بوتن في مستنقع أوكرانيا
السبت / 3 / رجب / 1443 هـ - 19:57 - السبت 5 فبراير 2022 19:57
يستعرض الرئيس الروسي فلاديمير بوتن على نحو منتظم مهاراته في رياضة الجودو وغير ذلك من فنون الدفاع عن النفس. يعتمد النجاح في هذه الرياضات غالبا على ما يسميه اليابانيون 'كوزوشي' ــ إفقاد الخصم توازنه من خلال توظيف أساليب مصممة لإرباك توازن الخصم بدنيا وذهنيا.
سعى بوتن إلى الإخلال بتوازن الولايات المتحدة وحلفائها في منظمة حلف شمال الأطلسي من خلال حشد أكثر من 100 ألف جندي روسي على الحدود الأوكرانية. لـم يُـخـف بوتن اعتقاده بأن روسيا وأوكرانيا مرتبطتان عضويا، وربما يرى في إعادة تأسيس هذه العلاقة طريقة لترسيخ إرثه من خلال إزالة العار المفترض الذي لحق بروسيا في العقود التي أعقبت انهيار الاتحاد السوفييتي.
ربما تصور بوتن أن تهديد أوكرانيا قد يزعزع استقرارها ويوفر الفرصة لإسقاط الحكومة الحالية المؤيدة للغرب وتنصيب حكومة أكثر مراعاة لرغبات الكرملين. والأرجح أن بوتن رأى أن حشد القوات من شأنه أن يرهب الولايات المتحدة ورئيسها الجديد نسبيا جو بايدن ويحمله على قبول عودة أوكرانيا إلى مجال النفوذ الروسي.
انسحبت الولايات المتحدة للتو من أفغانستان على نحو فوضوي وغير مشروط تقريبا. وأفلت بوتن إلى حد كبير من العقاب بعد ضم شبه جزيرة القرم في عام 2014. ولم يدفع الرئيس الصيني شي جين بينج ثمنا يُذكَر مقابل دحر الديمقراطية في هونج كونج. ولهذا، بدت الولايات المتحدة من بعيد ضعيفة، ومنقسمة، ومنغلقة على الذات.
أضف إلى هذا عدم احترام بوتن لحلفاء أميركا الأوروبيين. بعد أن اتخذت ألمانيا قرارا تنقصه الحكمة بالتخلص التدريجي من الطاقة النووية، سمحت لنفسها بأن تصبح أكثر اعتمادا على الغاز الروسي، وكما كانت حال ألمانيا الغربية في كثير من الأحيان خلال الحرب الباردة، تشعر ألمانيا الآن بعدم الارتياح في مواجهة الكرملين. علاوة على ذلك، بدأ بوتن حشده العسكري مع اقتراب فصل الشتاء، عندما تعطي درجات الحرارة المنخفضة وأسعار الوقود المرتفعة الكرملين ميزة إضافية. وكان الفرنسيون يركزون على انتخاباتهم الرئاسية المقبلة، بينما كانت المملكة المتحدة منشغلة بجائحة مرض فيروس كورونا، والخروج من الاتحاد الأوروبي، وسلوك رئيس الوزراء بوريس جونسون.
بالإضافة إلى كل هذا، اتخذ بوتن خطوات يرمي بها إلى الحد من نقاط الضعف التي تعيب روسيا، وخاصة العقوبات الاقتصادية. في شهر ديسمبر 2021، سجلت احتياطيات النقد الأجنبي في روسيا مستوى غير مسبوق بلغ 360 مليار دولار، في حين عملت أسعار النفط المرتفعة على توليد عائدات كبيرة للحكومة. ومن الواضح أن الصين، التي تقدم بالفعل الدعم الدبلوماسي، تستطيع أن تقدم المساعدة المالية إذا احتاج إليها الكرملين.
ولكن برغم أن بوتن هو الذي اختلق أزمة أوكرانيا على اعتقاد منه بأنه يتمتع بميزة واضحة في مواجهة الغرب، فقد ارتكب خطأ قد يخلف عواقب خطيرة حتى على ممارس ماهر لفنون القتال: الاستهانة بالخصم.
في حين صرح بايدن وحلف شمال الأطلسي (الناتو) بأنهما لن يتدخلا بشكل مباشر لصالح أوكرانيا، فإن هذا لا يعني قبول الهيمنة الروسية. الواقع أن الولايات المتحدة نظمت استجابة شاملة. فقد أرسلت الأسلحة إلى أوكرانيا لزيادة التكلفة التي قد تتكبدها روسيا نتيجة لأي غزو أو احتلال. ولا يخلو الأمر من خطط لتحصين البلدان الأعضاء في حلف شمال الأطلسي الأقرب إلى روسيا. والآن يجري التجهيز لفرض عقوبات اقتصادية كبيرة. كما ستعمل خطة تحويل مسار الغاز إلى أوروبا على التعويض جزئيا عن الخسارة المحتملة للإمدادات الروسية.
