أفكار وآراء

العملية التفكيكية.. والبعد الفراغي المصاحب

تسجل العملية التفكيكية حضورا عمليا في مختلف شؤون الحياة، وهي واحدة من المناهج الفارضة نفسها بفعل حركة الحياة، أكان ذلك عن قصد، في الممارسة، أم أنه مشروع حياتي نعيشه، ونمارسه دون أن نضع له عناوين عريضة للتنفيذ والتطبيق، أو نسقطه على ممارساتنا اليومية تحت ذرائع كثيرة، فالحياة قائمة أصلا على هذه التفكيك، واستحداث عناصر جديدة، تظل في حكم الواجب استخراجها، نظرا لمتطلبات الحياة اليومية، فالحياة لا يمكن أن تستمر دون أن تحدث فيها مجموعة من الارتباكات والتصدعات والتقاطعات، لتخرج ناتجا يحمل هوية عصره، وزمانه، ولعله من محاسن التفكيك هو القضاء على مجموعة الصور النمطية التي، مع استمرارها، تبعث نوعا من السأم والملل لدى المتلقي، وتجعله يعيش في دوامة بين القبول والرفض، مما يؤجج الصراع مع النفس التي تتوق دائما نحو التجديد، والتميز، والبحث عن الجديد، حتى لو تحقق هذا الجديد في الانتقال من مكان إلى آخر، ولو لفترة زمنية مؤقتة.

ينظر إلى العملية التفكيكية بكثير من الأهمية، ذلك أنه يوجد عناوين كثيرة للحياة، بل يحرك مسكناتها، التي ينظر إليها على أنها من الثوابت غير القابلة للتفكيك أو التجزئة، أو التقسيم، وهذا الدور الذي يلعبه التفكيك يعكس حيوية الإنسان في قدرته على إيجاد كثير من المسارات في حياته اليومية، وعدم الجمود، وعلى القدرة في تحريك الفهم المطلق لمختلف العناوين في حياتنا اليومية، وإن كان هناك نوع من التخوف فيما يخص تفكيك النصوص الدينية، التي لا تقبل النقاش في مرجعيتها فيما يعرف 'بإعادة قراءة النص' وإن جازف البعض بالدخول في هذا المعترك، وهي مخاطرة كبيرة، خاصة إذا لم يوجد فهم واع للنصوص، وأسباب نزولها، ومجموعة الإرهاصات التي كانت سببا في نزولها، وفي عدم معرفة عموميات الألفاظ وخصوصيات أسبابها، أو في وجودها في حاضنة المعرفة الدينية على وجه الخصوص، كما يأتي في المرتبة الثانية في الخطورة هو تفكيك القيم الضابطة لكثير من سلوكيات الإنسان اليومية، وهذه، الأخيرة، تبقى من المحرمات 'العرفية' لأن جل القيم الإنسانية هي في خدمة الناس، وتنظيم علاقاتهم بعضهم ببعض، والقليل من القيم التي تشذ عن هذه الصورة الإيجابية لأثر القيم في حياة الناس، ولكن مع ذلك، تشهد الحياة، بفعل تطورها الذي لا يتوقف، الكثير من التغيير، حتى في القيم الإيجابية، وهذه من الجوانب التحررية التي تعيشها الأجيال، بناء على مجمل الأدوات المستخدمة في حاضرهم، فهم غير مسكونين بماضي آبائهم ومن قبلهم من الأجداد، فتلك مرحلة مرت بكل مكتسباتها، والأجيال المتلاحقة، تبقى، في حل من كثير من هذه المكتسبات، لأنها لم تساهم في صنعها، ولذلك فهي غير ملامة، إن لم تتموضع على ما توارثته فقط.

هناك ثمة علاقة قائمة بين العملية التفكيكية والبعد الفراغي المساهم، وهي علاقة تكاملية بين الطرفين (سبب ونتيجة) فكلما أوغلنا في تفكيك الحزم من حولنا، في الاجتماع، في الثقافة، في الاقتصاد، كلما أوجدنا متسعا للحوار، والأخذ والعطاء، وكلما اتسعت الرؤية أكثر، وأظهر كثيرا من جماليات الأشياء من حولنا، فالفراغات تحتاج إلى كثير من المساحات، وهذه المساحات لن تتحقق إلا بممارسة الكثير من تفكيك العناصر، خاصة إذا كانت البنية القائمة لذات الموضوع بينة قديمة ومستهلكة، ومضى عليها حينا من الدهر، مما يوقعها في خانة الصور النمطية المسترسلة عبر الزمن والجغرافيا، ولننظر اليوم، مثلا، على مجموعة من البنايات القائمة، ولو على مستوى المنازل القديمة، كيف استطاع مجموعة المهندسين المعمارين إضفاء الكثير من التجديد في بنية العمارة الحديثة، فبعد أن كان البيت العماني المكون من غرفه الثلاث، ومجلس للرجال، وآخر للنساء، وفق مكون بنائي متراص الجدران، خرجت الهندسة الحديثة بفعل رؤى صانيعها بأفكار إبداعية رائعة التكوين، حيث الفراغات المعلقة، أو الجانبية، أو اقتطاع أجزاء مساحية 'بهوية' للمنزل، أو جعل البناء على شكل (L) أو (W) جعل البناء غير جامد، حيث يتم توزيع المساحات والفراغات المحيطة بالمبنى الأساسي، فتشعرك بالكثير من الحرية، واتساع الأفق الممتد، دون أن تحتكرك الجدران الأربعة فتشعر وكأنك في سجن بصورة غير مباشرة، فتفكيك الشكل القديم للمنازل التقليدية، جعل العمارة اليوم تأخذ منعطفا مهما في حياة الناس، وقد ينعكس ذلك على كثير من أنشطتهم اليومية.

