أفكار وآراء

بُنية الخطاب العماني.. في الذكرى الثانية لرحيل السلطان قابوس

وفاءً ومحبةً.. لجلالة السلطان قابوس بن سعيد طيّب الله ثراه، في الذكرى الثانية لرحليه بتاريخ: 10/1/2020م؛ تأتي هذه القراءة في خطابه المؤسِّس للدولة الحديثة.

في الدولة.. قد تتعدد جهات صدور الخطاب السياسي، بيد أن نظام الحكم هو ما يحدد فلسفته، وفي الدولة العمانية الحديثة التي تقوم على النظام السلطاني، والذي يكون رأسه السلطان، تتبعه مؤسسات الدولة، ومنه تستمد مشروعيتها، وتعمل على ترجمة خطابه، وهو نظام يشرك مكونات الشعب عبر مجلس الشورى والمؤسسات العامة، والاستماع المباشر للناس من لدن جلالته خلال اللقاءات السامية، ففي «النظام الأساس للدولة»: (يقوم الحكم في السلطنة على أساس العدل والشورى والمساواة. وللمواطنين -وفقاً لهذا النظام الأساسي والشروط والأوضاع التي يبيّنها القانون- حق المشاركة في الشؤون العامة). تجمع خطابات جلالة السلطان في فلسفتها السياسية بين نظريتي بناء الدولة وآليات عملها؛ وهما:

أ. النظرية السياسية المعيارية؛ التي تقوم فيها مؤسسات الدولة على المبادئ، فتلتزم المؤسسات بالقيم الأخلاقية والمبادئ العليا التي تحدد مسار سياسة الدولة.

ب. النظرية السياسية التجريبية؛ حيث تطور الدولة من رؤيتها وإدارتها باستمرار، وفقاً لما تكتسبه من خبرات وتجارب، ولما يمر عليها من ظروف وتحديات.

وبتفعيل هاتين النظريتين استطاعت السلطنة أن تحافظ على مصداقيتها أمام شعبها والعالم معاً، لم تركن إلى المتغيرات اللحظية فتفقد الثقة بها، أو لا يُتنبأ بتصرفاتها بسبب تقلبها، وإنما جعلت المبادئ الأخلاقية العليا للسياسة المتزنة هي المعيار الذي تزن به الظروف وتعالج به التحديات. كما أنها لم تكن علاقاتها فاترة مع الدول، بل متفاعلة بحسبما تبديه السياسة الدولية، محافِظة على معادلة صفرية اتجاه الخصومات الدولية، حتى أصبحت السلطنة مرجعاً دولياً لحل المشاكلات السياسية وفق مبادئ العدالة وقيم التعاون، دون التدخل في الشئون الداخلية.

إن خطابات السلطان قابوس لا تزال بكراً من حيث دراستها، ومن الأهمية التطرق إليها بالتحليل، فهي منظومة مكتملة، تميّزت بتطبيقها العملي من خلال مؤسسات الدولة؛ التي أصبحت مثالاً في الأمن والاستقرار، وفي السلم العالمي والتسامح الوطني. وهذه أهم مرتكزات خطابات جلالته:

- استنادها إلى الدين الإسلامي، فلم يتنكب السلطان له، بل بنى عليه، وهذا ما أنتج خطاباً متزناً، فهو بجانب بنائه الدولة الحديثة، وأخذه بمعطياتها القانونية والمؤسسية؛ لم يتصادم مع الضمير الاجتماعي وعمقه الحضاري، ولم يشعر المجتمع بالانفصام بين دينه ودولته، يقول السلطان قابوس: (نحن كأمة إسلامية نضع نصب أعيننا القيم النبيلة والأفكار السامية والتمسك بمبادئ ديننا الحنيف). إن من أسباب نشوء الكراهية في بعض المجتمعات العربية والإسلامية محاولة التحديث بالقطيعة مع ماضي الأمة، فنشأت تيارات عملت على مواجهة هذه القطيعة باستعمال العنف.

- استفادتها من التراكم المعرفي للثقافة العمانية، حيث أبدع العمانيون في مختلف جوانب المعرفة، فقد تفاعلوا مع العلوم الإسلامية والإنسانية، وأسهموا في تطويرها، ودوّنوا مئات الكتب، وتركوا مكتبة عامرة بالمخطوطات، توزعت داخل عمان وخارجها، فأنشأت الدولة مؤسسة للعناية بها وتحقيقها ونشرها، يقول جلالة السلطان قابوس رحمه الله: (لقد أسهمت عمان على امتداد تاريخها الطويل في صنع الحضارة الإنسانية، وكان لأبنائها جهد غير منكور في خدمة هذه الحضارة). وعن ضرورة الاهتمام بالتراث العماني، وأهمية الاستمداد منه يقول جلالته: (فعمان بلد ذو تاريخ بعيد له شخصيته الذاتية المتميزة وفلسفته الخاصة في الحياة الاجتماعية، ومن ثم يجب أن لا يسمح بالتقليد غير الواعي أن يعيق تقدمه، أو يؤثر سلباً على تراثه الخالد).

