في مديح إرث هنري كينسجر في الشرق الأوسط
الجمعة / 24 / جمادى الآخرة / 1443 هـ - 18:54 - الجمعة 28 يناير 2022 18:54
توماس شوارتز
ترجمة: أحمد شافعي
لم يكن إلا لقليل من المسارات المهنية في الحياة العامة الأمريكية من الطول والتأثير مثل ما كان لمسيرة هنري كيسنجر المهنية. منذ بدايته ضمن أوائل 'مثقفي الدفاع' في الحرب الباردة وظهوره في برنامج مايك والاس الحواري في الخمسينيات من القرن العشرين، وحتى كتابه الصادر أخيرا مع إريك شميدت من جوجول حول الأثر المجتمعي للذكاء الاصطناعي، امتدت حياة كيسنجر تحت الضوء العام لأكثر من ستة عقود. في فترة عمله مستشارا للأمن الوطني ووزيرا للخارجية أشرف على الانفتاح مع الصين، والانفراجة مع الاتحاد السوفييتي، ونهاية حرب فييتنام. ترك الخدمة في عام 1977 ليصبح معلقا على الشأن العام ومستشارا تجاريا دوليا، وكذلك صاحب تأثير من وراء الستار في السياسة الخارجية الأمريكية. وبرغم حصوله على جائزة نوبل في السلام، يظل شخصية استنثائية خلافية بسبب السياسات في كمبوديا وتشيلي وجنوب آسيا وهدفا للكراهية وبخاصة من اليسار، فحينما مات شقيقه الصغير وولتر في العام الماضي تصدَّر هاشتاج 'كيسنجر الخطأ' موقع تويتر.
كتب مارتن إنديك دراسة فاتنة، وشاملة، ومفصلة لما يمكن أن يكون أهم منجز لكيسنجر. في أعقاب حرب السادس من أكتوبر سنة 1973 [يوم الغفران في الأصل] التي ساعد في التوصل إلى وقف إطلاق النار فيها، انخرط كيسنجر في 'الدبلوماسية المكوكية' التي اخترعها ليصوغ ثلاث اتفاقيات لفض الاشتباك بين إسرائيل ومصر، وإسرائيل وسوريا، وساعد في تأسيس قاعدة للسلام في الشرق الأوسط. ومثلما يشير عنوان الكتاب وهو 'معلم اللعبة: هنري كيسنجر وفن دبلوماسية الشرق الأوسط'، فإن إنديك يثني على دور كيسنجر في هذه المحادثات، واصفا مهاراته بوصفه مفاوضا عبقريا لا يكل ولا يمل، ويوعز دوام هذا السلام إلى حرص كيسنجر على تأسيس نظام دولي وليس سلاما شاملا وحسب. وهذا ما يعكس النهج السياسي الواقعي الذي اتبعه المفكر كيسنجر في العلاقات الدولية، إذ كان هدفه هو تأسيس توازن قوى ثابت في الشرق الأوسط من خلال 'تلاعب حاذق بما بين القوى المتنافسة من خصومات'.
ما يميز هذا الكتاب بحق عن دراسات أكاديمية أخرى هو أن إنديك مؤرخ شديد الاختلاف. فهو في قيامه بالبحث الأرشيفي التقليدي في الولايات المتحدة وإسرائيل، وبراعته في كتابة السيرة والأدب الثانوي، وإجراء الحوارات مع المتبقين من المشاركين على قيد الحياة، يقدم تأملا دقيقا وسردا حرفيا لكل يوم من أيام دبلومسية كيسنجر في المنطقة. غير أن إنديك سبق له العمل سفيرا في إسرائيل ووكيلا لوزارة الخارجية لشؤون الشرق الأدنى ومساعدا خاصا للرئيسين بيل كلينتن وباراك أوباما، ومن ثم فإن له خبرة لافتة بالعمل الدبلوماسي وانخراطا عميقا في الشرق الأوسط. لذلك كثيرا ما تتنقل سردية الكتاب بين جهود كيسنجر في سبعينيات القرن العشرين وتجارب إنديك التالية في محاولة التعامل مع المنطقة المضطربة. وفي افتتاحيته للكتاب، يكتب إنديك أنه في حين لا يمكن أن يقارن نفسه بكيسنجر فإنه يعتقد أنه بات يفهم كيف كان الوضع بالنسبة له.
