نوافذ: التاريخ العُماني بوصفه "نصًّا"
السبت / 25 / جمادى الآخرة / 1443 هـ - 16:07 - السبت 29 يناير 2022 16:07
سليمان المعمري
الخضر عليه السلام يطلب من بدوي عُماني بعد إرشاده إلى ناقته الضالة أن يُبلِغ الإمام ناصر بن مرشد أن 'يلزم هذه السيرة فإنها سيرة النبي صلى الله عليه وسلم'. 'شيطان' يزور سالم بن راشد الخروصي – قبل أن يصبح إمامًا- مرة في النوم وأخرى في اليقظة مخاطبًا إياه: 'السلام عليك يا إمام المسلمين'. مدينة عُمانية أصيبت وحدها بمرض الطاعون لأنها 'خرجت' على الإمام عزان بن قيس، مدينة عُمانية أخرى عانت من غزو الجراد ولم يخلصها منه إلا دعاء الإمام محمد بن عبدالله الخليلي، رجل شجاع قطع رؤوس ثلاثة من أعدائه دون أن يلمس سيفه!. هذا غيض من فيض الخوارق أو 'الكرامات' التي تناقلها مؤرخون عُمانيون على مر السنين في كتبهم، وأخضعها الباحث سعود الزدجالي في كتابه الجديد 'ميلودراما التاريخ' الصادر عن دار 'عرب' في لندن – مع مرويات تاريخية أخرى - للدراسة والتحليل، في عمل بحثي جريء هو – كما وصفه بنفسه في المقدمة – الأول من نوعه في النظر إلى التاريخ العُماني بوصفه 'نصًّا' يمكن إخضاعه لمنهجيات الفحص اللسانية والسيميائية أو التداولية.
وعندما نقول 'مؤرخين عُمانيين' فإننا نطلق هذا الوصف بشيء من التحفظ، فقد عانى التراث العُماني من 'غياب المؤرخ الأصيل أو التدوين لليوميات'، كما يقول الزدجالي الذي يُميّز بين نوعَيْن من المؤرخين: الأصيل الذي عاصر الأحداث وعايشها فكتب عنها، والمؤرخ النظري أو (الأخباري) الذي اعتمد في تأريخه على النقل ممن سبقه، ويعزو الإمام نور الدين السالمي في 'تحفة الأعيان' ضعف اهتمام العمانيين بالتأريخ للأحداث أو الأشخاص إلى 'اشتغالهم بإقامة العدل وتأثير العلوم الدينية، وبيان ما لا بد بن من بيانه للناس، أخذًا بالأهم فالأهم؛ فلذلك لا تجد لهم سيرة مجتمعة ولا تاريخًا شاملا'.
يقول مؤلف 'ميلودراما التاريخ' إن 'المؤرخ العُماني يعيد الإنتاج لذات المعلومات التي يتم نقلها من مصدر إلى آخر، بالإشارة أو بدونها؛ لأن الثقافة السائدة تضع هذا التصنيف ضمن الإنتاج العلمي الاحتفائي' ويُلفت نظر قرائه إلى أنه في غالب المصنفات التاريخية العُمانية ثمة فجوة زمنية بين المؤرِّخ والأحداث التي يؤرخ لها، وأن هذا المؤرخ 'يتناول الأحداث السحيقة دونما مصدر موثوق أو مذكور'. وفي تحليله لكثيرٍ من النصوص في المصادر التاريخية العُمانية يرى المؤلف أنها 'تُعَدُّ دراما متكررة وملحمية ومركّبة تركيبًا أسطوريًّا، في لغة مشحونة بالعاطفة الدينية'، مؤكدًا أن كاتب التاريخ العُماني 'يمارس الصناعة الانتقائية لإنتاج الحقائق التاريخية'، وأن ما يذكره هذا المؤرخ المشحون بالعاطفة الدينية 'ليس هو الذي حدث فعلًا في الواقع، وإنما هو الذي يريده المؤرخ أن يحدث في الماضي لأجل المستقبل الطوباوي المنتَظر'، ويُلاحِظ مثلًا أن ابن قيصر مؤلف سيرة الإمام ناصر بن مرشد، الذي عاصره وعايشه، لا يذكر شيئًا عن حكاية البدوي والخِضر التي سيعُدُّها بعد ذلك بقرنين من الزمان ابن رزيق في كتابه 'الفتح المبين'، ثم الإمام نور الدين السالمي في 'تحفة الأعيان'، من كرامات الإمام ناصر بن مرشد، بدون ذكر مصدرها سوى عبارة 'وفي بعض الكتب'.
