نوافذ .. إنسانية الطبيب.. وحساسية الأديب
السبت / 17 / رجب / 1443 هـ - 20:13 - السبت 19 فبراير 2022 20:13
سليمان المعمري-01
'ليس أجمل من أن تمد يدك في العتمة ليد أخرى لتقودها إلى ممر مضيء، ما أروع أن تبذر الأمل وتسترجع ابتسامة إنسان'، هكذا يلخّص عبدالعزيز الفارسي مهنة الطبيب، من هذا المدخل سأقول: إن مهنة الطب ساهمت في إبراز كثير من الجوانب الإنسانية للأديب عبدالعزيز الفارسي، خصوصًا أن تخصصه هو مرض السرطان، هذا المرض الذي قضى سبع سنوات في كندا وهو يحاول كشف أسراره وسبر أغواره.
يدرك عبدالعزيز أن مريض السرطان بالذات يحتاج إلى معاملة خاصة، ينبغي ألا يكون الطبيبُ ذلك الكائنَ الجامد الذي يكرر الأفعال بآلية مقيتة، كما يقول في شهادة له في مجلة نزوى، ينبغي عليه ألا يرى البيولوجيا فقط ويهمل الروح العظيمة التي تتجلى باختلاف عند كل مريض. 'إن سمحت لنفسك بذلك، أذنت لنفسك بالفشل، ولمريضك بالاستسلام والموت'.
من هنا نرى إصراره على بث روح الأمل والتفاؤل في مرضاه حتى أولئك الميؤوس من شفائهم. ذلك أنه من أولئك الذين يحظون برعاية الشخص الذي على وشك الموت، وهم يعرفون – كما يخبرنا إس. موراي باركس في تقديمه لكتاب 'عن الموت والاحتضار' للطبيبة النفسية الأمريكية إليزابيث كوبلر روس (ترجمة عبدالمقصود عبدالكريم) – 'أن المرحلة الأخيرة من الحياة يمكن أن تكون وقت القبول السلمي، وقت الهدوء الذي يتناقض مع التوترات والإحباطات في معركة البقاء على قيد الحياة'. أبرز هؤلاء في حياة عبدالعزيز ربما كان المريض المدعو خالد، بطل قصته 'أخائف من الموت يا أبا هاجر؟' الذي كان قبل يومين فقط من رحيله يضحك وقد اسودتْ عروقه من أثر العلاج الكيميائي، مقدمًا درسًا بليغًا للفارسي: 'علمني الحديث عن الموت بجسارة دون البحث عن وقعه في العيون'، في الحقيقة كل مريض من هؤلاء كان معلّمًا لعبدالعزيز، كما يقول في شهادته آنفة الذكر. 'إنني أتعلم منهم دون توقف، من لغة الجسد والإيماءات، من نظرات العيون، من الدمع، من دقة ملاحظاتهم حول الأشياء الصغيرة التي لم أكن أنتبه لها قبلًا، ومن الابتسامات الصادقة حين يستعيدون أنفسهم، ومن إجاباتهم عن الأسئلة التي تخطر على بالي فجأة وأطرحها عليهم دون تردد'، بل إنه حتى في الكتابة الأدبية تعلّم منهم. إذ كانت قصصه الأولى سوداوية، وغارقة في ذاتيتها، ومليئة بزوائد اللغة. هؤلاء المرضى الشجعان هم من لفتوا نظره 'للجهة الأخرى من العالم، للسماء والشمس، ورؤية الحياة بمنظور متجدد'. منحوه لغة جديدة، كما يقول، وألهموه ملاحظاتهم، وتعلم من نبراتهم الساخرة الكثير.
ربما كانت حساسية الأديب التي يضيفها الفارسي إلى إنسانية الطبيب، هما ما يفسّران صداقته لكثير من المرضى التي استمرت حتى بعد شفائهم. أما أولئك الذين اختارهم الله كخالد فإن رحيلهم يسبب له حزنا كبيرًا، وأول ما يفعله هو الذهاب إلى العزاء، كأي صديق من أصدقاء الميت.