كل ما سبق يعني أن هجمة بوتن الأولية فشلت في توجيه ضربة حاسمة. ومن الواضح أن من يزعمون أن رئيس روسيا يتلاعب بالغرب كيفما شاء يرون الأمور مقلوبة. لقد وضع بوتن نفسه في موقف لا يُـحـسَـد عليه: فهو إما أن يتجه إلى التصعيد أو يبحث عن طريقة للتراجع تحفظ له ماء وجهه.
تصرفت الولايات المتحدة بحكمة عندما زودت بوتن بـمَـخـرَج دبلوماسي. قد يستلزم هذا الاستعانة ببنية جديدة للمساعدة في تعزيز الأمن الأوروبي، فضلا عن ترتيبات للحد من التسلح والتي من شأنها أن تحد من نطاق وموقع مجموعة من أنظمة التسليح. إن عملية مينسك، بعد إعادة تنشيطها وتنقيحها، كفيلة بتمكين السعي إلى التوصل إلى تسوية سياسية في شرق أوكرانيا تتيح قدرا كبيرا من الاستقلالية لسكان المنطقة (كثير منهم من أصل روسي) والاستعاضة عن الجنود الروس بقوات حفظ السلام الدولية. أشارت الولايات المتحدة أيضا إلى أن أوكرانيا لن تلتحق بعضوية منظمة حلف شمال الأطلسي في أي وقت قريب.
ليس من المؤكد ما إذا كانت هذه النتيجة لتُـرضي بوتن. فهو لن يسمع ما يريد أن يسمع ــ وهو أن أوكرانيا لن تتمكن أبدا من الانضمام إلى الناتو، أو أن قوات الناتو ستنسحب إلى حيث كانت قبل أكثر من عشرين عاما، قبل أن يتوسع الحلف إلى وسط وشرق أوروبا. لكن بوتن ربما يحظى ببضعة أسابيع للتفكير في خطواته التالية. فسوف يسافر قريبا إلى بكين لحضور افتتاح دورة الألعاب الأوليمبية الشتوية ــ وقد أوضح شي جين بينج أنه لن يتقبل راضيا حربا في أوكرانيا تلقي بظلالها على الفرصة لاستعراض الصين قبل مؤتمر الحزب الشيوعي هذا الخريف، حيث من المنتظر أن يسعى إلى ولاية ثالثة.
الواقع أن بوتن لديه خيار آخر. فبوسعه أن يزيد من الوجود العسكري الروسي في نصف الكرة الأرضية الغربي، مدعيا أنه يفعل بالولايات المتحدة ما فعلته هي وحلف شمال الأطلسي بروسيا. لكن هذا التحرك سيكون محفوفا بالمخاطر، ولن يجدي نفعا في التعامل مع مخاوف بوتن في أوروبا.
من المستحيل أن نتنبأ بما قد يفعله بوتن، وربما لم يقرر بعد. فقد يختار ما يمكن اعتباره 'توغلا بسيطا'، أو تدخلا محدودا، ربما لزيادة الوجود العسكري الروسي في شرق أوكرانيا.
إن مثل هذا المسار من شأنه أن يعطي بوتن شيئا يستعرض به في إطار دبلوماسيته العدوانية دون أن يتكبد عقوبات كبرى، حيث من غير المرجح أن يتوصل أعضاء الناتو الثلاثون إلى الإجماع حول كيفية الرد. وسوف يتسق هذا المسار أيضا مع نهج فنون الدفاع عن النفس القتالية الذي ينطوي على البحث عن ثغرات تكتيكية لإفقاد الخصم توازنه.
لكن مثل هذا السيناريو يسلط الضوء على حدود فنون الدفاع عن النفس، والتي تدور حول التكتيكيات والأساليب وليس الاستراتيجية. إن هذه الأزمة المصطنعة إلى حد كبير في أوكرانيا تهدد بجعل روسيا في حال أسوأ: صحيح أنها ستسيطر على قسم أكبر قليلا من الأرض، لكنها ستواجه عقوبات جديدة، وحلف شمال أطلسي أكثر قوة، وجارة اكتسب شعبها هوية أكثر انفصالا عن روسيا وعداوة لها.
وعلى هذا فعندما يعود بوتن إلى منزله الريفي، فربما يُـحـسِـن صنعا بممارسة لعبة أخرى أشد ارتباطا بروسيا: الشطرنج، حيث يفكر أفضل اللاعبين في عدة تحركات سلفا ويحترمون خصومهم.
