أفكار وآراء

التصعيد الإسرائيلي في القدس.. لماذا الآن؟!

بالرغم من أن الجرائم الإسرائيلية ضد الأراضي الفلسطينية والعربية المحتلة بوجه عام لم تتوقف على امتداد العقود الأخيرة، وبرغم الكثير من التحذيرات والإدانات الدولية للانتهاكات الإسرائيلية، إلا أن الحكومات الإسرائيلية المتابعة لم ترتدع ولم تعر ذلك أدنى اهتمام، وجاءت حكومة نفتالي بينيت لتواصل هذه السياسات، بل ولتقوم بعمليات تصعيد مخططة ومتتابعة لتحقيق أكبر قدر من المطامع الإسرائيلية، خاصة بالمسجد الأقصى المبارك وفي القدس الشرقية أيضا.

وفي الوقت الذي أغلقت فيه حكومة بينيت باب السلام مع الفلسطينيين لأسباب عديدة تعود في معظمها إلى هشاشة هذه الحكومة وضعفها، بغض النظر عن اللقاء الذي تم مع الرئيس الفلسطيني محمود عباس قبل عدة أيام، فإن حكومة بينيت تلجأ في الواقع إلى شغل الفراغ من خلال سياسات تصعيدية مخططة ومحددة الهدف كما سبقت الإشارة، وعلى نحو يغازل حماقات المستوطنين والمتطرفين الإسرائيليين وعنصريتهم من ناحية، ويسير على طريق إجهاض فرص حل القضية الفلسطينية على أساس حل الدولتين من ناحية ثانية، وهو ما دعا الأمين العام للأمم المتحدة انطونيو جوتيريش إلى التحذير من «تآكل حل الدولتين»، وذلك خلال كلمته في الاحتفال باليوم العالمي للتضامن مع الشعب الفلسطيني الأسبوع الماضي. وتكمن خطورة سياسات التصعيد الإسرائيلية في عدد من الجوانب، لعل من أهمها ما يلي:

* أولا: إن مغازلة المستوطنين والمتطرفين الإسرائيليين هي من السياسات التقليدية الشعبوية التي اتبعها رؤساء وزارات ووزراء إسرائيليون من أبرزهم: أرييل شارون وبنيامين نتانياهو من أجل دعم حكوماتهم وضمان تمتعها بتأييد المتطرفين الإسرائيليين من ناحية، فضلا عن أنها تدفع بالموقف الرسمي الإسرائيلي نحو اليمين المتطرف، ومن ثم تقضي في الواقع على أي احتمالات لإعادة وتنشيط عملية السلام مع الفلسطينيين مرة أخرى، ومحاولة فرض شروط جديدة للتسوية، بغض النظر عن قرارات الشرعية الدولية، وما تبلورت حوله عملية التسوية منذ بدايتها، من مبادئ وأسس من أهمها الحفاظ على الحقوق المشروعة و«غير القابلة للتصرف» للشعب الفلسطيني ومنها إقامة دولته المستقلة على حدود الربع من يونيو عام 1967 وعاصمتها القدس الشرقية، جنبا إلى جنب مع إسرائيل من ناحية ثانية. وعلى ذلك فإن حكومة نفتالي بينيت تسير في الاتجاه المضاد لهدف حل القضية الفلسطينية، وتحقيق السلام العادل والشامل في الشرق الأوسط، وهي ترى في ذلك إنجازا لها خلال وجودها في السلطة، بغض النظر عمّا يترتب على ذلك من نتائج مدمرة على مختلف المستويات، وحتى على الدولة والمجتمع الإسرائيلي ذاته في الأمدين المتوسط والبعيد.

* ثانيا: إن سياسات التصعيد الإسرائيلية أخذت تركز في الأسابيع الأخيرة، وخاصة منذ موسم الأعياد اليهودية في نوفمبر الماضي، على استهداف المسجد الأقصى المبارك، صحيح أن المسجد الأقصى هو محور استهداف إسرائيلي منذ ما قبل حريقه في عام 1969، ولكن الصحيح أيضا هو تصاعد وتنوع الأساليب الإسرائيلية في هذا المجال. وبينما تم اقتحام ساحات المسجد الأقصى 23 مرة في شهر سبتمبر الماضي، فإن الشهرين الماضيين سجلا زيادة مطردة ومستمرة في أعداد المستوطنين الذين يقتحمون المسجد الأقصى، حتى أصبحت الاقتحامات تتم بشكل يومي، ما عدا يومي الجمعة والسبت من كل أسبوع، وإلى جانب زيادة أعداد المقتحمين لساحات المسجد الأقصى، فإن «اتحاد منظمات جبل الهيكل » و«جماعات المعبد» لجأت -ضمن التصعيد- إلى القيام بطقوس تلمودية، وصلوات علنية في باحاته وذلك خلال تواجدهم فيها تحت حماية الشرطة الإسرائيلية بالطبع، ومن هذه الطقوس على سبيل المثال، النفخ في البوق، ومحاكات تقديم قرابين الغفران، وإدخال قرابين العرش التوراتية، ورفع العلم الإسرائيلي داخل الأقصى، كما قام وزير الشؤون الدينية الإسرائيلي «متان كهانا» بإشعال شمعة في مدخل المسجد الأقصى المبارك في الخامس من ديسمبر الماضي بمناسبة «عيد الأنوار اليهودي» ودعا إلى سرعة بناء الهيكل المزعوم وزيادة عدد المقتحمين للأقصى.