هل ثمة علاقة توافقية، أو تصادمية بين البنيوية والتفكيك؟، أو تعد مواجهة بين الأصل والفرع؟ أو ينظر إلى ذلك على أنه صراع الأجيال، وباتساع أكبر صراع بين الحضارات؟ أم أن تسارع معززات الحياة اليومية هو الذي يفرض نفسه على الأجندة؟ ومع ذلك يمكن القول: أي كان عنوان البنيوية، فإن دراستها تحتاج إلى هذا التفكيك لتبيان عناصرها المختلفة، ومن خلال فك الارتباط بين هذه العناصر يمكن الوصول إلى حقيقة البنيوية في المجال المراد دراسته، وإلا بقت الكتل كما هي جاثمة في أمكنتها، وأزمنتها، دون أن يستفاد منها في واقع الحياة اليومية، فاليوم -على سبيل المثال- مطروح على الجمهور العام في السلطنة جائزة بلعرب بن هيثم للتصميم المعماري 'والتي تستهدف الشباب العُماني المتخصص في مجالات العمارة والتصميم' وعمان، ولله الحمد، غنية بالعمارة، سواء التاريخية، أو ذات الطابع الإسلامي، ومعنى ذلك أن هناك بنية معمارية عالية القيمة، تكاد لا تخلو قرية أو حاضرة من حواضر عمان وقراها من شيء من هذه البنى التاريخية، فما على هؤلاء المتقدمين لهذه الجائزة سوى تفكيك هذه البنى المعمارية بخصوصيتها العمانية، واستخراج مكنوناتها التاريخية، ومن ثم حقنها بالوسائل التقنية الحديثة للخروج بمنتج يمكن أن يكون له مساحة متميزة في هذه الجائزة السامية.

كل مشاريع الحياة قابلة للتفكيك، واستخراج عناصرها البنيوية، وتفنيدها، وعزل بعضها، فالثوابت غير موجودة في عناصر الحياة وتشكلاتها المختلفة، ولكن حتى هذا الجانب محكوم بكثير من ضرورة توفر المعرفة، ومن ضرورة التحام المعرفة بالخبرة الواسعة للحياة، ومعرفة ظروف الناس، ومتطلباتهم، ومجموعة التجاذبات المكونة لعناصر المجتمع الثقافية، والاقتصادية، والاجتماعية، فالمسألة غير قابلة لترك 'الحبل على الغارب' فهي محكومة بكثير من المحددات، ومن الشروط المعرفية، وإلا لأصبحت مسألة التفكيك مشاعة، وهذا الأمر لن يكون مقبولا إطلاقا تحت أية ذريعة كانت، فتأصيل المعرفة، يظل، أمرا مهما، وأساسيا، قبل الدخول في عمليات التفكيك المختلفة، فمن أفتى بغير علم فقد وقع في الإثم، ففي الحديث المروي عن الرسول -صلى الله عليه وسلم-، قوله: 'من أفتى بفتيا غير ثَبْتٍ، فإنما إثمه على ما أفتاه' -كما في الرواية- وبالتالي فاتخاذ قرار فك الحزم مهما كان نوعها، أو موضوعها يحتاج إلى كثير من الدراية والتمحيص، والأخذ بالمنهج العلمي في ذلك، لأن الإقدام على تفكيك البنى القائمة، يستدعي، في المقابل، إنشاء بنى أخرى جديدة وبمواصفات جديدة، وبمنتج جديد، قابل للتقييم، ليتناسب مع زمانه ومكانه، وإلا عد التغيير لعنة وليست مكتسبا ذات قيمة.

من ميزة البعد المعرفي أنه قابل لانتشار التفكيك، أي 'اللامركزية' وإن كانت له خاصيته البنيوية المركزية من حيث الأسس التي تقوم عليها المعرفة، ولكن المهم أكثر ليس فقط هذه الأسس، وإنما توظيف المعرفة لتكون قادرة على الاستجابة لمتطلبات الحياة اليومية، فالمعرفة في حد ذاتها وسيلة، وليس غاية كما يعتقد البعض، وبالتالي فمتى استطاع حامل المعرفة توظيف أسسها عبر عمليات التفكيك، استطاع بذلك أن يقدم منجزا معرفيا عالي القدر والقيمة، والموضوعية، وعلى صانعي القرار تبني أي من المناهج التفكيكية المناسبة للحياة اليومية للموضوعات التي هي محل اهتمام في زمنها وجغرافيتها، وصانع القرار هنا ليس بالضرورة، بمعناه السياسي، ولكن أي فرد يرى في نفسه أن له القدرة على المساهمة في المجال الذي فيه، وبما يسهل على الآخرين برامج حياتهم، ومناهجها اليومية، فالأب، والمدرس، وقادة الرأي، كلهم معنيون بتفكيك الحزم المعرفية، والخبرات الحياتية، وتوظيف ذلك للصالح العام، فالحياة، لم تولد بعناصر جامدة، وإنما بعناصر حيوية وديناميكية، قابلة للتشكل وقابلة لإعادة إنتاجها مرات ومرات، مشفوعا ذلك بالمعرفة، كمحدد أسمى ومهم في عمليات التفكيك هذه، ولا يمكن التنازل عن المعرفة للوصول إلى هذه الغاية.