أفكار وآراء

أوكرانيا والقطبية المتعددة

الحدث السياسي الأبرز الذي فرض نفسه على المشهد الدولي هو موضوع أوكرانيا والصراع المحتمل مع روسيا الاتحادية والضغط الأمريكي والغربي إعلاميا حول مسألة الغزو الروسي للأراضي الأوكرانية، وهو هدف من الصعب الجزم به في ظل المعطيات الاستراتيجية والاقتصادية التي تخص موسكو تحديدا، ويبدو أن الولايات المتحدة الأمريكية والدول الغربية أرادت شن تلك الحملة غير المسبوقة حول حتمية الغزو العسكري الروسي لأوكرانيا.

ولعل مظاهر الدعم العسكري الغربي لكييف يعطي مؤشرًا أن الغزو العسكري قادم لا محالة، وهو احتمال حتى الآن يتضاءل مع تقدم الحل الدبلوماسي.

ومن هنا يبرز سؤال مهم حول البواعث الحقيقية لتلك الحملة الغربية إعلاميا حول حتمية الغزو العسكري الروسي لأوكرانيا أو أجزاء منها على الأقل.

الأمن القومي الروسي

بعد تفكك الاتحاد السوفييتي السابق عام ١٩٩١ وظهور الجمهوريات الجديدة منها جمهوريات آسيا الوسطى وجمهوريات البلطيق وعدد آخر من الجمهوريات ذات العرق السلافي المرتبط بالروس برزت مسألة في غاية الأهمية، وهي مسألة تحصين الأمن القومي الروسي مع تمدد حلف الناتو تجاه دول أوروبا الشرقية كبولندا مثلا، ومن هنا فإن تمدد حلف الناتو أثار هاجس القيادة الروسية، وكان من الصعب تقبل فكرة وجود أوكرانيا كعضو في حلف الناتو وهي تجاور روسيا الاتحادية وعلى ضوء ذلك جاء الرد الروسي حاسما من خلال حشد القوات العسكرية على حدود أوكرانيا والذي جعل الولايات المتحدة الأمريكية والدول الغربية تتحدث عن غزو روسي وشيك.

ومن هنا بدأت الآلة الإعلامية الغربية تركز على هذا الجانب، وبدأ تدفق السلاح على أوكرانيا من العواصم الغربية ورغم نفي موسكو عن نيتها غزو كييف إلا أن الإثارة الإعلامية الغربية تواصلت.

الأمن القومي الروسي لا شك أنه خط أحمر ومن الصعوبة تقبل الجمهوريات السوفييتية السابقة خاصة ذات الامتداد الجغرافي مع روسيا الاتحادية أن تكون أعضاء في حلف الناتو بما يشكله ذلك من مخاطر حقيقية للأمن القومي الروسي.

ومن هنا فإن موسكو أرادت إيصال رسالة واضحة لواشنطن والعواصم الغربية بأنها لن تقبل وجود أوكرانيا عضوا في حلف الناتو، وهنا تكمن المعضلة، كما أن المشهد السياسي بين روسيا الاتحادية والغرب خاصة الولايات المتحدة الأمريكية قد أوجد مقاربة سياسية جديدة، وهي مسألة النظام العالمي الجديد بعد الحرب الباردة في ظل وقوف عملاق آسيا الصين مع روسيا الاتحادية خاصة بعد زيارة الرئيس الروسي بوتين لبكين مؤخرًا.

القطبية المتعددة

الصراع المحتدم بين أوكرانيا وروسيا الاتحادية والمشاركة الواسعة للدول الغربية والخوف العالمي من اندلاع حرب عالمية ثالثة كما أشار إلى ذلك الرئيس الأمريكي بايدن يفرض على الساحة السياسية الدولية أهمية إيجاد نظام دولي متعدد الأقطاب.

وفي تصوري أن الأزمة الأوكرانية ونتائجها قد أوجدت مشهدًا سياسيًا جديدًا، وأن نظام القطب الأوحد الأمريكي في طريقه إلى التلاشي من خلال إيجاد منظومة قطبية متعددة تظهر فيها القوى الصاعدة كالصين وروسيا الاتحادية والهند والبرازيل وغيرها من الدول ذات النفوذ الاستراتيجي.

إن بقاء الولايات المتحدة الأمريكية كقطب وحيد في العالم لم يعد مجديا في ظل المتغيرات الاستراتيجية والاقتصادية وفي ظل صعود القوى الجديدة، وقد أظهرت أزمة أوكرانيا أن واشنطن لا يمكنها حل الأزمات الإقليمية بمفردها ولعل الأزمة في أفغانستان أظهرت ذلك، حيث احتاجت واشنطن إلى المساعدة من عدد من الدول، وفي مقدمتها دولة قطر الشقيقة لترحيل آلاف الناس من عسكريين ومدنيين من العاصمة الأفغانية كابول في مشهد لا يزال يثير الدهشة من خلال الفوضى التي عمت أفغانستان في أعقاب سيطرة حركة طالبان على المدن الأفغانية واحدة تلو الأخرى وهروب الرئيس الأفغاني السابق.

النظام المتعدد القطبية يعد ضمانة للأمن الدولي وإرساء السلام وحل الصراعات والحروب من خلال توافق جماعي بعيدا عن القطبية الأحادية، كما هو الحال الآن مع القطب الأمريكي وجاءت الأزمة في أوكرانيا لتعطي هذا الانطباع، لأن الحديث عن إمكانية اندلاع الحرب العالمية الثالثة يثير الرعب والفزع في أوساط العالم شرقه وغربه لأن ذلك يعني التدمير الشامل للجميع.

تكلفة الغزو الروسي

الغزو العسكري الروسي لأوكرانيا مكلف عسكريًا واقتصاديًا ومن هنا لم تكن روسيا تريد الإقدام على خطوة الخيار العسكري ولكنها أرادت توجيه رسالة إلى حلف الناتو أن وجود أعضاء من الجمهوريات السوفييتية السابقة على حدودها يعد من الأمور التي تشكل خطرًا كبيرًا على أمنها القومي وهذه مقاربة واقعية سواء مع روسيا الاتحادية أو مع أي دولة تتطابق ظروفها مع موسكو، ويبدو أن هناك أهدافًا غير معلنة للحملة الإعلامية الغربية.

ومن هنا فإن مسألة طلب موسكو آليات أمنية تبدو منطقية وهناك مسار دبلوماسي يلوح في الأفق، وسوف يتضح أن تلك الأزمة كانت فقط للحرب النفسية والوصول إلى أهداف استراتيجية وربما دفع موسكو بشكل غير مباشر للإقدام على الخيار العسكري لتنفيذ الخطة الغربية خاصة فيما يخص إمداد الغاز لأوروبا.

ومن هنا فإن الجانب المعلن للأزمة الأوكرانية ليست هي كل شيء، وربما تكون الجزء الأقل ومن هنا فإن مشهد الإثارة سوف ينتهي وسوف تبقى العلاقة بين الحكومة الأوكرانية والحكومة الروسية هي التي سوف تشكل المشهد السياسي في هذه المنطقة الاستراتيجية من الاتحاد السوفييتي السابق، كما أن هناك عددا من الأوراق لدى موسكو تجاه الجمهوريات منها وجود العرق الروسي والانفصاليين، كما هو الحال في أوكرانيا ومع ذلك فإن الأزمة الأوكرانية قد خلقت واقعًا جديدًا في السياسة الدولية وقد تسرع من انطلاق النظام المتعدد القطبية.

عوض بن سعيد باقوير صحفي وكاتب سياسي