أدوار المثقف بين العزلة والتسلّق
الاحد / 12 / جمادى الآخرة / 1443 هـ - 21:24 - الاحد 16 يناير 2022 21:24
تتأرجح الثقافة مفهوما بين الكتابة والبحث والثقافة، ومنها وعبرها نجد تعريفات كثيرة لكلمة 'مثقف'بين من يحصرها في الباحث عن المعرفة عبر استقصائها ثم استيعابها لنفسه، وبين من يتجاوز هضمها واستيعابها إلى إعادة إنتاجها، أما السبيل لإعادة إنتاج المعرفة هو ما يمكن أن تحمله الصفة الثانية 'الكاتب' عبر فعل الكتابة أيا كانت تشكلات الكتابة. لكن المثقف ينبغي أن يتجاوز المستويين الأول والثاني في البحث والكتابة إلى مرحلة ثالثة هي مرحلة إنتاج وتوجيه الوعي العام عبر ما هضم وما امتلك من أدوات معرفية تمكنه من الاستقراء والتأمل والتحليل والاستنتاج.
وضمن هذه التصنيفات اختلط الأمر ليُظنّ بأن الكتاب مثقفون، والباحثين مثقفون، ثم حتى ضمن الصنف الثالث كثرت اتهامات بعضهم بالخيانة. وما الخيانة المقصودة هنا إلا خيانة الدور المنوط بالمثقف في إخلاصه لقضايا الإنسان ونهوضه بها عبر سلطته العقلية المعرفية من خلال الكتابة أو الحديث ووصولها مجتمعيا، أو سلطته الروحية بتأثيره العاطفي على أكبر عدد ممكن من متابعيه وقرائه ومحبيه.
والمرجومون بالخيانة ثلاثة من المثقفين:
- المنحاز لقضايا معينة قد يميل لها، ويوظف كل إمكاناته للدفاع عنها مهملا قضايا أخرى لا تقل عنها قدرا وأهمية، بل قد تسمو عليها قيمة أو هدفا. ويشمل الانحياز هنا كذلك تركيز اهتمامه ودفاعه على مكان دون آخر، أو زمان محدد دون سواه.
- الصامت الذي ركن للعزلة وانتفاء المشاركة والتفاعل سلبا أو إيجابا، سواء أكانت تلك العزلة اختيارية أم إجبارية. يتضح هنا أن الصمت خيانة على افتراض أن على المثقف المشاركة في توجيه وصنع القرار، ولا ينظر ضمن هذا السياق لتحولات الإنسان (والمثقف إنسان) الانفعالية والفكرية وحتى المصيرية التي قد تسلمه لصمت مؤقت أو أبدي.
- المتسلق الذي يختار بعناية قضية وطنية أو مجتمعية كبرى، ليجعل منها مطيّة لمنافعه الشخصية ومآربه الآنية. ورغم أن القضية هنا قضية نبيلة إلا أن وسائل هذا المتسلق غير نبيلة. وقد يتجاوز خلال سعيه هذا مرحلة المشاركة لمحاولة صنع جبهة تغذية شعبية لتبني رأيه وحشد الجماهير لدعمه. وهو في ذلك 'حاطب ليل' لا يرى أبعد من حاجته. فإن بلغت وسائله مناه رفع عقيرته متباهيا أو ساردا لمطالبه التي وصلها ب 'نفخ' ذاته وتحجيمها ليُصَيّر منها سُلطةً لا تُرد، أو أن تخرج هذه الوسائل في الحشد والتأجيج عن السيطرة فتكبر حتى تتجاوزه وأهدافه العجلى إلى ما هو أخطر وأعمق فينسحب حينها وكأنه لم يوقد شرارتها، ولم يشعل فتيلها الأول.
ومع انفتاح وسائل الإعلام التقليدي وغير التقليدي، ومع اتساع وتعاظم تأثير وسائل التواصل الاجتماعي على تشكيل أو تضليل الرأي العام تعاظمت الفجوة بين المثقفين أنفسهم من جهة، وبينهم وبين عامة الشعب بمختلف طبقاتهم الفكرية والاجتماعية من جهة أخرى. فضلا عن الهوة الموجودة أصلا بينهم وبين أدعياء الثقافة وأنصاف المثقفين الذين وجدوا ضالتهم مع اتساع رقعة الصمت من قبل المثقفين المفكرين.
