الاقتصاد الفضي والشيخوخة النشطة
السبت / 11 / جمادى الآخرة / 1443 هـ - 18:52 - السبت 15 يناير 2022 18:52
تفرض التحولات الديموغرافية في دول العالم إلحاحًا على السياسات الاجتماعية لتكون أكثر مرونة في سبيل استيعاب الفرص التي تتيحها والاستثمار الأمثل فيها واحتواء الطفرات الاجتماعية الطبيعية وغير الطبيعية التي تفرضها وذلك يقتضي وجود سياسات سكانية مُبتكرة وفعالة لا تهدف بالمفهوم التقليدي الشائع إلى (ضبط النمو السكاني) بقدر ما تشتغل في المقام الأول على مواءمة هذا النمو بطبيعة وحجم الموارد المتاحة في البلدان من ناحية ومن ناحية أخرى إدماج خصائص هذا النمو ومفرزاته في سبيل تحريك الدورة الاقتصادية عبر منتجات جديدة أو أسواق ناشئة أو طبيعة خدمات مخصصة لفئات بعينها أو للتحول إلى تنشيط اقتصادات بعينها تلك التي تلبي حاجيات مراحل عمرية في الهرم السكاني. ووجود السياسة السكانية المبتكرة ضمان أساس للتنبه إلى الخيارات الأكثر دقة في السياسة الاجتماعية وما ينتج عنها من برامج ومبادرات أو استراتيجيات وموجهات.
ومن بين الفئات التي يتوقع أن تكون الأكثر حسمًا في تنشيط الاقتصادات خلال السنوات العشر المقبلة هي فئة كبار السن (+65) نظير مؤشرات الإنفاق الاستهلاكي لهذه الفئة وتصاعدها خلال العقود الفائتة ونظير طبيعة التحول الديموغرافي الناشئ وفرص العائد الديموغرافي التي تعيشها بعض بلدان العالم بما فيها المنطقة الخليجية. وتشير بيانات (الإسكوا) إلى أنه بين عامي 1970 – 2015 تصاعد عدد المسنين في المنطقة العربية 4 مرات من 7 ملايين نسمة إلى قرابة 27 مليون نسمة ويتوقع أن يستمر هذا التصاعد لحدود 49 مليون نسمة بحلول 2030 وقرابة 102 مليون نسمة بحلول 2050 أي ما يشكل 15.1% من تركيبة السكان في المنطقة العربية. وعلى المستوى المحلي وحسب السيناريو المتوسط للإسقاطات السكانية يتوقع أن تصل نسبة كبار السن إلى قرابة 9.8% من تركيبة السكان في المجتمع العُماني بحلول عام 2040. ورغم أن المجتمع في عُمان يستند إلى خصيصة أصيلة وهي تجذر مفهوم الأسر الراعية لدورة الحياة بما في ذلك رعاية كبار السن وتقديم الخدمات لهم في وسط المحيط الأسري وندرة الحاجة إلى تدخل مؤسسات اجتماعية وسيطة. ورغم تجذر هذه الرعاية بناء منظومة ثقافية وقيمية تشكل هذا الالتزام وتوجهه وتعين راسم السياسة الاجتماعية على احتوائه. إلا أن ثمة متغيرات إقليمية ودولية، اجتماعية منها واقتصادية وثقافية تفرض ضرورات للتحول إلى ما يعرف بمفهوم 'الشيخوخة النشطة'.
تعرف المفوضية الأوروبية الشيخوخة النشطة بأنها السياسة الموجهة نحو 'مساعدة الناس على البقاء مسؤولين عن حياتهم لأطول فترة ممكنة مع تقدمهم في السن ، وحيثما أمكن، المساهمة في الاقتصاد والمجتمع'. وتقتضي ضرورة التحول إلى هذا المفهوم في تقديرنا عدة موجبات منها:
- أن هذا المفهوم لا ينظر إلى الشيخوخة بوصفها مرحلة من الحياة لها ضروراتها الرعائية وإنما ينظر إلى تهيئة الفرد عبر مختلف مراحل العمر للوصول إلى شيخوخة مزدهرة ومنتجة وبالتالي فإن الاستثمار في هذا المفهوم يبدأ من مراحل التكوين الأولى.
- يتسق هذا المفهوم مع النظرة العالمية المتجددة لكبار السن عبر النهج القائم على حقوق الإنسان من ناحية وعبر النظر إليهم اليوم بوصفهم أدوات منتجة في مجتمعاتها وقادرة على إيجاد دورة اقتصادية متكاملة وبوصفهم دعامات اقتصادية وثقافية وخبراتية لهذه المجتمع يفترض التحول بها إلى مراحل الإدماج الكلي في دورة حياة هذه المجتمعات.
