أفكار وآراء

ماذا يريد وائل حلاق من طه عبد الرحمن؟ «2 ـ 2»

في كتاب د. وائل حلاق (إصلاح الحداثة: الأخلاق والإنسان الجديد في فلسفة طه عبد الرحمن)، اهتم كثيرا بالدكتور طه عبدالرحمن، واعتبره فيلسوفا في هذا العصر -كما أشرنا إلى ذلك في مقالنا الأسبوع المنصرم- وهذا لا نختلف معه فيه في مكانته الفكرية والفلسفية، لكننا نجد أن د.وائل حلاق يريد أن يقول: إن طه عبدالرحمن معه ومع الرؤية الاستشراقية التي يتبناها أيضا، وهي أن الشريعة الإسلامية شريعة أخلاقية، وهذا ما يركز عليها حلاق في أغلب كتبه ودراساته العديدة منذ أكثر من عقد ونصف العقد، مع أن د. طه لا يعد ذلك دقيقا في كل ما يطرحه، ولم يكن هدفه مما يناقشه في مسألة الأخلاق، وهو الطرح الذي انتقد فيه الحضارة الغربية المادية، وبالأخص الحداثة ونموذجها القائم في الغرب، فالشريعة الإسلامية لا تنحصر في الأخلاق فقط، بل تشمل -إلى جانب الأخلاق- المعاملات والحقوق والواجبات، والتدبير السياسي، والنظام العام الخ.. وهذا أشار إليه د.طه في كتبه ودراساته العديدة، ومنها كتابه (روح الدين من ضيق العلمانية إلى سعة الائتمانية)، مع أن د. حلاق يصر على أن «الأخلاق قضية مركزية في الإسلام» وهذا ليس المقصد الأساسي فيما يناقشه طه عبدالرحمن، في كتبه ودراساته أيضًا، وإنما الهدف هو نقد ممارسات الحداثة الغربية وآفاتها السلبية، وتنبيه من انخدع بشعار الحداثة، دون النظر لعيوبها الكبيرة التي وقع فيها الغرب واعترف بذلك د. حلاق نفسه، وباعتراف العديد من مفكري الغرب، ولذلك فإن رؤية عبدالرحمن أخلاقية فقط، دون مقصده وهدفه النهضة والتقدم والترقي الإبداعي، فهذا التقييم ليس صحيحًا، ويرى وائل حلاق في كتابه (إصلاح الحداثة) المشار إليه، معلقا على رؤية د. طه في مسألة (روح الحداثة) كما جاء كتابه المعروف بهذا الاسم، فيقول د. حلاق: «بينما قامت بعض أنماط الحداثة ـ الغربية ـ على إنجازات صناعية واقتصادية، ستقوم الحداثة الإسلامية على الأخلاق». وهذا القول الذي يحوّره حلاق، ليس مقصد طه عبدالرحمن ولا هدفه الأساسي، من تأسيس حداثة إسلامية، وإنما الهدف هو الإبداع المستقل، وليس التقليد والكسل الفكري، وهو ما فصّل فيه بين (روح الحداثة وواقعها)، أو ما أشار إليه طه (بمبدأ الرشد)، ويوضح عبدالرحمن الأمر في هذا الموضوع فيقول: «يسعى الإنسان الراشد إلى أن يُبدع أفكاره وأقواله وأفعاله، وكذا من يؤسس هذه الأفكار والأقوال والأفعال على قيم جديدة يبدعها من عنده أو على قيم سابقة يعيد إبداعها، حتى كأنها قيم غير مسبوقة». إذن طه الرحمن، ليس مقصده انحصار فكر الأمة في الأخلاق، وغيرها من القيم والتشريعات الأخرى، لكن وائل حلاق يريد القول: إن الإسلام لا يملك في تاريخه أو تطبيقاته سوى الأخلاق، أو كما قال في بعض كتاباته (النطاق المر كزي في الإسلام) ! لكن روح الحداثة عند طه عبدالرحمن، مسألة عرفتها كل الحضارات الإنسانية ـ فـ«الأخذ والعطاء»، أما واقع الحداثة الغربي، فهذا الذي يختلف معه د. طه في تقليده واتباعه، دون تمييز بين الروح والواقع، فكل أمة لها نظرتها ورؤيتها الخاصة للنهوض.. أما واقع الحداثة فهذا مما هو مطبق في أوروبا وأمريكا وهذا خيارهم. وهذا ما أطلق عليها طه عبدالرحمن «آفة التطبيق المنحرفة عن روح الحداثة، من خلال واقعها»، ولذلك وائل حلاق انتقد طه عبد الرحمن، عندما ميّز بين روح الحداثة وتطبيقاتها، فحلاق يريد الحداثة دون تغيير في نمط ما هو سائد فيها في الغرب، ويعد ذلك صعب المنال في إقصائه، ففي حوار معه مع «معهد العالم للدراسات» -كريم محمد- يقول وائل حلاق، وكأنه يرد على طه عبدالرحمن في ما قاله في كتابه أهمية قيام (حداثة إسلامية)، وفق فكر الأمة وموصولة بدينها فيقول: «إنّنا لا يمكننا التحدّث من خارج الحداثة، ببساطة لأنّنا لا نستطيع إبستمولوجيّا أن نصلَ مباشرةً إلى واقع خارج الحداثة من داخل الحداثة. فهذه استحالةٌ إبستمولوجيّة. وبالنسبة إلى أحد يدعي مقدرةً كهذه، فإنّ زعمه ذلك يعادل الزعمَ بأنّه يُمكن نقله إلى عالمٍ تاريخيّ آخر، أو أنّ الزمان التاريخيّ يمكن استعادته كتجربة معيشيّة أو مُعاشة. لذا؛ إذا سُمِحَ لنا بتبصّر في جانب من جوانب الواقع الخارج عن الحداثة، فسيكون تبصّرًا، بحكم الواقع، مموقعًا في الحداثة. وعليه، يجب علينا الكفّ عن الوهم أنّنا يمكننا الوقوف خارج الحداثة في نقدها. فليس هناك مساحة نقديّة قائمة في العالم اليوم تقع خارج محيط الحداثة وجوّها، ذلك لأنّ النقد نفسه -كما نعرفه اليوم- قد صِيغَ وشُكِّلَ كظاهرة حداثيّة».