إننا نعيش اليوم في واقع يصعب معه التمييز بين المتضادات الكثيرة، وتكبر معه مسؤولية المثقف التنويري المخلص المسكون بنزعة التغيير الأفضل لمجتمعه فكريا واجتماعيا واقتصاديا. وليس ذلك بالأمر الهيّن إن ما وضعنا الأفكار في مكانة عليا يصعب معها التغيير ويعظم بها التأثير.
ربما آن الوقت ليدرك بعض مثقفينا أن الفكرة التقليدية ـ في أن عزلة المثقف تسلمه للتأمل، وتمكنه من الإدراك الواعي والتحليل العميق ـ آن لها أن تتغير، وحينها ربما يحمد بعضهم ما يحسبه شرا كونه ضمن هذه الطبقة الاجتماعية أو تلك ممن يكابدون الحياة اليومية بتحدياتها ومشاقها لأن ذلك يجعلهم أقرب من مجتمعاتهم وأقدر على التعبير عن حاجاتهم وقضاياهم دون التسلق على آلامها، أو التمسّح بنبلها سعيا لقشور زائلة؛ مناصب تُؤتى أو مصالح تُقضى.
ولو لم يكن للمثقف دور شاق في توجيه ودعم قضايا الرأي العام دون مصالح شخصية لكانت الثقافة صفة عامة للجميع لا يتميز حاملوها ولا ترهقهم مسؤولياتها. يقول جرامشي:'إن كل الناس مثقفون، ولكن لا يمارس كل الناس دور المثقف'.
بانتظار قطار الواقع حاملا لنا مثقفا قائدا، ذلك المثقف العمومي الذي وصفه 'فوكو' بقوله: 'المثقف العمومي يمثل وعي المجتمع ككل ويجب أن يكون مدافعا وحاملا للحقيقة والعدالة؛ ذلك لأنه يمتلك نظرة شاملة للمجتمع تسمح له بالتمييز بين الصحيح والخطأ، وتعد وظيفته الأساسية هي الدفاع عن الطبقات الضعيفة، وتأسيس مجتمع عادل ومتساو بالنسبة للجميع'.
لا نريد مثقفا خصوصيا (كذلك حسب وصف 'فوكو'): 'يتصرف بحسب علاقة أخرى، ويوظف عددا معينا من الأفكار المعرفية التي يملكها بطريقة سريعة عجلى، يجري من خلالها نقدا محددا لنقطة خاصة'.
• حصة البادي كاتبة وأكاديمية عمانية
وضمن هذه التصنيفات اختلط الأمر ليُظنّ بأن الكتاب مثقفون، والباحثين مثقفون، ثم حتى ضمن الصنف الثالث كثرت اتهامات بعضهم بالخيانة. وما الخيانة المقصودة هنا إلا خيانة الدور المنوط بالمثقف في إخلاصه لقضايا الإنسان ونهوضه بها عبر سلطته العقلية المعرفية من خلال الكتابة أو الحديث ووصولها مجتمعيا، أو سلطته الروحية بتأثيره العاطفي على أكبر عدد ممكن من متابعيه وقرائه ومحبيه.
والمرجومون بالخيانة ثلاثة من المثقفين:
- المنحاز لقضايا معينة قد يميل لها، ويوظف كل إمكاناته للدفاع عنها مهملا قضايا أخرى لا تقل عنها قدرا وأهمية، بل قد تسمو عليها قيمة أو هدفا. ويشمل الانحياز هنا كذلك تركيز اهتمامه ودفاعه على مكان دون آخر، أو زمان محدد دون سواه.
- الصامت الذي ركن للعزلة وانتفاء المشاركة والتفاعل سلبا أو إيجابا، سواء أكانت تلك العزلة اختيارية أم إجبارية. يتضح هنا أن الصمت خيانة على افتراض أن على المثقف المشاركة في توجيه وصنع القرار، ولا ينظر ضمن هذا السياق لتحولات الإنسان (والمثقف إنسان) الانفعالية والفكرية وحتى المصيرية التي قد تسلمه لصمت مؤقت أو أبدي.