ويصعد موازاة بصعود مفهوم الشيخوخة النشطة مفهوم آخر وهو 'الاقتصاد الفضي' ويشتغل هذا المفهوم على اتجاهين رئيسيين أولهما الأسواق الموجهة لتوفير الخدمات والمنتجات والرعاية المتكاملة لكبار السن، والاتجاه الآخر شكل المساهمة التي يقوم بها كبار السن عبر النشاط والإنتاجية والعمل والفاعلية في الاقتصادات المحلية. ولذلك سعت الكثير من الدول إلى تأطير سياسات متكاملة للاقتصاد الفضي بالاقتران بسياسات الاستثمار في الشيخوخة النشطة. وبحسب مقالة لولفجانج فنجلر على Brookings فإن الإنفاق الاستهلاكي لفئة كبار السن سينمو بنسبة 66% في المتوسط بين عامي 2020 و 2030 ومن المتوقع أن ينفقوا ما يقارب 15 تريليون دولار في الأسواق في عام 2030 مقارنة بـ 8.7 تريليون دولار عام 2020. وبحسب مدونات world data lab فإن الاقتصاد الفضي سينمو في الأمريكيتين بشكل سابق لبقية قارات العالم، حيث يتوقع نموه في البرازيل بنسبة 60٪ من 358 مليار دولار إلى 572 مليار دولار، وفي كولومبيا بنسبة 82٪ من 76 مليار دولار إلى 138 مليار دولار بحلول عام 2030.
يبقى السؤال كيف يمكن الاستثمار في هذه الفرص محليًا؟ وفي تقديرنا فإن ثمة تدخلات أولية يمكن تنشيطها منها بناء السياسة السكانية على أساس اقتصادي، وليس على مقاربات ديموغرافية بحتة. والاستثمار في فئة كبار السن وخصوصًا مع التحول الراهن في أسواق العمل لبناء أنظمة عمل مرنة تمكنهم من إفادة المؤسسات واستدامة الإنتاجية وتوسيع خيارات المشاركة الاقتصادية المتاحة، عوضًا عن إمكانية إيجاد ما يُعرف بـ 'مجالس الخبرات' في المحافظات خاصة في ضوء التحول للامركزية ويمكن لهذه المجالس أن تبني منظومة واضحة لإدماج هذه الفئة في صنع السياسات العامة وتشكيل قاعدة الخبرة لبرامج تنمية مختلف المحافظات، ففي دراسة بعنوان: ' The Participation of Senior Citizens in Policy-Making: Patterning Initiatives in Europe' حللت أنماط مساهمة كبار السن في بعض مبادرات صنع السياسات العامة في أوروبا وجدت أن المساهمة الأكثر تأثيرًا لهذه الفئة كانت من خلال اقتراح الأساليب التي تمكن من تقديم الخدمات عبر أفضل استثمار للموارد وتحسين أفضل لكفاءة الإنفاق. كما يمكن النظر على المستوى المحلي في استحداث برامج للتعلم المستمر مدى الحياة وإتاحة الفرص لكبار السن للانخراط في تلك الفرص، مع أهمية وجود استراتيجية وطنية للاقتصاد الفضي تبحث فرصه في سلطنة عُمان وتحدد خارطة عمل لتنشيطهِ استفادة من التحولات العالمية في هذا السياق.
* مبارك الحمداني كاتب عماني مهتم بقضايا علم الاجتماع
ومن بين الفئات التي يتوقع أن تكون الأكثر حسمًا في تنشيط الاقتصادات خلال السنوات العشر المقبلة هي فئة كبار السن (+65) نظير مؤشرات الإنفاق الاستهلاكي لهذه الفئة وتصاعدها خلال العقود الفائتة ونظير طبيعة التحول الديموغرافي الناشئ وفرص العائد الديموغرافي التي تعيشها بعض بلدان العالم بما فيها المنطقة الخليجية. وتشير بيانات (الإسكوا) إلى أنه بين عامي 1970 – 2015 تصاعد عدد المسنين في المنطقة العربية 4 مرات من 7 ملايين نسمة إلى قرابة 27 مليون نسمة ويتوقع أن يستمر هذا التصاعد لحدود 49 مليون نسمة بحلول 2030 وقرابة 102 مليون نسمة بحلول 2050 أي ما يشكل 15.1% من تركيبة السكان في المنطقة العربية. وعلى المستوى المحلي وحسب السيناريو المتوسط للإسقاطات السكانية يتوقع أن تصل نسبة كبار السن إلى قرابة 9.8% من تركيبة السكان في المجتمع العُماني بحلول عام 2040. ورغم أن المجتمع في عُمان يستند إلى خصيصة أصيلة وهي تجذر مفهوم الأسر الراعية لدورة الحياة بما في ذلك رعاية كبار السن وتقديم الخدمات لهم في وسط المحيط الأسري وندرة الحاجة إلى تدخل مؤسسات اجتماعية وسيطة. ورغم تجذر هذه الرعاية بناء منظومة ثقافية وقيمية تشكل هذا الالتزام وتوجهه وتعين راسم السياسة الاجتماعية على احتوائه. إلا أن ثمة متغيرات إقليمية ودولية، اجتماعية منها واقتصادية وثقافية تفرض ضرورات للتحول إلى ما يعرف بمفهوم 'الشيخوخة النشطة'.