يدرك سعود الزدجالي منذ البداية أنه يمشي في حقل ألغام، فـ'المؤرخ' العُماني لم يتخلص بعد – إلا في استثناءات قليلة- من حالة التماهي مع الأحداث والشخصيات التاريخية التي يتحدث عنها، أو لنَقُلْ إنه لم يجرؤ بعد على تقديم تصوّر يمثله هو لا يمثل المؤرخين السابقين، هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن المتلقي العُماني غير مستعد بعد لقراءة تاريخه بعيدًا عن توجيهات 'المؤرخين' التي تغلب عليها أيديولوجياتهم كما يقول الزدجالي، الذي يدرك من تجارب مريرة سابقة أن الخوض في نقد كتب علماء أو فقهاء اكتسبوا مع الزمن هالة من القداسة، حتى وإن كان هذا النقد علميًّا أو منهجيًّا، ويَقرأ النصَّ لا الناص، فإنه سيعرضه إلى سهام قراء يكرهونه.
لذا فإنه يخاطب هؤلاء منذ الصفحة الأولى في كتابه شارحًا منهجه: 'إلى القارئ الذي يكرهني؛ لا لأنني أقول 'الحقيقة'؛ فأنا لا أدعي شيئًا من الحقائق. وإنما لاعتقاده أنني أهدم تلك الحقائق التي يمتلكها؛ في هذا الكتاب لا تبحث عن الحقائق وإنما عن الأسئلة التي تحوم حولها، قم بصياغتها من جديد، حاول أن تفضح اللغة وهي تريد تضليلك، امنح نفسك الوصول إلى لغتك الداخلية فهي الوحيدة القادرة على أن تجابه الظاهر الخادع'.
اللافت أن الزدجالي لم يعتمد في هذا الكتاب على المصادر العُمانية للتاريخ العُماني فقط، وإنما أضاف إليها أيضا مصادر من عيون التراث العربي والإسلامي، وأخرى لمؤلفين عرب معاصرين ومستشرقين أجانب كتبوا عن تاريخ عُمان، إضافة إلى مصادر هامة في الفكر والفلسفة والتاريخ وعلم النفس والنقد الأدبي واللسانيات، مما أضفى على هذه الدراسة عُمقًا ومتعة في الآن ذاته.
وعندما نقول 'مؤرخين عُمانيين' فإننا نطلق هذا الوصف بشيء من التحفظ، فقد عانى التراث العُماني من 'غياب المؤرخ الأصيل أو التدوين لليوميات'، كما يقول الزدجالي الذي يُميّز بين نوعَيْن من المؤرخين: الأصيل الذي عاصر الأحداث وعايشها فكتب عنها، والمؤرخ النظري أو (الأخباري) الذي اعتمد في تأريخه على النقل ممن سبقه، ويعزو الإمام نور الدين السالمي في 'تحفة الأعيان' ضعف اهتمام العمانيين بالتأريخ للأحداث أو الأشخاص إلى 'اشتغالهم بإقامة العدل وتأثير العلوم الدينية، وبيان ما لا بد بن من بيانه للناس، أخذًا بالأهم فالأهم؛ فلذلك لا تجد لهم سيرة مجتمعة ولا تاريخًا شاملا'.