- المتسلق الذي يختار بعناية قضية وطنية أو مجتمعية كبرى، ليجعل منها مطيّة لمنافعه الشخصية ومآربه الآنية. ورغم أن القضية هنا قضية نبيلة إلا أن وسائل هذا المتسلق غير نبيلة. وقد يتجاوز خلال سعيه هذا مرحلة المشاركة لمحاولة صنع جبهة تغذية شعبية لتبني رأيه وحشد الجماهير لدعمه. وهو في ذلك 'حاطب ليل' لا يرى أبعد من حاجته. فإن بلغت وسائله مناه رفع عقيرته متباهيا أو ساردا لمطالبه التي وصلها ب 'نفخ' ذاته وتحجيمها ليُصَيّر منها سُلطةً لا تُرد، أو أن تخرج هذه الوسائل في الحشد والتأجيج عن السيطرة فتكبر حتى تتجاوزه وأهدافه العجلى إلى ما هو أخطر وأعمق فينسحب حينها وكأنه لم يوقد شرارتها، ولم يشعل فتيلها الأول.
ومع انفتاح وسائل الإعلام التقليدي وغير التقليدي، ومع اتساع وتعاظم تأثير وسائل التواصل الاجتماعي على تشكيل أو تضليل الرأي العام تعاظمت الفجوة بين المثقفين أنفسهم من جهة، وبينهم وبين عامة الشعب بمختلف طبقاتهم الفكرية والاجتماعية من جهة أخرى. فضلا عن الهوة الموجودة أصلا بينهم وبين أدعياء الثقافة وأنصاف المثقفين الذين وجدوا ضالتهم مع اتساع رقعة الصمت من قبل المثقفين المفكرين.
إننا نعيش اليوم في واقع يصعب معه التمييز بين المتضادات الكثيرة، وتكبر معه مسؤولية المثقف التنويري المخلص المسكون بنزعة التغيير الأفضل لمجتمعه فكريا واجتماعيا واقتصاديا. وليس ذلك بالأمر الهيّن إن ما وضعنا الأفكار في مكانة عليا يصعب معها التغيير ويعظم بها التأثير.
ربما آن الوقت ليدرك بعض مثقفينا أن الفكرة التقليدية ـ في أن عزلة المثقف تسلمه للتأمل، وتمكنه من الإدراك الواعي والتحليل العميق ـ آن لها أن تتغير، وحينها ربما يحمد بعضهم ما يحسبه شرا كونه ضمن هذه الطبقة الاجتماعية أو تلك ممن يكابدون الحياة اليومية بتحدياتها ومشاقها لأن ذلك يجعلهم أقرب من مجتمعاتهم وأقدر على التعبير عن حاجاتهم وقضاياهم دون التسلق على آلامها، أو التمسّح بنبلها سعيا لقشور زائلة؛ مناصب تُؤتى أو مصالح تُقضى.
ولو لم يكن للمثقف دور شاق في توجيه ودعم قضايا الرأي العام دون مصالح شخصية لكانت الثقافة صفة عامة للجميع لا يتميز حاملوها ولا ترهقهم مسؤولياتها. يقول جرامشي:'إن كل الناس مثقفون، ولكن لا يمارس كل الناس دور المثقف'.
بانتظار قطار الواقع حاملا لنا مثقفا قائدا، ذلك المثقف العمومي الذي وصفه 'فوكو' بقوله: 'المثقف العمومي يمثل وعي المجتمع ككل ويجب أن يكون مدافعا وحاملا للحقيقة والعدالة؛ ذلك لأنه يمتلك نظرة شاملة للمجتمع تسمح له بالتمييز بين الصحيح والخطأ، وتعد وظيفته الأساسية هي الدفاع عن الطبقات الضعيفة، وتأسيس مجتمع عادل ومتساو بالنسبة للجميع'.
لا نريد مثقفا خصوصيا (كذلك حسب وصف 'فوكو'): 'يتصرف بحسب علاقة أخرى، ويوظف عددا معينا من الأفكار المعرفية التي يملكها بطريقة سريعة عجلى، يجري من خلالها نقدا محددا لنقطة خاصة'.
• حصة البادي كاتبة وأكاديمية عمانية