تعرف المفوضية الأوروبية الشيخوخة النشطة بأنها السياسة الموجهة نحو 'مساعدة الناس على البقاء مسؤولين عن حياتهم لأطول فترة ممكنة مع تقدمهم في السن ، وحيثما أمكن، المساهمة في الاقتصاد والمجتمع'. وتقتضي ضرورة التحول إلى هذا المفهوم في تقديرنا عدة موجبات منها:
- أن هذا المفهوم لا ينظر إلى الشيخوخة بوصفها مرحلة من الحياة لها ضروراتها الرعائية وإنما ينظر إلى تهيئة الفرد عبر مختلف مراحل العمر للوصول إلى شيخوخة مزدهرة ومنتجة وبالتالي فإن الاستثمار في هذا المفهوم يبدأ من مراحل التكوين الأولى.
- يتسق هذا المفهوم مع النظرة العالمية المتجددة لكبار السن عبر النهج القائم على حقوق الإنسان من ناحية وعبر النظر إليهم اليوم بوصفهم أدوات منتجة في مجتمعاتها وقادرة على إيجاد دورة اقتصادية متكاملة وبوصفهم دعامات اقتصادية وثقافية وخبراتية لهذه المجتمع يفترض التحول بها إلى مراحل الإدماج الكلي في دورة حياة هذه المجتمعات.
ويصعد موازاة بصعود مفهوم الشيخوخة النشطة مفهوم آخر وهو 'الاقتصاد الفضي' ويشتغل هذا المفهوم على اتجاهين رئيسيين أولهما الأسواق الموجهة لتوفير الخدمات والمنتجات والرعاية المتكاملة لكبار السن، والاتجاه الآخر شكل المساهمة التي يقوم بها كبار السن عبر النشاط والإنتاجية والعمل والفاعلية في الاقتصادات المحلية. ولذلك سعت الكثير من الدول إلى تأطير سياسات متكاملة للاقتصاد الفضي بالاقتران بسياسات الاستثمار في الشيخوخة النشطة. وبحسب مقالة لولفجانج فنجلر على Brookings فإن الإنفاق الاستهلاكي لفئة كبار السن سينمو بنسبة 66% في المتوسط بين عامي 2020 و 2030 ومن المتوقع أن ينفقوا ما يقارب 15 تريليون دولار في الأسواق في عام 2030 مقارنة بـ 8.7 تريليون دولار عام 2020. وبحسب مدونات world data lab فإن الاقتصاد الفضي سينمو في الأمريكيتين بشكل سابق لبقية قارات العالم، حيث يتوقع نموه في البرازيل بنسبة 60٪ من 358 مليار دولار إلى 572 مليار دولار، وفي كولومبيا بنسبة 82٪ من 76 مليار دولار إلى 138 مليار دولار بحلول عام 2030.
يبقى السؤال كيف يمكن الاستثمار في هذه الفرص محليًا؟ وفي تقديرنا فإن ثمة تدخلات أولية يمكن تنشيطها منها بناء السياسة السكانية على أساس اقتصادي، وليس على مقاربات ديموغرافية بحتة. والاستثمار في فئة كبار السن وخصوصًا مع التحول الراهن في أسواق العمل لبناء أنظمة عمل مرنة تمكنهم من إفادة المؤسسات واستدامة الإنتاجية وتوسيع خيارات المشاركة الاقتصادية المتاحة، عوضًا عن إمكانية إيجاد ما يُعرف بـ 'مجالس الخبرات' في المحافظات خاصة في ضوء التحول للامركزية ويمكن لهذه المجالس أن تبني منظومة واضحة لإدماج هذه الفئة في صنع السياسات العامة وتشكيل قاعدة الخبرة لبرامج تنمية مختلف المحافظات، ففي دراسة بعنوان: ' The Participation of Senior Citizens in Policy-Making: Patterning Initiatives in Europe' حللت أنماط مساهمة كبار السن في بعض مبادرات صنع السياسات العامة في أوروبا وجدت أن المساهمة الأكثر تأثيرًا لهذه الفئة كانت من خلال اقتراح الأساليب التي تمكن من تقديم الخدمات عبر أفضل استثمار للموارد وتحسين أفضل لكفاءة الإنفاق. كما يمكن النظر على المستوى المحلي في استحداث برامج للتعلم المستمر مدى الحياة وإتاحة الفرص لكبار السن للانخراط في تلك الفرص، مع أهمية وجود استراتيجية وطنية للاقتصاد الفضي تبحث فرصه في سلطنة عُمان وتحدد خارطة عمل لتنشيطهِ استفادة من التحولات العالمية في هذا السياق.
* مبارك الحمداني كاتب عماني مهتم بقضايا علم الاجتماع