من الحكايات الإنسانية الجميلة في هذا السياق، يروى عبدالعزيز حكاية مريضة مسنّة كان يعالجها، وكانت لا تثق بغيره في تغيير الأدوية الكيماوية لعلاجها من سرطان القولون. وصادف أن عرفتْ المرأة من إحدى الجرائد العمانية أن الطبيب عبدالعزيز الفارسي كاتب أيضًا، بعد أن رأت صورته. صار أولادها يخبرون عبدالعزيز حين يأتون معها لزيارته في عيادة الأورام بأنها باتت تُلزمهم - قبل فرش أي جريدة ليتناولوا عليها الطعام - بأن يفتشوها جيدا ليتأكدوا من خلوها من صورته، وتقول لهم: «لا تأكلوا على وجه عبد العزيز». وحين طمأنها أن الأمر عادي جدا، وأنه ليس مصابا بجنون العظمة، ومن ثم فإنْ لم يأكل أولادها سيأكل غيرهم على صورته وحروفه. قالت له بلهجتها العمانية: «اللي ما تشوفه عيني ما مشكلة. بس ما تهون عليّ أشوف وجهك على الأرض تحت الأكل في بيتي». يروي عبدالعزيز أنه تماسك كثيرا أمامها. ولكنه حين عاد إلى شقته بكى كطفل، ولم يزل يبكي كلما تذكر ذلك الموقف، وظل مدة تزيد عن السنة، منذ سماعه لجملتها، وحتى بعد وفاتها بأشهر، يحرص على ألا ينشر أي شيء في جرائدنا حتى لا يثير حزنها وهي تكتشف أن وجهه تحت الأكل!.
ثمة عبارة موحِية في رواية 'مقبرة براغ' لأمبرتو إيكو تقول: إن' أحاديث الأطباء جذابة لأنها تتناول دائما أوجاع شخص آخر'، لكن عندما تتبدّل الأدوار ويصبح الطبيب مريضًا، سواء تحدث عن ذلك أم لم يفعل، فإن حزننا يكون مضاعفا، لأننا نفقد اليد السخية الممدودة في العتمة لتقودنا إلى الممر المضيء. من هنا نفهم تأكيد هوميروس في إلياذته قبل ألفين وثمانمائة عام أن حياة الطبيب تساوي حياة كثيرين.
اللهم احفظ لنا عبدالعزيز وكل الأطباء.
يدرك عبدالعزيز أن مريض السرطان بالذات يحتاج إلى معاملة خاصة، ينبغي ألا يكون الطبيبُ ذلك الكائنَ الجامد الذي يكرر الأفعال بآلية مقيتة، كما يقول في شهادة له في مجلة نزوى، ينبغي عليه ألا يرى البيولوجيا فقط ويهمل الروح العظيمة التي تتجلى باختلاف عند كل مريض. 'إن سمحت لنفسك بذلك، أذنت لنفسك بالفشل، ولمريضك بالاستسلام والموت'.