جدير بالذكر أن هذا النمط من التصعيد ضد المسجد الأقصى، يحاكي في الواقع مراحل التصعيد ضد المسجد الإبراهيمي في الخليل قبل سنوات، وضد قبر يوسف في نابلس، وضد مواقع دينية إسلامية في الضفة الغربية المحتلة، والهدف النهائي لها هو محاولة إيجاد واقع يومي من الاقتحامات المستمرة والمتزايدة من جانب المستوطنين والمتطرفين وطلاب المعاهد التوراتية، والتي أصبحت تتم على فترتين صباحية ومسائية، وذلك حتى يصبح ذلك واقعا مفروضا متكررا ومألوفا لكل الأطراف بمن فيهم الفلسطينيين، الذين يرفضون ذلك ويحاولون مقاومته، ثم الانتقال بعد ذلك إلى فرض التقسيم الزماني والمكاني في المسجد الأقصى المبارك، ومحاولة الاستيلاء التدريجي على مواقع محددة فيه تتيح لإسرائيل استمرار عمليات الحفر تحت أساساته، والتمهيد لبناء الهيكل المزعوم عندما تتهيأ الفرصة للإسرائيليين، ومن ثم وضع الفلسطينيين والعرب والعالم أمام أمر واقع جديد وخطير؛ لأنه سيترتب عليه بالتأكيد ردود فعل كثيرة، خاصة من جانب الفلسطينيين والعرب والمسلمين، ولن يمكن وقفها أو إنهائها خلال أيام أو حتى أسابيع كما يتصور المخططون والمتآمرون الإسرائيليون؛ لأن الصراع يكون بذلك التطور قد اتخذ طابعًا دينيًا خطيرًا، وهو ما حاولت الأطراف العاقلة فلسطينيا وعربيا ودوليا تجنبه إلى حد كبير.

* ثالثا: في ظل التاريخ الطويل للصراع العربي الإسرائيلي في الأمم المتحدة، وقبلها بالطبع عصبة الأمم، وفي ظل الاستهانة الإسرائيلية بقرارات الأمم المتحدة وبالرأي العام الدولي، وهو ما لا يمكن إعفاء الولايات المتحدة من تحمل جانب من المسؤولية فيه، فإنه بات من الواضح أن اللجوء إلى الأمم المتحدة والمؤسسات الدولية وحدها لا يمكن أن يؤدي إلى إجبار إسرائيل على العودة إلى طريق السلام والتفاوض حول التسوية السلمية على أساس حل الدولتين. صحيح أنه لا يمكن إغفال العامل أو العنصر الإقليمي والدولي للضغط على إسرائيل، ولكن ذلك لن يكون مجديًا في الواقع إلا إذا تعزز بضغط فلسطيني داخلي، في الضفة الغربية وقطاع غزة معا، والمدخل إلى ذلك هو استعادة الوحدة الفلسطينية بين فتح وحماس والفصائل الفلسطينية الأخرى. فذلك وحده هو القادر على إعادة صياغة ميزان القوى بين الفلسطينيين وإسرائيل ولو بشكل نسبي على الأقل، صحيح أن إسرائيل متفوقة عسكريا، ولكن الصحيح والمحزن أن الانقسام الفلسطيني هو أكبر هدية لإسرائيل وهو وحده الذي يمكن أن يؤجل فرص وإمكانات التسوية إلى أي عدد من السنين طالما ظل الانقسام قائما، فهل تتنازل الأطراف الفلسطينية، وكذلك بعض الأطراف الإقليمية عن حساباتها الصغيرة والقصيرة النظر، من أجل بناء القوة الداخلية الفلسطينية المتماسكة والقادرة على دفع إسرائيل إلى مائدة المفاوضات مرة أخرى؟ والمؤكد أن الإسراع في ذلك هو أمر بالغ الأهمية قبل أن تفرض إسرائيل واقعا، أو تقسيما مكانيا أو زمانيا أو هما معا، ضد المسجد الأقصى، وعندها لا يمكن لأحد التنبؤ بما يمكن أن تؤول إليه الأحداث في فلسطين وفي المنطقة من حولها، وبالتأكيد نقترب من نقطة الاشتعال التي سيندم عندها الجميع، فهل يمكن وقف السير الأعمى نحو الحريق؟! أما الاستمرار في عمليات التهجير القسري للفلسطينيين من سكان القدس الشرقية، وهو ما أدانته الكثير من المؤسسات الدولية، فإنه يمثل وجها آخر للعنصرية الإسرائيلية وللإصرار على قتل فرص السلام التي تتآكل بالفعل.

د. عبد الحميد الموافي كاتب وصحفي مصري