• ريتشارد هاس رئيس مجلس العلاقات الخارجية وكان سابقا مدير تخطيط السياسات في وزارة الخارجية الأمريكية والمبعوث الخاص للرئيس بوش إلى أيرلندا الشمالية ومنسق مستقبل أفغانستان.
سعى بوتن إلى الإخلال بتوازن الولايات المتحدة وحلفائها في منظمة حلف شمال الأطلسي من خلال حشد أكثر من 100 ألف جندي روسي على الحدود الأوكرانية. لـم يُـخـف بوتن اعتقاده بأن روسيا وأوكرانيا مرتبطتان عضويا، وربما يرى في إعادة تأسيس هذه العلاقة طريقة لترسيخ إرثه من خلال إزالة العار المفترض الذي لحق بروسيا في العقود التي أعقبت انهيار الاتحاد السوفييتي.
ربما تصور بوتن أن تهديد أوكرانيا قد يزعزع استقرارها ويوفر الفرصة لإسقاط الحكومة الحالية المؤيدة للغرب وتنصيب حكومة أكثر مراعاة لرغبات الكرملين. والأرجح أن بوتن رأى أن حشد القوات من شأنه أن يرهب الولايات المتحدة ورئيسها الجديد نسبيا جو بايدن ويحمله على قبول عودة أوكرانيا إلى مجال النفوذ الروسي.
انسحبت الولايات المتحدة للتو من أفغانستان على نحو فوضوي وغير مشروط تقريبا. وأفلت بوتن إلى حد كبير من العقاب بعد ضم شبه جزيرة القرم في عام 2014. ولم يدفع الرئيس الصيني شي جين بينج ثمنا يُذكَر مقابل دحر الديمقراطية في هونج كونج. ولهذا، بدت الولايات المتحدة من بعيد ضعيفة، ومنقسمة، ومنغلقة على الذات.
أضف إلى هذا عدم احترام بوتن لحلفاء أميركا الأوروبيين. بعد أن اتخذت ألمانيا قرارا تنقصه الحكمة بالتخلص التدريجي من الطاقة النووية، سمحت لنفسها بأن تصبح أكثر اعتمادا على الغاز الروسي، وكما كانت حال ألمانيا الغربية في كثير من الأحيان خلال الحرب الباردة، تشعر ألمانيا الآن بعدم الارتياح في مواجهة الكرملين. علاوة على ذلك، بدأ بوتن حشده العسكري مع اقتراب فصل الشتاء، عندما تعطي درجات الحرارة المنخفضة وأسعار الوقود المرتفعة الكرملين ميزة إضافية. وكان الفرنسيون يركزون على انتخاباتهم الرئاسية المقبلة، بينما كانت المملكة المتحدة منشغلة بجائحة مرض فيروس كورونا، والخروج من الاتحاد الأوروبي، وسلوك رئيس الوزراء بوريس جونسون.
بالإضافة إلى كل هذا، اتخذ بوتن خطوات يرمي بها إلى الحد من نقاط الضعف التي تعيب روسيا، وخاصة العقوبات الاقتصادية. في شهر ديسمبر 2021، سجلت احتياطيات النقد الأجنبي في روسيا مستوى غير مسبوق بلغ 360 مليار دولار، في حين عملت أسعار النفط المرتفعة على توليد عائدات كبيرة للحكومة. ومن الواضح أن الصين، التي تقدم بالفعل الدعم الدبلوماسي، تستطيع أن تقدم المساعدة المالية إذا احتاج إليها الكرملين.
ولكن برغم أن بوتن هو الذي اختلق أزمة أوكرانيا على اعتقاد منه بأنه يتمتع بميزة واضحة في مواجهة الغرب، فقد ارتكب خطأ قد يخلف عواقب خطيرة حتى على ممارس ماهر لفنون القتال: الاستهانة بالخصم.
في حين صرح بايدن وحلف شمال الأطلسي (الناتو) بأنهما لن يتدخلا بشكل مباشر لصالح أوكرانيا، فإن هذا لا يعني قبول الهيمنة الروسية. الواقع أن الولايات المتحدة نظمت استجابة شاملة. فقد أرسلت الأسلحة إلى أوكرانيا لزيادة التكلفة التي قد تتكبدها روسيا نتيجة لأي غزو أو احتلال. ولا يخلو الأمر من خطط لتحصين البلدان الأعضاء في حلف شمال الأطلسي الأقرب إلى روسيا. والآن يجري التجهيز لفرض عقوبات اقتصادية كبيرة. كما ستعمل خطة تحويل مسار الغاز إلى أوروبا على التعويض جزئيا عن الخسارة المحتملة للإمدادات الروسية.