وعبارة «يجب علينا الكف عن الوهم أننا يمكننا الوقوف خارج محيط الحداثة»، أراه كلامًا استشراقيًا بامتياز، سواء كان موجها لطه عبد الرحمن أم لا.. كما أنه من الناحية العلمية والتاريخية، جانبه الصواب ولا يجب أن يقال من باحث يجادل بطريقة الأيديولوجيين الذين يتمسّكون بأفكارهم، ويصرون عليها عند الاختلاف، وكأن ما يقولونه قضية مقدسة، فحركة التاريخ تتغير وتتجدد مضامينها وفق رصيد كل أمة من الأمم في الجانب الفكري والثقافي، وهذا حق الجميع في الاختيار، وليس شرطا أن تكون تابعة لنموذج آخر، أو أن تبقى نسخة معلبّة عند الاقتباس مع المختلف عنها فكريا أوعقديا، وعندما تعّرف الغربيون على العلامة ابن رشد، في فترة الجمود الغربي وتراجعه الفلسفي والعلمي، فإنهم أخذوا منه بضاعتهم الفكرية والفلسفية (فلسفة أرسطو)، وكتب عنه تقديرًا لكن ابن رشد الفقيه، والمتكلم، وصاحب التوحيد الإسلامي، والقاضي الشرعي، فإنه لم يلق اهتمامهم، وهذا ما يجب أن يكون في حياة الأمم والحضارات كلها، في التميز بين ما تأخذ وبين ما تترك، وهو حق لكل أمة في أن تستمسك بهويتها الذاتية، واحترام حقها في الاختلاف الفكري بين الأمم، مثلما حصل مع الغربيين في مسألة ابن رشد كما أشرنا آنفا.

كما أن وائل حلاق لم يشر إلى مسألة ما قدمته الحضارة العربية / الإسلامية للغرب، وتأثيرها في نهضته الحديثة، منذ بدايات النهضة في حركتها للخروج من المأزق والحصار الكنسي للعلم والتقدم في أوروبا، لكنه سكت عن تأثير الإسلام في الحضارة الغربية في تقدمه، بل وتجاهل أثره في هذه النهضة الحديثة، وحاول الغربيون أن يخفوه، وهذا ما أقر به المستشرق الإنجليزي» مونتغمري واط «في كتابه (تأثير الإسلام في أوروبا في العصور الوسطى)، إذ يقول في هذا الكتاب إنه: «بسبب وقوف أوروبا ضد الإسلام، قلّلت من شأن التأثير الإسلامي، وبالغت في اعتمادها على تراث الإغريق والرومان، ولذلك مهمتنا نحن أوروبيي اليوم -حيث ننتقل إلى عصر عالم واحد- تصحيح الاعتقادات الخاطئة، والاعتراف بفضل العالمين العربي والإسلامي». هذا القول من «مونتغمري واط»، وكان يمكن أن يقول هذا د. وائل حلاق، ويعترف أن الحضارات تقتبس من بعضها البعض في الأسس والمنهجيات، لكنه اقترب كثيرًا من الاستشراق في بعض أفكارهم ـ وهذا ما أشار إليه في بعض كتبه، ومنها كتابه (قصور الاستشراق)، وفيه نقد «إدوارد سعيد نقدًا عنيفًا؛ لأنه كشف أغراض المستشرقين غير المنصفين وأهدافهم، وهذا ما سيكون لنا معه نقاش آخر.

