أعمدة

سَفَرُ مخطوط عماني وحيدا

البحث.. كل يوم يوقفك على جديد، فيضيء بقعة في ذهنك لم تكن تبصرها. إنَّ تتبع الضياء المنبعث من قناديل الأسلاف؛ يجعلك تعيد ترتيب أفكارك في قالب منهجي جديد، وهو عمل وإن كان شاقًا إلا أنه شائق، فسَفَر المعرفة ممتع، ولا تمل وأنت تجوب عالمها. كل لحظة تمر أمام نوافذ عقلك هي صورة من مشهد متفرق، تعمل على صفِّه، باذلًا جهدك على إكماله، ولا تترك نفسك حتى تؤدي زكاة هذا المكسب الوفير، فتخرج حقه للناس، وما حقه إلا أن تضع المشهد أمام أعينهم. وهذا ما أجدني مدفوعًا إليه كلما وقفت على جديد المعرفة، وهذه المرة.. مع مخطوط عماني، عمره حوالي 350 سنة، فكاتبه سالم بن عبدالله الحمسعيدي توفي حوالي عام 1100هـ.

والمخطوط.. من الحجم المتوسط، أبعاد صفحته 14×25سم، وكانت أكبر من ذلك، وعند ترميمه قُطعت أطرافه، كما أفادني بذلك مالك المخطوط الدكتور عبدالملك الهنائي؛ الذي آل إليه من والده الشيخ عبدالله بن زاهر. وما عدا ذلك.. فورق المخطوط رغم ترميمه لم يُمَس، ولم يُستبدل غلافه، وبقي سليمًا، فورقه مقوّى وغلافه مصنوع من لوح صلب غُلِّف بالجلد، وعليه من الجهتين: الأمامية والخلفية إطار مزخرف، وبداخله زخرفة على الزوايا الأربع، وفي الوسط زخرفة بيضوية الشكل. وبغلافه الخلفي «لسان» لقفل الكتاب والحفاظ عليه، وهذا النمط هو السائد في المخطوطات العمانية. والغلاف.. أثناء الترميم بُطِّن من الداخل ببطان من الجوخ، وبورق مقوّى، شمل في البداية؛ لوح الغلاف والصفحة التي تليه، وفي النهاية؛ لوح الغلاف والصفحة التي قبله.

المخطوط.. كتب بقلم جميل، لا تمل العين من حسنه. وهو قلم الحمسعيدي في الكتابين اللذين يضمهما المخطوط، للتشابه الكبير بين خطيهما، بيد أنه كتبهما في وقتين مختلفين، حيث توجد بعض الفوارق في رسم الخطين؛ بما يفرضه مرور الزمن. كما يوجد فرق في نوع ورق الكتابين، وأثر للرطوبة يظهر على الأول منهما دون الآخر، وربما أضافهما الحمسعيدي بعد خطه لهما، وقد تكون إضافتهما بعد حياته. وهذا وصف الكتابين:

الأول: موضوعه.. إقامة اللسان على النطق الصحيح بالقرآن، وكشف اللحن الذي يقع فيه قارئه. وعنوانه في مخطوطنا العماني «نبذة من تجويد اللفظ بالقرآن»، تأليف أبي الحسن علي بن جعفر الحذّاء السعيدي الرازي، من علماء القرن الرابع الهجري، عاش في العراق، ثم انتقل إلى شيراز بفارس. وأما عنوان الكتاب عند المشتغلين بالتجويد والقراءات فهو «التنبيه على اللحن الجلي واللحن الخفي». وهو ما اعتمده محققه غانم قدوري الحمد المدرس في كلية الشريعة بجامعة بغداد. وبمقارنة النسخة العمانية بالتحقيق؛ فإن أهل الاختصاص لم يطلعوا عليها، وهذا يعني أنها مذ كتبت كانت ترحل وحيدة، وأما الآن وقد عرفناها فأرجو أن توفر فرصة لتحقيق جديد مقارن.

ما يميّز النسخة العمانية أن خطها واضح جميل يفوق خطوط النسخ التي اُعتمدت في التحقيق، إلا أن بينها فوارق، فمثلاً.. الكتاب في نسخته العمانية يبدأ بـ(بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله وحده، وصلى الله على محمد وآله وسلّم كثيراً...)، وينتهي بـ(...والبيان في القراءة أن تخفف الصوت في ماء الاسم وتشدد الصوت في «ماء» النفي، وتمد الصوت في «ماء» التعجب، وتجعل الصوت بين التخفيف والتشديد، ولا تبين في القراءة إلا ما ذكرت). وفي النسخة المحققة: يبتدأ بـ(قال الشيخ أبو الحسن علي بن جعفر بن محمد المعروف بالسعيدي رضي الله عنه، بحمد الله نبتدئ وإياه نستهدي والصلاة على نبيه المهتدي محمد ومن به نقتدي)، وينتهي بـ(والسادس عشر: من الخياشيم وهي النون الخفيفة. تم كتاب التنبيه بحمد الله وعونه وحُسن توفيقه). بالإضافة إلى فوارق عديدة أخرى تمثّل أهمية لدى المختصين والمحققين.

