أفكار وآراء

الحروب والصراعات والتنمية في إفريقيا

منذ عهود الاستقلال والدول الإفريقية تُعاني الأمرين من الصراعات والحروب التي أحدثها الاستعمار من خلال خلق المشكلات العرقية وجعل تلك الدول في دوامة متواصلة من العنف والعنف المضاد. ولعل أوضح نموذج لتلك الصراعات المزمنة هو ما يحدث في الدول الإفريقية جنوب الصحراء ودول الساحل الإفريقي، حيث تستمر الحروب الأهلية وتنتشر موجة الإرهاب وتمول هذه الحروب من قبل الدول الاستعمارية، مما نتج عنه عدد من الانقلابات، وعدم الاستقرار وتدهور التنمية الاقتصادية والاجتماعية لشعوب تلك المنطقة رغم أن تلك الدول الإفريقية تحوي الكثير من المقدرات والثروات التي تعد كافية لإيجاد تنمية مستدامة.

إن ما يجري في مالي والنبيجر وتشاد وبوركينا فاسو وعدد من الدول الإفريقية يسبب الكثير من المتاعب لشعوب تلك الدول واستمرار تلك الصراعات يعني خسارة الكثير من الموارد، كما أن السيادة الكاملة على تلك المقدرات تعد منقوصة نتيجة التدخلات الخارجية، وخلق مناخ من عدم الاستقرار واستمرار تلك الحروب والأزمات الداخلية، ومن هنا فإن الاتحاد الإفريقي لا بدّ أن يكون له دور فاعل في إنهاء تلك المشكلات المزمنة. وربما يكون نموذج دولة رواندا هو النموذج الذي ينبغي أن تسلكه تلك الدول الإفريقية جنوب الصحراء والساحل. واستطاعت رواندا بعد حرب عرقية قاسية أن تنهي تلك المأساة الإنسانية وتنطلق نحو التحرر من قبضة المصالح الاستعمارية البغيضة إلى الاستقرار والتنمية، وتصبح نموذجًا ناجحًا على صعيد الاستثمار والاقتصاد وحرية ريادة الأعمال.

ومن هنا فإن هذا النموذج الإفريقي ينبغي أن يكون مثالًا يُحتذى به لكل الدول الإفريقية. أكثر من نصف قرن وعدد كبير من الدول الإفريقية ومنها عدد من الدول العربية كالسودان والصومال تعاني الأمرين بعد عهود الاستقلال، فاشتعال الحروب والصراعات الداخلية وانفصال الأقاليم كما في الحالة السودانية-انفصال جنوب السودان- والتي أصبحت الآن دولة مستقلة،بالإضافة إلى الصومال التي تشهد صراعات داخلية وتشتت بعض مناطقه أضاف أعباء كبيرة على شعوب تلك الدول من المعاناة والمشكلات الاجتماعية والاقتصادية والإنسانية وغياب الأمن والاستقرار.

وعلى ضوء تلك التطورات خلال العقود الأخيرة فإن هناك حالة من عدم اليقين تواجه الدول الإفريقية في جنوب الصحراء والساحل، فدول كمالي والنيجر وتشاد ودول أخرى تسير في مشهد مجهول من خلال تلك المظاهر المسلحة ووجود الانقلابات العسكرية بين الحين والآخر، وغياب أي رؤية سياسية تنطلق بتلك الدول نحو التنمية والاستقرار كما حدث بالنسبة لرواندا وعدد من الدول الإفريقية الأخرى.