على الرغم من أن إنديك عمل في الغالب مع الديمقراطيين، وكان أساسيا في سياسة الشرق الأوسط التي اتبعها دونالد ترامب، فمن المدهش في هذا الوقت شديد الاستقطاب أن نجده يحابي ـ في مراجعته ـ منهج كيسنجر في دبلوماسية الشرق الأوسط أكثر من مناهج الرؤساء الذين عمل معهم. يقابل إنديك بين نجاح كيسنجر في التعامل مع الرئيس السوري حافظ الأسد وفشل إدارة كلنتن في التوصل إلى اتفاقية سلام إسرائيلية سورية. ويقارن أيضا بين انتصار كيسنجر في مفاوضات سيناء الثانية، التي انتهت إلى أول انسحاب إسرائيلي ذي شأن من أراض عربية محتلة وعززت روابط أمريكا الجديدة بمصر، مع محاولة إدارة أوباما غير الناجحة للوساطة في حل الصراع الإسرائيلي الفلسطيني على أساس الدولتين.
وإنديك لديه انتقاداته لكيسنجر. فهو يقسو في حكمه على كيسنجر بسبب تجاهله إشارات الرئيس المصري أنور السادات إلى اهتمامه بإبرام صفقة مع إسرائيل قبل اندلاع الحرب في أكتوبر من عام 1973. ويعتقد أن كيسنجر أضاع فرصة في مطلع عام 1974 لإشراك الملك الأردني حسين في عملية السلام على نحو كان ليتيح للأردن ـ بدلا من منظمة التحرير الفلسطينية ـ تمثيل الفلسطينيين. فقد كان يحتمل أن تسمح السيطرة الأردنية على الضفة الغربية بانسحاب إسرائيلي ختامي على نحو لم تسمح به منظمة التحرير الفلسطينية. لكن تردد كيسنجر أتاح لزعيم منظمة التحرير الفلسطينية ياسر عرفات أن يكسب المزيد من الدعم العربي، فحصلت منظمة التحرير في قمة الرباط المنعقدة في أكتوبر من عام 1974 على الحق الحصري في تمثيل الشعب الفلسطيني.
وكيسنجر نفسه لم يخل من ندم على عدم التفاوض مع الأردن. ولكن هذه نتيجة تصعب رؤيتها باعتبارها فرصة حقيقية مهدرة للقضية الفلسطينية. يوضح إنديك أن كيسنجر كان مشتتا في ذلك الوقت: إذ ألحقت ووترجيت ضعفا كبيرا بالرئيس ريتشارك نيكسن، والانفراجة [مع السوفييت] كانت تواجه تحديات في الكونجرس، ولم يكن كل من السادات ورئيس الوزراء الإسرائيلي إسحق رابين متحمسين لمحادثات الأردن المحتملة.
يلاحظ إنديك في مذكرات نيكسن أن الرئيس قال إنه لم يول كيسنجر في البداية مهمة الشرق الأوسط إذ كان من شأن 'خلفيته اليهودية' أن تمثل عائقا في التعامل مع الدول العربية. ورأى كيسنجر أن نيكسن، الذي ظهرت معاداته للسامية في تسجيلات البيت الأبيض، أبعده عن الشرق الأوسط لأن إيمانه اليهودي 'قد يشوه تقديراتـ'ـه. يرى إنديك أن كيسنجر الذي كثيرا ما اعتبر واقعيا بارد الدم كان 'عاطفيا' في ما يتعلق بإسرائيل. فبفقدانه ثلاثة عشرا من أسرته بسبب النازي وبتحريره معسكرات الاعتقال وهو جندي أمريكي، كانت له علاقة شخصية عاطفية بالدولة اليهودية جعلت تعاملاته معها تختلف عن تعاملاته مع بلاد أخرى. ويصف إنديك علاقته بالقادة الإسرائيليين بأنها 'مشحونة ومعقدة'، وثمة بلا شك دليل على ذلك في الساعات المديدة من المفاوضات والخلافات المريرة على 'إعادة تقييم' العلاقة الأمريكية الإسرائيلية بعد فشل محاولة كيسنجر الأولى في اتفاقية سيناء في مارس من عام 1975. ومن المفارقات أن كيسنجر تعرض لانتقادات شديدة في ذلك الوقت من الإسرائيليين الذين يعترف كثير منهم الآن بأن نهجه في إقامة السلام ضمن لإسرائيل البقاء والرخاء.
