أعمدة

هل نحتاج العمق؟

WhatsApp-Image-2021-08-31-at-9.36.27-PM
 
WhatsApp-Image-2021-08-31-at-9.36.27-PM
في كل مرة ينطلق فيها أحدهم للحديث عن موقفه من أي شيء وبمجرد أن يستخدم لغة، غير تلك التي تبدو 'قياسية' في حياتنا اليومية، حتى نتطلع إليه، متهمين إياه إما بالتحذلق أو بالتعقيد، إذ أن عالم اليوم وعلى حد تعبير آلان دونو كاتب كتاب Mediocracy: The Politics of the Extreme Centre عليك أن لا تظهر فخوراً ولا روحانياً ولا حتى ذكياً إنه العصر الذي ينبغي فيه عليك أن تكون أحمق، أو متوسط الموهبة وشكاكا. لا يتوقف الأمر عند هذا الحد فحسب، بل يذهب لأبعد من ذلك، عندما يكون ذلك مسوغا لاتخاذ قرار عدم الاستماع إليك، واعتبارك خارجا عن النسق الثقافي الذي نعيش فيه، وبأنك في أحسن الأحوال لن تؤثر إذا ما تم تجاهلك على هذا النحو على سير العمل.

مع مرور الوقت يتخذ هذا الموقف صوراً أكثر حدية، اذ يتم تجاهلك تماماً بعد أن أعطيت فرصة مرة واحدة للحديث فاكتشفوا أنك لا تقول شيئاً يستحق الاهتمام، لذلك فالخطوة التالية ألا تكون موجوداً في نفس المكان، وبذلك يتم استبعادك من أوساط عديدة، كنت تظن أنك تشترك معها في أرضية وحدة. وبهذا يصبح جميع من في تلك المجموعة متشابهون، يتحدثون بسهولة أكبر، ودون تعقيدات و 'صداع رأس'. مكونين سلطة كبرت شيئاً فشيئاً لإقصائك تماماً، مصداقاً لرأي فوكو حول السلطة في أنها ليست شيئاً مركزياً كما نتصور، بل أشبه بخيوط تحاك من أيد عديدة ليست بالضرورة متناغمة أو تعرف النتيجة التي سيؤول إليها كل ذلك.

وفي شكل آخر من مواجهة هذه الأزمة قد تتخذ أنت هذه الخطوة، فتقرر أن تبتعد تماماً، ربما هنالك أصدقاء مقصيون آخرون، سيشاركونك عزلتك هذه، وستجد بأن ذلك صحي من أجلك ومن أجل سلامتك النفسية.

هنالك ازدراء للعمق، ربما لم يكن باتريك زوسكيند الأديب الألماني الذي يعرف بعمله الشهير 'العطر' قد تنبأ بذلك عندما كتب قصته الشهيرة والساخرة 'هوس العمق' والتي يطلع فيها ناقد على أعمال فنانة شابة، ليقول لها بأنها جيدة إلا أنها غير عميقة، فتصبح هذه الكلمة التي يتم تداولها فيما يتعلق بسائر أعمالها دون أن يقول لمرة واحدة عن أي عمق يتحدث، فتنتحر الفتاة، وينعيها الناقد الكبير في صحيفة بعبارات 'متحذلقة' وغير مفهومة، دلالة على عمقه المدعى. ليصبح العمق معياراً قاسياً، ولم يعرف رولان بارت أن العمق سيصبح خرافة بعد أسطرته كما تطرق له في كتابه 'أسطوريات الحياة اليومية' عندما تحدث عن العمق، ليقول بأن له ارتكاسات في الحياة اليومية فالإعلانات التجارية صارت تعتمد في تسويقها على 'العمق' فالصابون ينظف بعمق مثلاً! لكي يكون ذا جودة عالية، لقد جاء الوقت الذي أصبح فيه العمق، شيئاً مذموماً، ويدل على انفصال حاد عن الواقع. وليس في هذا غرابة، ولا أقول بأنه سيئ بالمطلق، فصاحبنا الناقد في قصة 'هوس العمق' قدم نموذجاً متعالياً ورديئاً وأصبحت معه صفة العمق عمومية ولا معنى لها. وأفهم تماماً أن هنالك من يظن أنه عميق لكنه ليس كذلك ابداً، ويتمتع بأنا متضخمة ونرجسية مقيتة، ويظن نفسه بما يقول ويفعل وعندما يزدرى أنه ذلك المضطهد لعمقه وذكائه. لكنني أظن أننا يجب أن لا نحصر التفكير في رسوخ هذا الاتجاه في هذه الزاوية فحسب، بل أن ننظر بصدق إلى السلوك المنهجي في اقصاء كل ما هو 'عميق' مؤسسياً، لصالح أفكار حديثة نزوقها قائلين أنها pop culture أي ثقافة شعبية، وقادرة على انتشال الشباب وصغار السن من تدفق المعلومات الهائل على الانترنت، دون أن نضجرهم أو نقدم لهم نظرة تخصصية دقيقة، والنتيجة أعمال استهلاكية، لا تغني ولا تسمن من جوع.

بدأتُ ألاحظ حتى على مستوى الأكاديميا، أن اعتماد مراجع تنطلق من هذه الرؤية أصبح مقبولاً، بل الأسوء من ذلك أن لا يعرف الكثيرون أن ما يقرؤنه، مكتوب لـ 'العامة' إنها إعادة تدويل 'للعوام' التي عرفناها لمدة طويلة في ارتباطها بعلوم الدين، والتي تنطوي من وجهة نظري على موقف استعلائي ليس إلا. واستسهال لكل شيء وتسويغ لكسل فكري حقيقي، وإدعاء أن ذلك أكثر توافقاً مع إيقاع حياتنا اليوم.

كنتُ أقول لصديقتي التي تدرس تخصص فلسفة العلوم في ألمانيا، وتبحث في أخلاقيات العلوم الحديثة، عن موضوع اللقاح في المجتمعات التي بحثت وقدمت أطروحات حول الحرية الشخصية المطلقة، وهل نحن أمام سؤال أخلاقي جديد، وهو هل يحق للحكومات فرض اللقاح على الناس؟ وهل هنالك وجهة نظر في موقف من يدعون أن هذه هي أجسادهم وهم أحرار فيما سيتعاطونه ويأخذونه، وعن المسؤولية الاجتماعية، وتضحية هذا الشخص بنفسه لصالح المجموعة. بالفعل وجدت الكثير من المجتمعات نفسها أمام سؤال بحاجة لإعادة الاعتبار لكثير من الأدوات التي عوملت لفترة طويلة من الزمن باستخفاف شديد، هنالك هذا السؤال الملح الذي وجد الانسان البسيط نفسه يسألها هل هم محقون في رفض ما يرفضونه في هذا السياق؟ وقد بدأت الأقسام العلمية في جامعات مرموقة تكريس مواردها للبحث عن إجابة موضوعية عن هذا السؤال. يبدو أننا بين الحين والآخر نحتاج اذن لما هو أعمق مما نحصل عليه في العادة، أليس كذلك؟

* أمل السعيدي كاتبة وقاصة عمانية