من هنا نرى إصراره على بث روح الأمل والتفاؤل في مرضاه حتى أولئك الميؤوس من شفائهم. ذلك أنه من أولئك الذين يحظون برعاية الشخص الذي على وشك الموت، وهم يعرفون – كما يخبرنا إس. موراي باركس في تقديمه لكتاب 'عن الموت والاحتضار' للطبيبة النفسية الأمريكية إليزابيث كوبلر روس (ترجمة عبدالمقصود عبدالكريم) – 'أن المرحلة الأخيرة من الحياة يمكن أن تكون وقت القبول السلمي، وقت الهدوء الذي يتناقض مع التوترات والإحباطات في معركة البقاء على قيد الحياة'. أبرز هؤلاء في حياة عبدالعزيز ربما كان المريض المدعو خالد، بطل قصته 'أخائف من الموت يا أبا هاجر؟' الذي كان قبل يومين فقط من رحيله يضحك وقد اسودتْ عروقه من أثر العلاج الكيميائي، مقدمًا درسًا بليغًا للفارسي: 'علمني الحديث عن الموت بجسارة دون البحث عن وقعه في العيون'، في الحقيقة كل مريض من هؤلاء كان معلّمًا لعبدالعزيز، كما يقول في شهادته آنفة الذكر. 'إنني أتعلم منهم دون توقف، من لغة الجسد والإيماءات، من نظرات العيون، من الدمع، من دقة ملاحظاتهم حول الأشياء الصغيرة التي لم أكن أنتبه لها قبلًا، ومن الابتسامات الصادقة حين يستعيدون أنفسهم، ومن إجاباتهم عن الأسئلة التي تخطر على بالي فجأة وأطرحها عليهم دون تردد'، بل إنه حتى في الكتابة الأدبية تعلّم منهم. إذ كانت قصصه الأولى سوداوية، وغارقة في ذاتيتها، ومليئة بزوائد اللغة. هؤلاء المرضى الشجعان هم من لفتوا نظره 'للجهة الأخرى من العالم، للسماء والشمس، ورؤية الحياة بمنظور متجدد'. منحوه لغة جديدة، كما يقول، وألهموه ملاحظاتهم، وتعلم من نبراتهم الساخرة الكثير.
ربما كانت حساسية الأديب التي يضيفها الفارسي إلى إنسانية الطبيب، هما ما يفسّران صداقته لكثير من المرضى التي استمرت حتى بعد شفائهم. أما أولئك الذين اختارهم الله كخالد فإن رحيلهم يسبب له حزنا كبيرًا، وأول ما يفعله هو الذهاب إلى العزاء، كأي صديق من أصدقاء الميت.
من الحكايات الإنسانية الجميلة في هذا السياق، يروى عبدالعزيز حكاية مريضة مسنّة كان يعالجها، وكانت لا تثق بغيره في تغيير الأدوية الكيماوية لعلاجها من سرطان القولون. وصادف أن عرفتْ المرأة من إحدى الجرائد العمانية أن الطبيب عبدالعزيز الفارسي كاتب أيضًا، بعد أن رأت صورته. صار أولادها يخبرون عبدالعزيز حين يأتون معها لزيارته في عيادة الأورام بأنها باتت تُلزمهم - قبل فرش أي جريدة ليتناولوا عليها الطعام - بأن يفتشوها جيدا ليتأكدوا من خلوها من صورته، وتقول لهم: «لا تأكلوا على وجه عبد العزيز». وحين طمأنها أن الأمر عادي جدا، وأنه ليس مصابا بجنون العظمة، ومن ثم فإنْ لم يأكل أولادها سيأكل غيرهم على صورته وحروفه. قالت له بلهجتها العمانية: «اللي ما تشوفه عيني ما مشكلة. بس ما تهون عليّ أشوف وجهك على الأرض تحت الأكل في بيتي». يروي عبدالعزيز أنه تماسك كثيرا أمامها. ولكنه حين عاد إلى شقته بكى كطفل، ولم يزل يبكي كلما تذكر ذلك الموقف، وظل مدة تزيد عن السنة، منذ سماعه لجملتها، وحتى بعد وفاتها بأشهر، يحرص على ألا ينشر أي شيء في جرائدنا حتى لا يثير حزنها وهي تكتشف أن وجهه تحت الأكل!.
ثمة عبارة موحِية في رواية 'مقبرة براغ' لأمبرتو إيكو تقول: إن' أحاديث الأطباء جذابة لأنها تتناول دائما أوجاع شخص آخر'، لكن عندما تتبدّل الأدوار ويصبح الطبيب مريضًا، سواء تحدث عن ذلك أم لم يفعل، فإن حزننا يكون مضاعفا، لأننا نفقد اليد السخية الممدودة في العتمة لتقودنا إلى الممر المضيء. من هنا نفهم تأكيد هوميروس في إلياذته قبل ألفين وثمانمائة عام أن حياة الطبيب تساوي حياة كثيرين.
اللهم احفظ لنا عبدالعزيز وكل الأطباء.