ذهب بعض النقاد إلى أن كتاب إنديك مفرط السخاء وأنه برغم إسهام كيسنجر في الشرق الأوسط مهما يكن، فإن دبلوماسيته لم تخدم في نهاية المطاف مصالح أمريكا الوطنية. فبسبب دبلوماسية كيسنجر ـ مثلما جاء في إحدى المراجعات ـ اشترت الولايات المتحدة لنفسها 'أعباء مرهقة وكثيرا من الخصوم والأعداء'. وهذا الانتقاد متجنٍ وقصير النظر. فبرغم أن العلاقات الأمريكية مع إسرائيل أصبحت قضية أكثر إثارة للخلاف، وبخاصة بسبب علاقات رئيس وزراء إسرائيل السابق الوثيقة مع إدارة ترامب، فمن المهم الحفاظ على المنظور التاريخي. ولقد قضى نهج كيسنجر ـ مثلما يشير إنديك ـ على الخطر الوجودي الذي كان محدقا بإسرائيل بإخراجه مصر من زمرة الدول العربية المتحالفة ضدها. ومن خلال تمتينه العلاقات مع إسرائيل، أقامت الولايات المتحدة تحالفا وثيقا مع دولة ديمقراطية موالية للغرب تشترك معها في القيم وباتت قوة عظمى حقيقية في الشرق الأوسط. وهذه السياسة نالت دائما دعما قويا من قطاع عريض من الأمريكيين الذين رأوا في إسرائيل صديقا للولايات المتحدة يعتمد عليه. وهذا التحالف ـ في رأي الكثيرين ـ يمثل مصلحة وطنية أمريكية. وإسرائيل تلقى تسامحا متزايدا، بل وتلقى قبولا في بعض الأحيان، لدى الدول العربية بسبب ما لديها من قوة وتكنولوجيا وتقدم اقتصادي. وإلى جانب إعادة بناء ودمقرطة ألمانيا واليابان وكوريا الجنوبية، يجب أن يعد بقاء إسرائيل ونجاحها منجزين تاريخيين للدبلوماسية الأمريكية المستنيرة، ويستحق كيسنجر ـ بحسب ما يوضح إنديك ـ أن ينسب إليه فضل كبير في ذلك.
* كاتب المقال هو أستاذ التاريخ والعلوم السياسية في جامعة فاندربيلت ومؤلف كتاب عن كيسنجر عنوانه 'Henry Kissinger and American Power: A Political Biography'
نشر المقال في واشنطن بوست بتاريخ 15 يناير 2022
ترجمة: أحمد شافعي
لم يكن إلا لقليل من المسارات المهنية في الحياة العامة الأمريكية من الطول والتأثير مثل ما كان لمسيرة هنري كيسنجر المهنية. منذ بدايته ضمن أوائل 'مثقفي الدفاع' في الحرب الباردة وظهوره في برنامج مايك والاس الحواري في الخمسينيات من القرن العشرين، وحتى كتابه الصادر أخيرا مع إريك شميدت من جوجول حول الأثر المجتمعي للذكاء الاصطناعي، امتدت حياة كيسنجر تحت الضوء العام لأكثر من ستة عقود. في فترة عمله مستشارا للأمن الوطني ووزيرا للخارجية أشرف على الانفتاح مع الصين، والانفراجة مع الاتحاد السوفييتي، ونهاية حرب فييتنام. ترك الخدمة في عام 1977 ليصبح معلقا على الشأن العام ومستشارا تجاريا دوليا، وكذلك صاحب تأثير من وراء الستار في السياسة الخارجية الأمريكية. وبرغم حصوله على جائزة نوبل في السلام، يظل شخصية استنثائية خلافية بسبب السياسات في كمبوديا وتشيلي وجنوب آسيا وهدفا للكراهية وبخاصة من اليسار، فحينما مات شقيقه الصغير وولتر في العام الماضي تصدَّر هاشتاج 'كيسنجر الخطأ' موقع تويتر.
كتب مارتن إنديك دراسة فاتنة، وشاملة، ومفصلة لما يمكن أن يكون أهم منجز لكيسنجر. في أعقاب حرب السادس من أكتوبر سنة 1973 [يوم الغفران في الأصل] التي ساعد في التوصل إلى وقف إطلاق النار فيها، انخرط كيسنجر في 'الدبلوماسية المكوكية' التي اخترعها ليصوغ ثلاث اتفاقيات لفض الاشتباك بين إسرائيل ومصر، وإسرائيل وسوريا، وساعد في تأسيس قاعدة للسلام في الشرق الأوسط. ومثلما يشير عنوان الكتاب وهو 'معلم اللعبة: هنري كيسنجر وفن دبلوماسية الشرق الأوسط'، فإن إنديك يثني على دور كيسنجر في هذه المحادثات، واصفا مهاراته بوصفه مفاوضا عبقريا لا يكل ولا يمل، ويوعز دوام هذا السلام إلى حرص كيسنجر على تأسيس نظام دولي وليس سلاما شاملا وحسب. وهذا ما يعكس النهج السياسي الواقعي الذي اتبعه المفكر كيسنجر في العلاقات الدولية، إذ كان هدفه هو تأسيس توازن قوى ثابت في الشرق الأوسط من خلال 'تلاعب حاذق بما بين القوى المتنافسة من خصومات'.
