أعمدة

تأملات حول الجائحة

WhatsApp-Image-2021-08-31-at-9.36.27-PM
 
WhatsApp-Image-2021-08-31-at-9.36.27-PM
كان ذلك في بدايات جائحة كورونا، عندما تمكنتْ صديقتي من العودة إلى ألمانيا حيث تقيم وتواصل دراستها العليا، استطاعت السفارة الألمانية في مسقط تدبير رحلة للعالقين هنا، وكان ذلك استثنائياً، اذ أن المطار مغلق وتم إلغاء كل الرحلات. أخذتها للمطار عند الساعة التاسعة ليلاً تقريباً، لكننا فوجئا فور وصولنا بمشهد جعلني أرتعدُ خوفاً كانت أضواء مطار مسقط المنيرة في العادة والمتوهجة مطفأة بالكامل، لم يكن هنالك أي ضوء سوى نور خافت يصدر عن أحد الأبواب وهذا النور قادم من داخل الصالة. أتذكر مشاعري جيداً، لقد أحسستُ بأن الكثير قد تغير، وبالخوف من أن العالم لسنوات لن يعود كما كان عليه، ستصبحُ المسافات التي شعرنا بأننا تمكنا من قطعها بسهولة طيلة عقود بأنها متوترة ومرتبكة اذ لا يمكننا مثلاً أن نكون في مكان آخر إذا قررنا في هذه اللحظة أن نفعل.

الكثير ممن هم حولي لا يعرفون كيف كانت الحياة قبل الجائحة، لا يتخيلون شكلاً آخر لحياتهم عدا هذا الذي نعيشه الآن، وسمته الأساسية الترقب، عند سماعنا بمتحور جديد، تصبحُ هذه هي المادة التي نتداولها عبر 'الواتس آب' حتى اليوم، هنالك متحور جديد يبدو أكثر خطورة اقرأ هنا، ننتظر تعليق منظمة الصحة العالمية، ثم ما ستقوله اللجنة العليا المسؤولة عن مواجهة تفشي كورونا هنا، لديّ أصدقاء خارج عمان كنتُ ألتقيهم مرتين في العام على أقل تقدير، يبدو هذا الآن مثل أمنية من الصعب تحقيقها. وعلى ذكر التغيير أفكر دوما في أولئك الذين لا يمتلكون هواتف ذكية، كيف يتعاملون مع تفعيل تطبيقات متابعة حالتهم الصحية عبر الهاتف، قد نكون مختلفين هنا في عمان، لكن دول الخليج الأخرى مثلاً تطلبُ منك التسجيل في تطبيق ولا تستطيع حتى أن تطفئ وصوله لموقعك باستمرار، وهنالك آليات يتم بها تحريك صورتك ووضع التاريخ حتى لا يستطيع أحد أن يلتقط صورة للشاشة ويعرضها على أنها بياناته المتعلقة بالتحصين والإصابة من عدمها بالمرض.

وكما يقول أحد شعرائي المفضلين محمد الثبيتي: 'ماذا هُنا للمُسْتَجيرِ مِنَ الهَجِيرِ؟ طَعَامهُ ورقٌ ماذا هُنا للمُسْتَجيرِ مِنَ الهَجِيرِ؟ مَنَامُهُ أَرّقٌ ماذا هُنا للمُسْتَجيرِ مِنَ الهَجِيرِ؟ مُدَامُهُ موسيقى'. لجأتُ للكتابة والقراءة كالعادة، قد لا يبدو هذا مفاجئاً لمن يقرأ هذه المساحة التي أكتب فيها منذ فترة لا بأس بها. مثل كثيرين غيري، عدنا لقراءة أدب الديستوبيا بصورة أكثر كثافة، وكذلك أدب الأوبئة والكوارث، لكنني مؤخراً كلما حدث أن شعرت بالقلق من إدراكي للواقع كي لا تختبئ في داخلي طبقات من الإنكار أو التوهم ويصعب عليّ التعامل معها مع مرور الوقت، بدأت بقراءة تدوينات الناس الذين يشبهونني في العالم حول ما يرونه يتغير باستمرار.

