مشروط، أو عكس هذه المواقف كلها، وذلك بصورة فجائية تربك مجمل القناعات السابقة التي كان عليها الطرف الآخر، ولذلك يعمد صاحب الرسالة النفسية بذلك إلى الاستسلام السريع من الطرف الآخر الموجهة إليه الرسالة، وهو ما يطلق عليه في الإعلام بـ«نظرية الرصاصة» وإذا تحقق الهدف بالصورة المطلوبة، فإن ذلك ينبئ على أن الرسالة محكمة المنهج، ومن قام على إعدادها حاذق متمكن، وذو خبرة، وهو لن يخرج عن كونه متخصص في المعالجات النفسية، وهذا النوع من الوسائل لا ينفي استخدام الوسائل التي يستخدم فيها العقل للإقناع؛ وخاصة في المراحل المتأخرة، عندما يكون الطرف الآخر قوي المراس.

في أوقات الأزمات تكثر رسائل تشكيل المواقف، أو إعادة إنتاجها من جديد، بما يتوافق مع أهداف المرسل، وتتزاحم هذه الرسائل في أوقات الذروة، ولذلك تنشط الرسائل الذاهبة إلى تبني مواقف طرف دون آخر، أو تشكيل مواقف متناقضة عما كان عليه الجمهور المتلقي، وهذه من الفترات العصيبة التي تواجهها الأنظمة السياسية على وجه الخصوص، خاصة عندما يكون المرسل مناوئا للنظام، ومتصادما معه، عندها قد ينظر إلى التغذية الراجعة، وتقييمها لمدى الاستجابة لكثير من هذه الرسائل، ويلعب النظام السياسي دورًا محوريًا في تشتيت هذه الرسائل المدعومة من الأطراف المناوئة، وعدم إعطائها الفرصة لترهل التعاضد الاجتماعي، أو إرباك اللحمة الاجتماعية، ومن هنا تأتي أهمية التغذية المستمرة لأبناء الوطن للمعاني الحقيقية للوطنية، وهذه المعاني يقينا لن تنجز في لحظات الأزمات العصيبة، وإنما تعمل على إزكائها في نفوس الشعوب طوال سنوات الرخاء، من خلال طرق وأساليب عديدة منها: شيوع العدالة الاجتماعية، والأمان الاجتماعي، وتلمس حاجيات الأفراد، والاستماع إلى النداءات المطالبة بالحقوق، وتظل الوسائل الإعلامية هي المعول عليها لتصحيح الكثير من الرسائل، وتفنيدها وتفسيرها، وخاصة منها المغرضة أو المدفوعة، لهدف تشكيل المواقف السلبية تجاه النظام السياسي، وزعزعة اللحمة الاجتماعية لدى الشعوب.

أحمد بن سالم الفلاحي كاتب وصحفي عماني

لا ينظر إلى عمليات إعادة «تشكيل المواقف» على أنها جريمة، وربما لا تصنف كذلك من وجهة نظر قانونية، وإن أدى ذلك إلى غش الناس، وإلى الإضرار بالبيئة، لأن المسألة متوقفة على قناعة المتلقي بالرسالة المبثوثة إليه، فهو حر أن يقبلها، أو يرفضها