أفكار وآراء

الترف ليس تربية والإهمال ليس حُبّا

يلتبس معنى الحب على كثير من الآباء والأمهات، خصوصا حين يحصرونه في المال الذي ينفقونه على أبنائهم دون تخطيط أو دراسة لتداعيات ذلك 'الحب المموّه والمُهلك' على تربيتهم لأطفالهم.

تداعى كل ذلك إلى هذه المساحة مع تنبيه حضرة صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم - حفظه الله ورعاه - قبل أيام في قوله: 'تربية الأبناء لا تتم عبر شبكات وسائل التواصل الاجتماعي'.

ولماذا قد يظن الآباء أن وسائل التواصل الاجتماعي مدارس تربوية؟ ولأي شيء قد يفعل الأهل ذلك بأبنائهم؟

يقينا لا توجد قصدية واعية يسعى من خلالها الأهل لإفساد أبنائهم عبر منحهم كل ما يطلبون، حتى حين يصل الأمر لخطر يحيط بهم كخطر الأجهزة الذكية التي يجب أن تؤتى بحذر، ومتابعة، وغربلة، وتحليل. فإن كان تأثيرها على البالغين هو ما نراه ونسمعه ونخشى منه يوميا، وفي كل أنحاء العالم، فكيف سيكون أثرها على أطفال تجذبهم هذه الوسائل بمحتواها السمعي والبصري الذي يصل إليهم وهم في عقر دورهم، بل حتى في أحضان أهليهم؟ يحدث ذلك حينما يظن الأب الذي عاش طفولة خالية من هذه الأجهزة أن أقصى درجات التعبير عن حبه لأطفاله هو منحهم ما لم يستطع الحصول عليه وهو طفل في أعمارهم. لكن ذلك ليس صحيحا، بل إن بعضَ التعبِ لا بُدَّ منه، وبعضَ الحرمانِ مُعلِّمٌ، وبعضَ التقييدِ إطلاقٌ، وبعضَ القسوةِ رحمة.

لا بد من الحذر حتى لا يقع الآباء في هذه الشراك العاطفية، فينجذبوا انفعاليا لإغراء إعلانات استهلاكية تتدخل في تربيتهم لأبنائهم، وكأنها تقول لهم: عليكم الدفع فقط، ونحن نحمل عنكم عبء التربية!

والأمر الأكثر خطورة تحول الأهل إلى آلات دعم مادي فقط دون شعور، مع حرمان أنفسهم وأطفالهم من متعة التواصل الأسري، والحوارات اليومية حول كل شيء ولا شيء، كيف أمكن لهذه الأجهزة الذكية ومواقع التواصل الاجتماعي أن تتآمر لتقوّض بناء أسرة، وأواصر مجتمع؟! بل إن الأمر بلغ ببعض الأهل أن يستغرب إن اتهم بالإهمال أو التقصير؛ إذ يشعر (متوهما) بأنه يستنزف كل طاقته لأجل بيته وأطفاله. لعلّنا نعذره قليلا أو كثيرا إذا ما تلبَّسنا حالَته وتمثَّلنا مسؤولياته، لكن لا ينبغي أن نختلف - حتى حينها - على أن طاقاته أكثر من أن يحصرها في استنزاف جسده وعقله لأجل توفير المال دون طاقته الأبوية الشعورية، وطاقته العقلية الإبداعية، وحتى البدنية لتعليم أطفاله ثوابتهم الرئيسة، وقيمهم الراسخة. لا بد من تعليمهم التعب دربا للراحة، والعمل سبيلا للوصول، والتفكير الناقد طريقا للقرار ومسالكه.

تمر بذهني كثير من قصص محلية وعالمية عن تدمير هذه الأجهزة ـ عبر وسائل التواصل الاجتماعي ـ أطفالا وأسرا مما دفع بعض الآباء من أغنياء العالم لإعلانها واضحة في منعهم هذه الأجهزة عن أطفالهم في سن معينة، ولا أوضح في ذلك من الراحل ستيف جوبز - وهو الرئيس التنفيذي السابق لشركة أبل- الذي منع أولاده من اقتناء منتجات شركته؛ أي 'الآي فون' و'الآي باد' و'آي بود' أو أي شركة أخرى. يقول جوبز: 'أولادي يتهمونني أنا وزوجتي بأننا فاشّيون، ويقولون إن أصدقاءهم لا يخضعون للقواعد نفسها؛ هذا لأننا رأينا مخاطر التكنولوجيا مباشرة، لقد رأيت ذلك بنفسي، أنا لا أريد أن أرى ذلك يحدث لأطفالي'. ليس من المنطق أن نعتقد بأن هذا العالم المفتوح على مصراعيه على كل شيء هو عالم آمن للتربية، ولا حتى للمعرفة، إذ أن انفتاحه جعل منه ميدانا للجميع، متضمنا المرضى والمجرمين، وكثير مما قد يظهر أو يخفى من مخاطره وأحابيله.

ولا ينبغي حينها أن نلقي بالأطفال إلى هذا أليم ظنا منا بأنه المدرسة الآمنة المؤتمنة، ثم نلومُ بعدها أنفسَنا ونعضُّ أصابعَ الندم ولاتَ ساعة مندم:

'ألقاهُ في اليَمِّ مكتوفا وقال له إياكَ إياكَ أن تبتلّ بالماء'

• حِصَّة البادي كاتبة وأكاديمية عمانية