- الإنسان.. محور هذه الخطابات وهدفها: (الإنسان العماني.. هو هدفنا أولاً وأخيراً)، وتسخير كل الموارد التنموية بالدولة له: (إن التنمية ليست غاية في حد ذاتها، وإنما من أجل بناء الإنسان)، لقد بذلت الدولة جهوداً كبيرة لأجل تعليم العماني، وتدريبه وتأهيله، لينعم بحياة فضلى، وليساهم في بناء وطنه، يقول طيّب الله ثراه: (إن بناء الإنسان العماني وتكوين شخصيته المتكاملة، وتعليمه وتثقيفه، وصقله وتدريبه، هو في مقدمة الأهداف النبيلة والغايات الجليلة التي نسعى دائماً وأبداً إلى تحقيقها، من أجل توفير العيش الكريم لكل فرد ‏على هذه الأرض الطيبة المعطاء. وكل ما تم إنجازه خلال الأعوام الماضية إنما هو خطوات على الدرب الطويل الذي يجب أن نقطعه معاً متكاتفين متعاونين، وصولاً إلى الغاية الكبرى التي تتمثل في بناء مجد هذا الوطن وإعلاء رايته).

- خطابات متدرجة.. ومواكبة لبناء الدولة الحديثة ومؤسساتها، ومراعية للمتغيرات الدولية، خاصةً.. الظروف التي تمر بها المنطقة، حيث تبنت خطابات جلالته طيّب الله ثراه المرحلية: (من أولويات المرحلة التي نمر بها والمرحلة القادمة التي نستشرفها؛ مراجعة سياسات التعليم وخططه وبرامجه، وتطويرها بما يواكب المتغيرات التي يشهدها الوطن، والمتطلبات التي يفرضها التقدم العلمي والتطور الحضاري، وصولاً إلى بناء جيل مسلح بالوعي والمعرفة والقدرات المطلوبة للعمل المفيد)، (لقد تحدثنا من قبل، وفي مثل هذه المناسبة الجليلة، عن تجربة الشورى العمانية، وعن النهج المتدرج الذي اخترناه لإقامة بنيانها وإعلاء أركانها، على قواعد ثابتة ودعائم راسخة، تضمن لها التطور الطبيعي، الذي يلبي متطلبات كل مرحلة من مراحل العمل الوطني، وبما يستجيب لحاجات المجتمع ويواكب -ضمن رؤية مستقبلية واعية، وخطوات تنفيذية واعدة- تطلعاته إلى مزيد من الإسهام والمشاركة في صنع القرارات المناسبة، التي تخدم المصلحة العليا للوطن والمواطنين).

- خطابات واقعية.. فلم تَعِد الشعب بمثاليات غير قابلة للتحقق، وإنما راعت الواقع رغم تعقده وصعوبة تفكيك اشتباكاته، كما أنها عملية؛ بوسع الدولة عبر مؤسساتها ترجمتها وتحويلها إلى مشاريع على أرض الواقع، يقول جلالته: (إننا نواصل جهودنا وبرامجنا الإنمائية ضمن إطار يضع برامج التنمية الاقتصادية والاجتماعية في مقدمة اهتماماتنا، إضافة إلى تطوير الأسس والإنجازات القائمة، وذلك وفق أولويات تلبي احتياجات مختلف المناطق من المشاريع الضرورية والحيوية، كما نواصل جهودنا لتطوير الجهاز المدني للدولة بما يتفق وطبيعة المهام التي تواجهها مسيرتنا الوطنية، وبما يساعد على الارتقاء بمستوى العمل في كافة الوحدات والمرافق، لتؤدي خدماتها للمواطن على أفضل وجه).

- تمتعت بالجزالة اللغوية، وسلامة تراكيبها، وسهولة أسلوبها، تأسر من يستمع إليها، وتأخذ بمجامع لُبِّه، فكانت من أهم عناصر الكاريزما المنبثقة من شخصية السلطان قابوس، إضافةً.. إلى سمته الرزين وهيئته الأنيقة وأسلوب إلقائه المعبِّر. كما اتسمت خطاباته بلغة أخلاقية رفيعة، لم يستعمل فيها كلمات جارحة لأحد، ولو كان خصماً للسلطنة، أو يقوم بأعمال غير ملتزمة بالقانون الدولي ضدها، فلم يكن الهدف الانتقام، وإنما إصلاح العلاقات وتقريب وجهات النظر، والقضاء على بؤر الفتنة وإزالة دوافع الكراهية وروافعها.

- حُسن اختيار وقت إلقاء الخطابات ومكانها، فقد كان صاحب الجلالة السلطان قابوس يلقي خطاباته في اليوم الوطني للسلطنة من منصة التشريفات السلطانية، أو في افتتاح جلسات مجلس الوزراء ومؤسسات الدولة التشريعية، أو يتوجه بها إلى الشعب عند الأحداث المفصلية عبر وسائل الإعلام، مما جعل لها وقعاً عميقاً في نفوس العمانيين، وتقديراً حقيقياً عند المستمعين إليها، حيث تصبح محور تداول وتحليل في وسائل الإعلام المختلفة؛ المحلية والعالمية، ثم تتحول إلى مشاريع عملية، لأهمية المكان والزمان الذي يختاره السلطان لإلقاء خطابه.

إن من الواجب الوطني دراسة النطق السامي لصاحبَي الجلالة السلطان قابوس رحمه الله والسلطان هيثم بن طارق حفظه الله، والربط بين خطاباتهما في التحليل، وتتبع مسار تطورها، والغايات التي تصبو إليها، فهي تشكّل صرح البناء والكرامة والمحبة لعمان وشعبها، وتمثّل النظرية السياسية العمانية التي ينبغي وضعها في مصافّ حقول المدارس السياسية عالمياً.

• خميس العدوي كاتب عماني مهتم بقضايا الفكر والتاريخ ومؤلف كتاب 'السياسة بالدين'