اتضح لي أن نشاطي هذا، بخصوص التعامل مع كل المتغيرات بالإضافة لرغبتي في البقاء على إطلاع بأي مستجدات متعلقة بالجائحة بسبب طبيعة عملي في الإذاعة وتقديمي لبرنامج مباشر ويومي، لم يكن كل ذلك خاصا بطبيعة الحال، فكثير من مواقع التدوين الطويل العالمية، ولا أقصد بذلك منصات التدوين القصير مثل تويتر وغيرها، مليئة بحراك مهم أجزم بأنه ومع مرور الوقت سيصبح منبعاً للعديد من الدراسات خصوصاً في العلوم الإنسانية، فالناس بأنفسهم يجرون بحوثا شخصية وينشرونها حول الوباء، يقل دور المؤسسات ويكاد يختفي، أحدهم يواصل باستمرار تقديم شروحات عن علم البيانات وكيف يمكن استثماره عبر خرائط مفصلة في تتبع انتشار الفيروس، دراسة أخرى فاجأتني، حول تأثير فيروس كورونا على مبيعات المشروب الكحولي 'كورونا'، الصفحة التالية مباشرة في منصة 'ميديوم' عن كوميكس كورونا، المواد التي تتحدث عن الاقتصاد خصوصاً للمشاريع الصغيرة التي يعمل فيها المدونون في هذه المنصات كان لها نصيب كبير من الكتابة، يوجهون تدويناتهم بصورة خاصة لرواد الأعمال، أحد هذه التدوينات يقول فيها كاتبها: أصيب العالم بما سيعرف باسم 'البجعة السوداء' في عصرنا بمجرد انتشار الوباء، وانجر الاقتصاد إلى حالة من الركود، أريد استخدام تجربتي الخاصة والتقاطع مع الأدبيات المرتبطة بهذا الموضوع قياسا بما حدث عند انتشار وباء الحمى الإسبانية والإحصائيات الصادرة عن مختلف الدول هذا العام حول التفاعل مع قرارات الإغلاق وانعكاسها على السوق.'

على الجانب الآخر وفي متابعة لأحدث الدراسات المرتبطة بـ 'علم نفس الأوبئة' قرأتُ مقدمة وفصولا من كتاب'Psychiatry of Pandemics ' A Mental Health Response to Infection Outbreak تذهب المقدمة إلى وصف حالة التأخير الكبيرة في التعامل مع موضوع الاضطرابات النفسية الفردية والجماعية التي تُحدثها الأوبئة، ربما لأنه وما أن تنتهي حتى لا يعود الناس بحاجة لتذكر هذه التجربة القاسية على أكثر من صعيد، بالإضافة إلى أننا نطردها عن أذهاننا كطريقة للتكيف مع العالم. في دراسة أخرى حديثة صدرت عام 2021 حول علم النفس الإيجابي في الجائحة لحماية وتعزيز بناء الصحة العقلية، ونشرت في مجلة The Journal of Positive Psychology خرجت هذه الدراسة بنتائج مثيرة للاهتمام حول دمج عناصر من علم النفس الإيجابي في التدخلات الطبية للمصابين أو من يعانون من ارتكاسات سببتها الجائحة مع التدخلات الطبية الأخرى، وساعد ذلك الناس على إيجاد معنى أكثر تماسكا كما وفر لهم المعلومات للتأقلم والانخراط في إعادة التركيز الإيجابي لهذه التجربة وإعادة تقييمها، كان هذا البحث قد انطلق من الدلائل الإرشادية العالمية لأوبئة الإنفلونزا التي قدمتها منظمة الصحة العالمية عام 2017 حول الحاجة لمعالجة الأمراض النفسية للوباء. من جانبها قدمت جامعة سنترال فلوريدا ممثلة بقسم علم النفس فيها دراسة حول تأثيرات ألعاب الفيديو وجائحة كورونا نشرت هذه الدراسة عام 2021 وذلك ضمن خطة متكاملة تسعى لتعميق الرؤى الميدانية في علم الصحة المهنية تحديداً والنظر في تهديدات السلامة والرفاهية المهنية، على عكس الكلام الذي نتداوله عن ألعاب الفيديو وقدرتها على عزلنا اجتماعياً وخوفنا منها، تشير هذه الدراسات ودراسات أخرى إلى أن التفاعل الاجتماعي عبر هذه الألعاب هو إحدى ميزاتها، اذ تمكن هذه الألعاب من الدمج الاجتماعي افتراضيا على الرغم من العزلة الجسدية لفترات طويلة.

والأدب الذي لا أستغني عنه مطلقاً في حالات مماثلة لا لأنه قدم لي أعمالاً مهمة عن الأوبئة عبر التاريخ بل لقدرته على وضعي اليوم في قلب ما يحدث، شعرتُ بذلك بنفسي وأنا أكتب قصة وجدتُ أن طيف الوباء يمكث رابضا في خلفيتها، كما توقفت كثيرا عند مقطع من رواية 'ماكيت القاهرة' التي صدرت عام 2021 للمصري طارق إمام والتي رشحت لجائزة هذا العام للرواية العربية التي لم تصدر نتائجها بعد، عندما كانت إحدى شخصياته تعيش في عام 2020 بينما الكمامات تتطاير في شوارع القاهرة. إن هذا كله ربما يكون شكلا من تكيفنا مع ما يحدث، محاولة فهمه والاقتراب منه، سواءً كان ذلك عبر مبادرات فردية كما أشرت أو عبر العمل المؤسسي.

* أمل السعيدي كاتبة وقاصة عمانية