ما يميز هذا الكتاب بحق عن دراسات أكاديمية أخرى هو أن إنديك مؤرخ شديد الاختلاف. فهو في قيامه بالبحث الأرشيفي التقليدي في الولايات المتحدة وإسرائيل، وبراعته في كتابة السيرة والأدب الثانوي، وإجراء الحوارات مع المتبقين من المشاركين على قيد الحياة، يقدم تأملا دقيقا وسردا حرفيا لكل يوم من أيام دبلومسية كيسنجر في المنطقة. غير أن إنديك سبق له العمل سفيرا في إسرائيل ووكيلا لوزارة الخارجية لشؤون الشرق الأدنى ومساعدا خاصا للرئيسين بيل كلينتن وباراك أوباما، ومن ثم فإن له خبرة لافتة بالعمل الدبلوماسي وانخراطا عميقا في الشرق الأوسط. لذلك كثيرا ما تتنقل سردية الكتاب بين جهود كيسنجر في سبعينيات القرن العشرين وتجارب إنديك التالية في محاولة التعامل مع المنطقة المضطربة. وفي افتتاحيته للكتاب، يكتب إنديك أنه في حين لا يمكن أن يقارن نفسه بكيسنجر فإنه يعتقد أنه بات يفهم كيف كان الوضع بالنسبة له.
على الرغم من أن إنديك عمل في الغالب مع الديمقراطيين، وكان أساسيا في سياسة الشرق الأوسط التي اتبعها دونالد ترامب، فمن المدهش في هذا الوقت شديد الاستقطاب أن نجده يحابي ـ في مراجعته ـ منهج كيسنجر في دبلوماسية الشرق الأوسط أكثر من مناهج الرؤساء الذين عمل معهم. يقابل إنديك بين نجاح كيسنجر في التعامل مع الرئيس السوري حافظ الأسد وفشل إدارة كلنتن في التوصل إلى اتفاقية سلام إسرائيلية سورية. ويقارن أيضا بين انتصار كيسنجر في مفاوضات سيناء الثانية، التي انتهت إلى أول انسحاب إسرائيلي ذي شأن من أراض عربية محتلة وعززت روابط أمريكا الجديدة بمصر، مع محاولة إدارة أوباما غير الناجحة للوساطة في حل الصراع الإسرائيلي الفلسطيني على أساس الدولتين.
وإنديك لديه انتقاداته لكيسنجر. فهو يقسو في حكمه على كيسنجر بسبب تجاهله إشارات الرئيس المصري أنور السادات إلى اهتمامه بإبرام صفقة مع إسرائيل قبل اندلاع الحرب في أكتوبر من عام 1973. ويعتقد أن كيسنجر أضاع فرصة في مطلع عام 1974 لإشراك الملك الأردني حسين في عملية السلام على نحو كان ليتيح للأردن ـ بدلا من منظمة التحرير الفلسطينية ـ تمثيل الفلسطينيين. فقد كان يحتمل أن تسمح السيطرة الأردنية على الضفة الغربية بانسحاب إسرائيلي ختامي على نحو لم تسمح به منظمة التحرير الفلسطينية. لكن تردد كيسنجر أتاح لزعيم منظمة التحرير الفلسطينية ياسر عرفات أن يكسب المزيد من الدعم العربي، فحصلت منظمة التحرير في قمة الرباط المنعقدة في أكتوبر من عام 1974 على الحق الحصري في تمثيل الشعب الفلسطيني.
وكيسنجر نفسه لم يخل من ندم على عدم التفاوض مع الأردن. ولكن هذه نتيجة تصعب رؤيتها باعتبارها فرصة حقيقية مهدرة للقضية الفلسطينية. يوضح إنديك أن كيسنجر كان مشتتا في ذلك الوقت: إذ ألحقت ووترجيت ضعفا كبيرا بالرئيس ريتشارك نيكسن، والانفراجة [مع السوفييت] كانت تواجه تحديات في الكونجرس، ولم يكن كل من السادات ورئيس الوزراء الإسرائيلي إسحق رابين متحمسين لمحادثات الأردن المحتملة.