ولذلك فإن د/ طه عبد الرحمن محق عندما يرى أن لكل أمة جوابها الخاص، المنطلق من قيمها وميراثها الفكري، ويؤكد أهيمتها للنهضة والتقدم، فيقول د. طه في كتابه (الحق الإسلامي في الاختلاف الفكري): «إن هذا الحق هو الجدير بالجواب الإسلامي، فيما تراه أصوب لمسارها في حاضرها ومستقبلها، وهذا هو الاستقلال في خيارها الفكري والفلسفي، فـ«الأمة لا تكون بحق حتى ترتقي بالجواب عن أسئلة زمانها إلى رتبة الاستقلال به، إذ ليس لها إلى امتلاك ناصية هذا الزمان من سبيل إلا الجواب المستقل، وإلا صار ملكه إلى أمة سواها، فتُضطر إلى أن تجيب بما تجيب به هذه، مُسلَّمة، وهي راغمة، قيادها إليها، فلنسأل إذن «هل للأمة المسلمة جوابها الخاص عن أسئلة زمانها؟».

وفي حوار تلفزيوني مع إحدى القنوات العربية، كرر د/ طه، نقده للتقليد، وسماه «الابتذال في التقليد»، فيقول: «الحداثة ما معناها كما قلت مرة، هي روح العصر، يعني أنك تريد أن تكون في عصرك مسايرًا لمقتضياته وهكذا.. فكل زمان كأنه لو يريد أن يكون في زمانه، ففعل الحداثة كفعل تاريخي، لا يمكن أن نحدده في فترة معينة، بل له امتدادات.. امتدادات في الماضي، جذور في الماضي، وامتدادات في المستقبل، فإذا هذه نقطة في غاية الأهمية، فروح الحداثة في الإنسان أنه يكون حاضرًا في زمانه، يكون مبدعًا في زمانه بالمعنى الذي ذكرت، يعني ابتكارًا يحقق القيمة الجمالية في هذا الابتكار، وأنا أعتبر أن الحداثة واجب عيني، أقول بكل صراحة واجب عيني بالمعنى الذي حُددت إبداع، إنشاء، وجمال، يعني لماذا الجمال؟ ربما البعض يقول المسألة ليست مسألة جمالية، لا يا سيدي، المقصود هنا بعملية الإبداع هي عملية جمالية أصلا، أن تنشئ الجديد وتولد، وتبدع، وتخرج أمورًا يندهش لها الإنسان.. الآخر يتلقاها وكأنها تأتيه بقيم جديدة».

إنني أتفق مع د. حيدر العايب في مقاله (الأخلاق من الهامش إلى المركز)، ومؤلف كتاب:(العلمانية والحداثة: وأزمة العقل الديني في الغرب) أن د. حلاق يفكر للغرب، واتسمت نقاشاته باصطفاف مع المفكرين الغربيين، فيقول: إن لدى بعض المفتونين:»بسباق التصنيفات المانوية مفادها أنّه ذي أصول عربية مهتم بالتراث العربي والإسلامي وبالضبط المدونة الأصولية والفقهية الإسلامية بيد أنّه كمفكِّر وأكاديمي ولاهوتي مسيحي يموضع ذاته ضمن نطاق الحضارة الغربية المعاصرة، فالرّجل يفكِّر للغرب ويتفاعل مع قضاياه الأنطولوجية والقيمية والسياسية الراهنة، كما أنّ مسعاه الفكري يُضاف إلى مسعى المفكرين الغربيين المعاصرين الإنجلوسكسونيين منهم على نحو أخص». وهذا ما يجب أن يدقق فيه بعض ممن اعتقد أن د. حلاق الأكثر انحيازا للإسلام وتشريعاته ونظمه!.