الكتاب.. يقع في 11 ورقة، وورقه أرقّ من ورق كتاب «منهاج السلامة»، وقد سرت الرطوبة إلى جزئه العلوي، وبدأت الأرضة «الرمة» تأكله، دون تأثير على مادته العلمية. وهو خالٍ من الدمغات التي عادة ما تقع في المخطوطات، وبهوامشه الجانبية بعض الكلمات الاستدراكية التي نسيها الناسخ عند نسخه الكتاب، ثم عاد لإثباتها عند المراجعة. ولا توجد زخارف في صفحاته.

والكتاب.. مقسّم إلى أبواب، بحسب الحروف التي تطرق إليها في موضوع اللحن، وفي بعض الأبواب فصول. وقد كتبت الأبواب والفصول بالمداد الأحمر، وكذلك.. بعض الكلمات التي يراد لفت النظر إليها. وبالكتاب فواصل؛ عبارة عن دوائر صغيرة بالمداد الأسود، ملئت بالمداد الأحمر.

الثاني: «منهاج السلامة في أحكام الإمامة» لسالم بن عبدالله الحمسعيدي النزوي، والكتاب.. في طور النشر. وهو يقع في حوالي 144 ورقة، وورقه أقوى من الكتاب الأول، وسليم من الرطوبة والأرضة «الرمة». وليس له مقدمة ولا به خاتمة، فهو يبدأ بالبسملة ثم الباب الأول، ويختم بالباب الأخير، ولا توجد في صفحاته زخارف.

والكتاب.. مقسّم إلى أبواب؛ عددها 67 باباً، ولا توجد بالباب فصول، وأبوابه كتبت أيضاً بالمداد الأحمر، لكن لا توجد كلمات -غير الأبواب- ميّزت به، إلا أنه يكثر فيه وضع خط أحمر فوق بعض العبارات؛ خاصةً.. بداية الأقوال المنقولة. وبالكتاب فواصل؛ وهي أيضاً عبارة عن دوائر صغيرة بالمداد الأسود، ملئت بالمداد الأحمر.

لم أجد للمخطوط نسخة أخرى، وقد فتشت كثيراً، بل لم أجد «للمنهاج» ذكراً في المراجع التي طالعتها، إلا في موقع «تادارت» الإلكتروني، وما ذكره الموقع أخذه من الدكتور محمد صالح ناصر الذي عمل على تحقيقه دون نشره قبل 20 عاماً. إن بقاء المخطوط بين أيدينا حتى اليوم، واحتفاظ خزنة الشيخ الهنائي به يعتبر أمراً فريداً وثروة لا تقدّر بثمن، فلولا حفظه لما عُرف للشيخ الحمسعيدي كتاب غير «نهج الأبرار».

وكما كان الكتاب مجهولاً؛ فالطريق الذي تنقل عبره معمّى، إلا أنه بتاريخ: 12/12/2021م وصلتني من الأستاذ فهد بن علي السعدي أوراق، مكتوبة بقلم الشيخ خميس بن جاعد الخروصي(ت:1307هـ). وبعد قراءتها.. تبيّن أنها تشتمل على باب (في أحكام الجبابرة والرفعان إليهم والشهادة عندهم) وباب (في أخذ الجائزة من الجبابرة)، وقد قارنت بينها وبين المخطوط، فلم أجد إلا اختلافاً طفيفاً. إنَّ هذه الأوراق فتحت أمام البحث تصوراً حول طريق سَفَر المخطوط، فقد عرفنا محطة من محطات تنقله، وهي محطة تؤكد -حتى الآن- بأنه لا دلائل على وجود نسخة أخرى له، فالسعدي.. وهو المختص في المخطوطات العمانية أكد بأنه لم يجد أية إشارة أخرى لذكر مخطوط «منهاج السلامة» غير هذه الأوراق بخط الخروصي، والتي عثر عليها السعدي في خزانة خاصة ضمن «مجموع» يحوي بعضاً من الأعمال العلمية؛ منها («نبذة في تجويد اللفظ بالقرآن»، لأبي الحسن علي بن جعفر الحذّاء.. ثم البابان: الباب السابع والخمسون والباب الخامس والستون من كتاب «منهاج السلامة») بخط الشيخ خميس بن أبي نبهان.

بالمقارنة.. بين مخطوط الحمسعيدي ومخطوط «المجموع» للخروصي، فالخروصي نقل من مخطوط الحمسعيدي الذي كتبه بيده، فكلاهما يضمان «النبذة» و«المنهاج»، فلو كان البابان قد نقلهما الخروصي من مخطوط آخر لبعُد أن يكون من ضمنه «النبذة». وبهذا أستطيع أن أقرر بأن المخطوط وهو في طريقه إلى مكتبة الدكتور الهنائي قد مرَّ على خزنة آل أبي نبهان جاعد بن خميس الخروصي.

إن تتبع رحلة المعرفة لا يوقفنا على حركتها داخل الأسفار فقط، وإنما يطلعنا كذلك على أهم البيوت العلمية، وعلى النشاط العلمي للبلدان التي اهتمت به، وعلى المدة الزمنية التي نشط فيها العلم في تلك البلدان، وبذلك.. يمكن للباحث أن يرسم خطاً زمنياً ومكانياً للحركة العلمية. وهذا من أهم ما ينبغي أن تهتم به الدراسات الثقافية.