يقول مؤلف 'ميلودراما التاريخ' إن 'المؤرخ العُماني يعيد الإنتاج لذات المعلومات التي يتم نقلها من مصدر إلى آخر، بالإشارة أو بدونها؛ لأن الثقافة السائدة تضع هذا التصنيف ضمن الإنتاج العلمي الاحتفائي' ويُلفت نظر قرائه إلى أنه في غالب المصنفات التاريخية العُمانية ثمة فجوة زمنية بين المؤرِّخ والأحداث التي يؤرخ لها، وأن هذا المؤرخ 'يتناول الأحداث السحيقة دونما مصدر موثوق أو مذكور'. وفي تحليله لكثيرٍ من النصوص في المصادر التاريخية العُمانية يرى المؤلف أنها 'تُعَدُّ دراما متكررة وملحمية ومركّبة تركيبًا أسطوريًّا، في لغة مشحونة بالعاطفة الدينية'، مؤكدًا أن كاتب التاريخ العُماني 'يمارس الصناعة الانتقائية لإنتاج الحقائق التاريخية'، وأن ما يذكره هذا المؤرخ المشحون بالعاطفة الدينية 'ليس هو الذي حدث فعلًا في الواقع، وإنما هو الذي يريده المؤرخ أن يحدث في الماضي لأجل المستقبل الطوباوي المنتَظر'، ويُلاحِظ مثلًا أن ابن قيصر مؤلف سيرة الإمام ناصر بن مرشد، الذي عاصره وعايشه، لا يذكر شيئًا عن حكاية البدوي والخِضر التي سيعُدُّها بعد ذلك بقرنين من الزمان ابن رزيق في كتابه 'الفتح المبين'، ثم الإمام نور الدين السالمي في 'تحفة الأعيان'، من كرامات الإمام ناصر بن مرشد، بدون ذكر مصدرها سوى عبارة 'وفي بعض الكتب'.
يدرك سعود الزدجالي منذ البداية أنه يمشي في حقل ألغام، فـ'المؤرخ' العُماني لم يتخلص بعد – إلا في استثناءات قليلة- من حالة التماهي مع الأحداث والشخصيات التاريخية التي يتحدث عنها، أو لنَقُلْ إنه لم يجرؤ بعد على تقديم تصوّر يمثله هو لا يمثل المؤرخين السابقين، هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن المتلقي العُماني غير مستعد بعد لقراءة تاريخه بعيدًا عن توجيهات 'المؤرخين' التي تغلب عليها أيديولوجياتهم كما يقول الزدجالي، الذي يدرك من تجارب مريرة سابقة أن الخوض في نقد كتب علماء أو فقهاء اكتسبوا مع الزمن هالة من القداسة، حتى وإن كان هذا النقد علميًّا أو منهجيًّا، ويَقرأ النصَّ لا الناص، فإنه سيعرضه إلى سهام قراء يكرهونه.
لذا فإنه يخاطب هؤلاء منذ الصفحة الأولى في كتابه شارحًا منهجه: 'إلى القارئ الذي يكرهني؛ لا لأنني أقول 'الحقيقة'؛ فأنا لا أدعي شيئًا من الحقائق. وإنما لاعتقاده أنني أهدم تلك الحقائق التي يمتلكها؛ في هذا الكتاب لا تبحث عن الحقائق وإنما عن الأسئلة التي تحوم حولها، قم بصياغتها من جديد، حاول أن تفضح اللغة وهي تريد تضليلك، امنح نفسك الوصول إلى لغتك الداخلية فهي الوحيدة القادرة على أن تجابه الظاهر الخادع'.
اللافت أن الزدجالي لم يعتمد في هذا الكتاب على المصادر العُمانية للتاريخ العُماني فقط، وإنما أضاف إليها أيضا مصادر من عيون التراث العربي والإسلامي، وأخرى لمؤلفين عرب معاصرين ومستشرقين أجانب كتبوا عن تاريخ عُمان، إضافة إلى مصادر هامة في الفكر والفلسفة والتاريخ وعلم النفس والنقد الأدبي واللسانيات، مما أضفى على هذه الدراسة عُمقًا ومتعة في الآن ذاته.