يلاحظ إنديك في مذكرات نيكسن أن الرئيس قال إنه لم يول كيسنجر في البداية مهمة الشرق الأوسط إذ كان من شأن 'خلفيته اليهودية' أن تمثل عائقا في التعامل مع الدول العربية. ورأى كيسنجر أن نيكسن، الذي ظهرت معاداته للسامية في تسجيلات البيت الأبيض، أبعده عن الشرق الأوسط لأن إيمانه اليهودي 'قد يشوه تقديراتـ'ـه. يرى إنديك أن كيسنجر الذي كثيرا ما اعتبر واقعيا بارد الدم كان 'عاطفيا' في ما يتعلق بإسرائيل. فبفقدانه ثلاثة عشرا من أسرته بسبب النازي وبتحريره معسكرات الاعتقال وهو جندي أمريكي، كانت له علاقة شخصية عاطفية بالدولة اليهودية جعلت تعاملاته معها تختلف عن تعاملاته مع بلاد أخرى. ويصف إنديك علاقته بالقادة الإسرائيليين بأنها 'مشحونة ومعقدة'، وثمة بلا شك دليل على ذلك في الساعات المديدة من المفاوضات والخلافات المريرة على 'إعادة تقييم' العلاقة الأمريكية الإسرائيلية بعد فشل محاولة كيسنجر الأولى في اتفاقية سيناء في مارس من عام 1975. ومن المفارقات أن كيسنجر تعرض لانتقادات شديدة في ذلك الوقت من الإسرائيليين الذين يعترف كثير منهم الآن بأن نهجه في إقامة السلام ضمن لإسرائيل البقاء والرخاء.
ذهب بعض النقاد إلى أن كتاب إنديك مفرط السخاء وأنه برغم إسهام كيسنجر في الشرق الأوسط مهما يكن، فإن دبلوماسيته لم تخدم في نهاية المطاف مصالح أمريكا الوطنية. فبسبب دبلوماسية كيسنجر ـ مثلما جاء في إحدى المراجعات ـ اشترت الولايات المتحدة لنفسها 'أعباء مرهقة وكثيرا من الخصوم والأعداء'. وهذا الانتقاد متجنٍ وقصير النظر. فبرغم أن العلاقات الأمريكية مع إسرائيل أصبحت قضية أكثر إثارة للخلاف، وبخاصة بسبب علاقات رئيس وزراء إسرائيل السابق الوثيقة مع إدارة ترامب، فمن المهم الحفاظ على المنظور التاريخي. ولقد قضى نهج كيسنجر ـ مثلما يشير إنديك ـ على الخطر الوجودي الذي كان محدقا بإسرائيل بإخراجه مصر من زمرة الدول العربية المتحالفة ضدها. ومن خلال تمتينه العلاقات مع إسرائيل، أقامت الولايات المتحدة تحالفا وثيقا مع دولة ديمقراطية موالية للغرب تشترك معها في القيم وباتت قوة عظمى حقيقية في الشرق الأوسط. وهذه السياسة نالت دائما دعما قويا من قطاع عريض من الأمريكيين الذين رأوا في إسرائيل صديقا للولايات المتحدة يعتمد عليه. وهذا التحالف ـ في رأي الكثيرين ـ يمثل مصلحة وطنية أمريكية. وإسرائيل تلقى تسامحا متزايدا، بل وتلقى قبولا في بعض الأحيان، لدى الدول العربية بسبب ما لديها من قوة وتكنولوجيا وتقدم اقتصادي. وإلى جانب إعادة بناء ودمقرطة ألمانيا واليابان وكوريا الجنوبية، يجب أن يعد بقاء إسرائيل ونجاحها منجزين تاريخيين للدبلوماسية الأمريكية المستنيرة، ويستحق كيسنجر ـ بحسب ما يوضح إنديك ـ أن ينسب إليه فضل كبير في ذلك.
* كاتب المقال هو أستاذ التاريخ والعلوم السياسية في جامعة فاندربيلت ومؤلف كتاب عن كيسنجر عنوانه 'Henry Kissinger and American Power: A Political Biography'
نشر المقال في واشنطن بوست بتاريخ 15 يناير 2022