أفكار وآراء

المعايير المزدوجة .. الأقنعة المغلظة

يحل سلوك الـ'معايير المزدوجة' كأحد الممارسات المجتمعية القائمة بين الأفراد، أو المجموعات، وينحصر في التمييز بين فردين أو مجموعتين في التعامل حيث يحظى أحد الأطراف بخصوصية في التعامل، بينما لا يحظى الآخر بذات الخصوصية، وإن كان كلاهما يقومان بنفس الدور، ويتوسع الأمر ليصل إلى ممارسات الدول بكامل حمولتها الاجتماعية، والثقافية، والاجتماعية والسياسية، لأن الدول تحكمها أنظمة، وما تتبناه الأنظمة كفيل بأن يكون محسوبا على كافة الشعب، ولذلك تكون النظرة قاصرة عندما ينظر البعض إلى أن ممارسة سلوكيات الـ'معايير المزدوجة' تنحصر في سلوكيات مجموعة اتجاه مجموعات، فالواقع يقول إن ذلك يحدث على مستوى الفرد أيضا، حيث ترى فلانا من الناس، يجامل فلانا من الناس ويعادي آخر، وهذه الصورة موجودة سواء بين أحضان المجتمع الواحد، أو في بيئات العمل، حيث تنتشر أكثر، ولذلك ففي الوقت الذي يكرم فيه مجموعة من العاملين، يساء التعامل مع مجموعة أخرى من العاملين في ذات المؤسسة، حيث يظهر ذلك في الترقيات، والمكافآت، وفرص التدريب، وفرص المهمات الرسمية، ورؤساء الوحدات هم أول من يقع في مأزق الـ'معايير المزدوجة' في التعامل مع مرؤوسيهم، ولا شك أن لذلك انعكاسات سلبية على الأداء الوظيفي للمؤسسة بشكل عام، وهناك من الرؤساء من يدرك هذه الحقيقة، ولكنه يغض الطرف عنها، لمصالح شخصية بحتة، لا علاقة للمؤسسة بها، وهذا بلا شك يطعن الأمانة الوظيفية، ويحدث فيها نتوءات ليس يسيرا رتقها، خاصة في التغييب المتعمد للقانون، وترك مجمل العلاقات الوظيفية وفقا لتقدير رئيس الوحدة فقط، وهذه من الإشكاليات الموضوعية في الممارسة الوظيفية، وما ينطبق على المؤسسة المهنية، ينطبق كذلك على المؤسسة الأسرية، وقس على ذلك أمثلة كثيرة.

ويتمحور سلوك الـ'معايير المزدوجة' في المواقف أن يتعرض أحدنا لأي موقف يرى فيه أنه أخذ على حين غرة، وبدا لنفسه كأنه 'مغفل' وذلك لتعرضه لشيء من التعامل لما يذهب إليه معنى الـ'معايير المزدوجة' وهذا مما يحسب على صدق العلاقات القائمة بين الناس، ومدى ثقة بعضهم ببعض، حيث تحدث مثل هذه التعاملات شروخا غائرة في العلاقات صغرت هذه العلاقات أو كبرت، عمرت هذه العلاقات أو في أعمارها القصيرة، فتعزيز الثقة بين المتعاملين مهم جدا للخروج من مأزق الـ'معايير المزدوجة'.

السؤال هنا، هل الـ'معايير المزدوجة' من السلوكيات الملحقة بـ'النفاق' الذي يظهر ما لا يبطن، ويبطن ما لا يظهر؟ ففي الممارسات الواضحة لنفس السلوكين، لا يوجد فرق جوهري بينهما، لأن القائم على ممارسة النفاق هو ذاته القائم على ممارسة الـ'معايير المزدوجة' وكلا السلوكين يظهران نتائج غير متوقعة على الطرف المغدور به، وفي كلا الحالتين يظهر القائم بالنفاق والقائم بممارسة الـ'معايير المزدوجة' على أنهما قريبان، وصادقان، وأنهما يحسنان الظن بهذا الطرف الماثل أمامهما، حيث يعيشانه في حالة من الهدوء والاطمئنان، والرضا عنهما، وما يحدث، بعد ذلك، من ردات فعل مغايرة من هذا المغلوب على أمره، قد يهم القائم على النفاق أو الممارس سلوك الـ'معايير المزدوجة' لأنه حقق ما أراد، ويكفيه الوصول إلى هذه الغاية، ويذهب ليبحث عن ضحية أخرى يمارس عليها أحد هذين السلوكين، أو كلاهما، وفي ذلك اجترار مستمر للسلوكيات السيئة، ويدفع ثمن ذلك العامة كلها، وليس فرد بعينه، وإن تضرر فرد من ذلك أو مجموعة أفراد، لأن وجود مثل هذه الـ'سوسة' التي تنخر العلاقات القائمة بين أفراد المجتمع الواحد، كفيلة بإحداث تصدعات بين بنيوية المجتمع ككل، وهي البنيوية التي تقوم على القيم الإنسانية الرفيعة، وعلى مجموعة من التعاقدات الاجتماعية، التي لا يجوز الإخلال بمضامينها الاجتماعية، والإنسانية على حد سواء، حفاظا على اللحمة الاجتماعية 'المغذي' لبقاء المجتمعات على نصاعتها، ومجمل اتفاقاتها الإنسانية.