الدول الإفريقية عموما أهدرت ولا تزال الكثير من مواردها ومقدرات شعوبها بسبب تواصل تلك الحروب والصراعات والتي تسبب الكثير منها التدخلات الخارجية وخاصة الاستعمار القديم الذي لا يزال له تأثير كبير في خلق تلك المشكلات بهدف ضمان مصالحه ومصالح شركاته الخاصة النفطية، وأيضًا شركات السلاح والتي تمول تلك الحروب والصراعات. كما أن وجود القوات العسكرية الخارجية تحت مسمى (محاربة الإرهاب) في دول جنوب الصحراء والساحل خلق حالة خطيرة من حالة عدم الاستقرار، وتواصل تلك الأزمات وانكماش اقتصاديات تلك الدول وجعلها مكبلة بالديون من الصناديق الغربية وبالتالي جعل قرارها السياسي والسيادي مرهونا لتلك الصناديق المالية والدول الغربية التي لها مصالح كبيرة في تلك الدول النامية في إفريقيا الجنوبية ودول جنوب وشرق إفريقيا. الاتحاد الإفريقي منظمة سياسية مهمة وهي تضم في عضويتها أكثر من خمسين دولة إفريقية ومقارنتها بالجامعة العربية فهي أكثر نشاطًا وفاعلية على صعيد المشكلات في إفريقيا ولها مجلس للأمن والسلم وقوات عسكرية لحفظ السلام، وعلى ضوء ذلك فإن أمام الاتحاد الإفريقي في هذه المرحلة مهمة كبيرة في إيجاد حلول ومقاربات سياسية لمشكلات الدول الإفريقية خاصة تلك التي تعاني في جنوب الصحراء والساحل من خلال تدخل مباشر، وإيجاد استراتيجية موحدة تبعد القوى الخارجية أولًا من استغلال موارد وثروات تلك الدول وشعوبها، وثانيًا إيجاد حوار سياسي ومصالحات تؤدي إلى استقرار تلك الدول ويكون هناك رؤى اقتصادية لمستقبل أفضل لتلك الدول، وأن يكون نموذج رواندا هو الحاضر في ذهن ساسة ومسؤولي تلك الدول حيث استطاعت رواندا من خلال إرادة سياسية وتصميم وطني أن تخرج من حرب أهلية قاسية راح ضحيتها أكثر من مليون إنسان، وتتغلب على جراحها وتنطلق في سنوات قليلة لتصبح واجهة الاستثمار وريادة الأعمال في القارة الإفريقية.

إن الأسلوب النمطي في إدارة الدول الإفريقية جنوب الصحراء والساحل لا بدّ أن يتغير، وأن الاتحاد الإفريقي هو المظلة السياسية التي لا بدّ أن تعالج تلك الأمور المتدهورة في تلك الدول، حيث تعاني الشعوب من مشكلات معقدة على صعيد التنمية والاستقرار رغم وجود الثروات والقدرات البشرية، ومن هنا فإن المشهد السياسي الإفريقي يحتاج مراجعة وتقييم حقيقي وربما يكون من المناسب عقد قمة إفريقية خاصة لمناقشة إيجاد رؤية مختلفة لمستقبل القارة الإفريقية وأجيالها، وإنه من غير المقبول استمرار الوضع المتردي لشعوب تلك الدول، وعدم إيجاد حلول لتلك الصراعات والحروب التي أنهكت اقتصاديات تلك الدول على مدى عقود، وأصبحت تلك الحروب في تلك الدول شبه منسية إعلاميا وليس هناك اهتمام دولي بها. والدول الإفريقية في جنوب الصحراء والساحل بها من الثروات الطبيعية الكثير، كما هو الحال في دول غرب وشرق إفريقيا، ومن هنا فإن المصلحة الوطنية لتلك الدول الإفريقية توجب الحصول على حلول جذرية لتلك الصراعات، وأن تنظم العلاقات بشكل صحيح مع التدخلات الخارجية والتي اتضح أن ضررها أكبر، ولعل نموذج دولة مالي وما يحدث فيها من تطورات سياسية مع فرنسا هو نموذج للمشكلات عموما بين الدول الإفريقية وعلاقتها بالدول الاستعمارية السابقة، ومن هنا فإن عدم إيجاد مقاربات سياسية وحلول واقعية للمشكلات والصراعات في إفريقيا عموما ودول الساحل وجنوب الصحراء سوف يجعل تلك المنطقة تدور في مسار مجهول، ويجعل تلك الدول مجالًا خصبًا لمزيد من الصراعات والحروب الأهلية واستنزاف موارد شعوبها، واستمرار تخلفها وبناء على ذلك لا بدّ من منهجية سياسية جديدة وطرح مختلف من قيادات تلك الدول، كما أن استمرار الانقلابات العسكرية لا يعطي مؤشرًا إيجابيًا نحو السلام والاستقرار لتلك الدول ويجعلها في صراع متواصل، ويشعر الأجيال بفقدان الثقة والأمل نحو مستقبل أفضل في ظل المتغيرات في عالم اليوم وفي ظل التقدم التنموي الذي تعيشه الكثير من الدول في آسيا وأمريكا اللاتينية، رغم قلة الموارد الطبيعية مقارنة بالقارة الإفريقية. وهنا فإن تغيير المشهد السياسي يتطلب إرادة وطنية لإيجاد رؤية مختلفة، وتصميما على إيجاد مسار إيجابي مختلف نحو التحديث والتطور وإطلاق مسار تنموي يجعل تلك الدول وشعوبها تنطلق نحو التنمية الاقتصادية والاجتماعية وترسيخ مفهوم الأمن والاستقرار والتنمية الشاملة.

• عوض باقوير صحفي ومحلل سياسي عماني