كل ما سبق يعني أن هجمة بوتن الأولية فشلت في توجيه ضربة حاسمة. ومن الواضح أن من يزعمون أن رئيس روسيا يتلاعب بالغرب كيفما شاء يرون الأمور مقلوبة. لقد وضع بوتن نفسه في موقف لا يُـحـسَـد عليه: فهو إما أن يتجه إلى التصعيد أو يبحث عن طريقة للتراجع تحفظ له ماء وجهه.
تصرفت الولايات المتحدة بحكمة عندما زودت بوتن بـمَـخـرَج دبلوماسي. قد يستلزم هذا الاستعانة ببنية جديدة للمساعدة في تعزيز الأمن الأوروبي، فضلا عن ترتيبات للحد من التسلح والتي من شأنها أن تحد من نطاق وموقع مجموعة من أنظمة التسليح. إن عملية مينسك، بعد إعادة تنشيطها وتنقيحها، كفيلة بتمكين السعي إلى التوصل إلى تسوية سياسية في شرق أوكرانيا تتيح قدرا كبيرا من الاستقلالية لسكان المنطقة (كثير منهم من أصل روسي) والاستعاضة عن الجنود الروس بقوات حفظ السلام الدولية. أشارت الولايات المتحدة أيضا إلى أن أوكرانيا لن تلتحق بعضوية منظمة حلف شمال الأطلسي في أي وقت قريب.
ليس من المؤكد ما إذا كانت هذه النتيجة لتُـرضي بوتن. فهو لن يسمع ما يريد أن يسمع ــ وهو أن أوكرانيا لن تتمكن أبدا من الانضمام إلى الناتو، أو أن قوات الناتو ستنسحب إلى حيث كانت قبل أكثر من عشرين عاما، قبل أن يتوسع الحلف إلى وسط وشرق أوروبا. لكن بوتن ربما يحظى ببضعة أسابيع للتفكير في خطواته التالية. فسوف يسافر قريبا إلى بكين لحضور افتتاح دورة الألعاب الأوليمبية الشتوية ــ وقد أوضح شي جين بينج أنه لن يتقبل راضيا حربا في أوكرانيا تلقي بظلالها على الفرصة لاستعراض الصين قبل مؤتمر الحزب الشيوعي هذا الخريف، حيث من المنتظر أن يسعى إلى ولاية ثالثة.
الواقع أن بوتن لديه خيار آخر. فبوسعه أن يزيد من الوجود العسكري الروسي في نصف الكرة الأرضية الغربي، مدعيا أنه يفعل بالولايات المتحدة ما فعلته هي وحلف شمال الأطلسي بروسيا. لكن هذا التحرك سيكون محفوفا بالمخاطر، ولن يجدي نفعا في التعامل مع مخاوف بوتن في أوروبا.
من المستحيل أن نتنبأ بما قد يفعله بوتن، وربما لم يقرر بعد. فقد يختار ما يمكن اعتباره 'توغلا بسيطا'، أو تدخلا محدودا، ربما لزيادة الوجود العسكري الروسي في شرق أوكرانيا.
إن مثل هذا المسار من شأنه أن يعطي بوتن شيئا يستعرض به في إطار دبلوماسيته العدوانية دون أن يتكبد عقوبات كبرى، حيث من غير المرجح أن يتوصل أعضاء الناتو الثلاثون إلى الإجماع حول كيفية الرد. وسوف يتسق هذا المسار أيضا مع نهج فنون الدفاع عن النفس القتالية الذي ينطوي على البحث عن ثغرات تكتيكية لإفقاد الخصم توازنه.
لكن مثل هذا السيناريو يسلط الضوء على حدود فنون الدفاع عن النفس، والتي تدور حول التكتيكيات والأساليب وليس الاستراتيجية. إن هذه الأزمة المصطنعة إلى حد كبير في أوكرانيا تهدد بجعل روسيا في حال أسوأ: صحيح أنها ستسيطر على قسم أكبر قليلا من الأرض، لكنها ستواجه عقوبات جديدة، وحلف شمال أطلسي أكثر قوة، وجارة اكتسب شعبها هوية أكثر انفصالا عن روسيا وعداوة لها.
وعلى هذا فعندما يعود بوتن إلى منزله الريفي، فربما يُـحـسِـن صنعا بممارسة لعبة أخرى أشد ارتباطا بروسيا: الشطرنج، حيث يفكر أفضل اللاعبين في عدة تحركات سلفا ويحترمون خصومهم.
• ريتشارد هاس رئيس مجلس العلاقات الخارجية وكان سابقا مدير تخطيط السياسات في وزارة الخارجية الأمريكية والمبعوث الخاص للرئيس بوش إلى أيرلندا الشمالية ومنسق مستقبل أفغانستان.