السؤال الآخر، هو: كيف ترضى المجتمعات -بعد كل هذه التجربة الإنسانية في الحياة- أن تستعذب ثقافة الـ'معايير المزدوجة' مع يقينها أن نتائج هذه المعايير يتلقى مأزقها الجميع، سواء أكان مغلوبا على أمره، أو هو في كامل قوته وجبروته، فالممارس لهذا السلوك الشائن لا يتقصى فقط الجانب الأضعف في المجتمع، ولكن يمرر أجندته على الجميع، فالغاية هي تحقيق المصلحة من ممارسة سلوك الـ'معايير المزدوجة' ليس إلا، هل لأن الفطرة الإنسانية قابلة، في الأصل، هذا النوع من السلوك؟ أم أن البيئات الحاضنة هي من يحفز معظم السلوكيات الشائنة في النفس البشرية فتوقظها من سباتها؟ وإلا ما عمرت هذه السلوكيات في مجملها طوال سنوات العمر لدى البشرية، حيث لم يحدث أن مر العالم بحالة من الأمان، ومن الصدق، ومن التوافق بين كل مكوناته البشرية، دون أن تكون هناك محطات منغصة في حياة الأفراد، وهذا مما يوجد طرح الأسئلة أكثر عن معززات الوعي، وعدم تأثيرها على سلوكيات البشر، بحيث يغير من مسارات العداء، والاضطهاد، وتقليل الظلم، وكأن البشرية بهذه الصور الكالحة ليس لها وظيفة في هذه الحياة سوى اضطهاد بعضها بعضا، في حالة تستدعي طرح أسئلة متواصلة، عن هذا السر الخفي، وإلى ضرورة تقصي الحقائق لمآلات النفس البشرية التي تستعذب هذا الخُلُقَ الصَّادِمَ مع ذاتها طوال مسيرتها في هذه الحياة.

من أسوأ سلوكيات الـ'معايير المزدوجة' هي التي تقع بين أفراد الأسرة الواحدة، وخاصة عندما يقوم بهذا الدور ربُّ الأسرة، من خلال ممارسة التمييز بين أولاده، سواء بقصد أو بغير قصد، مما يؤدي في كلا الحالتين إلى إحداثِ شرخٍ مؤلمٍ في حقيقة العلاقات القائمة بين أبناء الأسرة، وهذه من المواقف التي، وإن حاول رب الأسرة أن يكتمها بين جنبات نفسه، فإن نتائجها، لا بد، أن تظهر بين يدي أفراد الأسرة المخصوصين بشيء من والدهم، والإحساس بالغبن من قبل الآخرين الذين أن وقع عليهم ظلم الأب الذي لم ينصفهم فيما وهبه لإخوتهم الآخرين.

ولعل لفتة المشرع الكريم في عدم قبول الوصية للوارث، ينظر إليه على أنه من أهم الدفاعات لاحتواء ممارسة أي سلوك يذهب إلى الـ'معايير المزدوجة' ويحدث شرخا في العلاقات القائمة بين أفراد الأسرة الواحدة، والتي من الضرورة أن تبقى على تماسكها، وقوتها، ونصاعتها، وحتى لا تسقط في مستنقع القضايا والخلافات الأسرية.

يحل منطق 'الغاية تبرر الوسيلة' على أنه واحد من الممارسات السيئة التي تدخل ضمن مفاهيم الـ'معايير المزدوجة' لأن منطق فهم 'تبرير الوسيلة' هو منطق ضعيف، ويمارس فيه ظروف غير صحية، وغير متفق عليها، لأنها 'تبرير' ليس شرطا أن يتفق على إقراره الجميع، ومن هنا هو يدخل في فهم الـ'معايير المزدوجة' لأنه في الوقت الذي يبرر الشخص سلوكه في أمر ما، ولظرف ما، قد لا يجد التبرير في ظرف مشابه، ولأمر مشابه أيضا، خاصة إذا خلت الحالة الثانية من مصلحة ما، يرى فيها الفرد أن إقدامه على فعله يعد خسارة، ولا يرتجى منها مصلحة ما. ولذلك من يتقصى أغلب ممارسات الدول الاستعمارية (البغيضة) يجد أن مصلحتها قائمة على أمر ما، وإلا لما ضحت بقليل من أبنائها، وجهدها، ومعداتها مقابل غاية ما، تجد فيها ضالتها، سواء هذه الضالة اقتصادية، أو سياسية، أو موقع استراتيجي ما، وفي الوقت نفسه تغض الطرف عن دولة استعمارية (بغيضة) أخرى قد تناوئها في موقع آخر لذات الغايات، وكلاهما، في المحصلة، يستخدما نفس الوسائل القذرة من القتل، والتشريد، والظلم، وانتهاك الحرمات، وأشد أنواع القسوات على الشعوب المغلوبة على أمرها.

تلصق دائما الدول الاستعمارية البغيضة، وهذا واقعها الحقيقي، باتخاذ أسلوب الـ'معايير المزدوجة' في تعاملاتها مع مختلف الدول، وخاصة الضعيفة منها، وتنطلق بهذه النرجسية نظير ما تمتلكه من قوة، ومن بطش، ومن تعنت، وما تمارسه من ظلم على الآخر الضعيف، ولذلك فقادتها لا يخجلون من أنفسهم، وهم يكيلون على الشعوب الضعيفة مختلف الممارسات القذرة، ويغلفون أفعالهم السيئة المعلنة منها، والمخفية بهذا النوع من التعامل، وعلى الرغم من قوتها وجبروتها، إلا أنها لا تستطيع أن تكون أكثر وضوحا، وأكثر شفافية في تعاملاتها مع مختلف الأطراف، لأنها سيئة المخبر والمنظر، ومع ذلك تجد من يحتويها خوفا من بطشها، ورغبة في منافعها، مع أن منافعها لا تأتي هكذا دون مقابل، وغالبا ما يكون هذا المقابل له ثمن ثقيل.

• أحمد الفلاحي كاتب وصحفي عماني