أعمدة

أمريكانا

 
منذ البداية تقول لنا افيلمو الشابة النيجيرية التي تمكنت من تحقيق 'الحلم الأمريكي' في حصولها على البطاقة الخضراء وتملكها بيتا في أمريكا، وشهرتها الواسعة التي حققتها من خلال تدوينها عن العرق، وارتكاساته في المجتمع الأمريكي، أنها قررت العودة إلى ليغوس في نيجيريا بعد ما يقارب من عشر سنوات قضتها في أمريكا التي يريدُ الناس الوصول إليها. وقبل عودتها الى بلدها الأم، تجلسُ على كرسي في صالون لتجدل شعرها، لساعات تتذكر فيها ما حدث معها في أمريكا منذ وصولها، وكيف أنها لأول مرة صارت 'آخر' وافريقية وسوداء بعد أن كانت مجرد نيجيرية، تُعرف بطبقتها لا بانتمائها العرقي في نيجيريا.

في أمريكا التي تعاملُ فيها الكلمات بحذر كبير على الرغم من الواقع التمييزي الذي تخبئه طبقة من 'الصوابية السياسية' الكل مشغول باختراع ذاته، حتى وإن كانت المحصلة هي تشابه تام في كثير من الأحيان، نظراً لسطوة هذه الثقافة المهيمنة على اللاجئين إليها، ولحضورها في خيالهم على نحو ما تطرحه الكتب والأفلام كما في حالة حبيب افيلمو، أوبنز الذي تأثر بالأدب الأمريكي جداً منذ مارك توين وحتى جيمس بالدوين.

إن الرغبة في اختراع الذات أو تحقيقها سمة تطرحها ثقافتنا الحديثة بإلحاح، ربما نتيجة لنظام رأسمالي عولمي يضعنا في اختبار مستمر لجدارتنا وحقنا في العيش، حتى أصبحت التجارب مثل العمل والحب وغيرها وسيلة لتحقيق ما يُعرف بـ'الذات' وفي حالة أوبنز وافيلمو فإنهما يجسدان بدايات التطلع للسير في هذه الطريق من خلال ما صرح به أوبنز في الصفحة 325 من الترجمة العربية:

'ربما فهمت أليكس والضيوف الآخرين وربما حتى جورجينا الفرار من حرب من الفقر الذي يسحق أرواح البشر، لكنهم لن يفهموا الحاجة للهرب من البلادة الكابحة لانعدام الخيارات. لن يفهموا سبب أن يضطر أشخاص مثله، نشؤوا نشأة حسنة وأكلوا وشربوا لكنهم غرقوا في انعدام الرضا، محكومين منذ الولادة على النظر نحو اتجاه آخر، مقتنعين دوماً أن الحياة الحقيقية تجري في ذلك المكان الآخر، وإلى فعل أشياء خطيرة غير شرعية، ليغادروا، دون أن يكون أحدهم يتضور جوعاً، أو تعرض لاغتصاب، أو من قرى محروقة، لكن فقط يتوق للخيار واليقين.'

إن طول الرواية الذي أزعج كثيراً من القراء فهي تقع فيما يقارب 600 صفحة جعلها بالنسبة لي ثرية وغير متوقعة في قدرتها على الرغم من بساطة اللغة على الإحاطة بظروف العرق في أمريكا، ليس هذا فحسب، بل القصة التاريخية التي تهدر أحياناً في خلفية الحبكة وتتسلل الى المقدمة في أحيان أخرى، ففي أحد المقاطع تقول إن محاولة لشراء فستان كلاسيكي من موقع إلكتروني من الستينيات، سيجلب لك فستاناً لم يكن للسود في وقت صناعته وارتدائه الحق في التصويت ولم يسمح لهم بالاختلاط بالبيض في الكثير من المدن الأمريكية، أما عن تحول التاريخ لصدارة القصة، فالمثال عليها كل ما أحاط بترشح باراك أوباما للرئاسة الأمريكية في 2008 منذ لحظة ترشحه عن الحزب الديمقراطي وحتى دخوله للبيت الأبيض وأدائه للقسم، لقد توقفت عند هذه الفصول وذهبت للبحث في أرشيف الانترنت عن مشاهد من أداء أوباما للقسم وحملاته الانتخابية قبل فوزه وتلك الحادثة الشهيرة التي حدثت بينه وبين قس لطالما تبعه أوباما وتسببت في زعزعة ثقة الكثير من الأمريكيين به. كل هذا كان مهماً في نسيج القصة، فافيلمو وحبيبها لن يتفقا إلا على أوباما بينما يعبران فترة صعبة في علاقتهما، إنه ذلك الشيء الذي سيجمع بينهما، وسيعيد للعلاقة الحميمة قوتها. تشيماماندا تنجح بقوة في التأليف بين وقع الأحداث في المجال العام على الحياة الشخصية في أصغر تفاصيلها، وربما هي بذلك تؤكد على الخصوصية التي يعيشها السود تحديداً وعلاقتها بالفضاء العام، إنه أيضاً تجسيد للنسوية التقاطعية، لذلك فإن الحديث عن الشعر المجعد في فصول عديدة والإحالة إليه في مواقف متباينة شيئاً ليس هامشياً بالتأكيد بل ينصب في خصوصية هذه السردية. كما أننا لا نسمع هدير زمن التاريخ الأمريكي فحسب، بل ونيجيريا أيضاً وما يحدث فيها.

ثمة لحظات وأنا أقرأ أخافتني فيها افيلمو، لقد بدت لي عدائية ليس في التدوينات التي تكتبها فحسب، والتي تمكنت فيها من الإمساك بالنغمة الشائعة للكتابة عن هذه الموضوعات في الانترنت والتي عادة ما تكون عنيفة وساخرة وهزلية وعدائية طبعاً بل لأنها بدت لي عدائية في الواقع أيضاً، لم يكن هنالك ما يرضيها أبداً، لديها أحكام وتعليقات على الجميع، كما لو أنها تراهم من الخارج طوال الوقت، لم يكن هنالك من يسلم منها، من الصعب أن تقرأ رواية بهذا الطول وتثيرك شخصيتها الرئيسة على هذا النحو كما لو أنها تصبح منفرة، وسلبية لا على نحو جيد، يعني الاختلاف وقابلية الدخول بمعرفتها في تجربة وجودية مستقلة عن ذاتك، بل لأنها تريك فجأة الجانب الذي تكرهه من ذاتك وهي إمكانية أن لا يعجبك أي شيء في النهاية، لقد بدت لي شخصيتها بطريقة ما، سردية في هجاء العدمية، لأنها تجسد عدماً بطريقة ما، إنها لا تمنح سوى الاستعداد التام المتهيب لإطلاق الحكم. حتى على من يحبونها بشدة.

لفتتني بشكل خاص المراجعة التي كتبتها ايفا دونسكي عن هذا العمل فهي تستخدم مثالاً من القصة وهو ذهاب افيلمو للتسوق بصحبة صديقة للتسوق في فيلادفيا تعيش منذ زمن في أمريكا. عندما تذهب للدفع لا تتذكر صديقة افيلموا اسم البائعة عند الكاشير، فتبدآن التفكير هل هي صاحبة الشعر الطويل؟ كلاهما لهما شعر غامق؟ فتتساءل افيلمو لماذا لم تسأل فقط 'هل هي الفتاة البيضاء أم السوداء'؟ فتضحك صديقتها قائلة إن هذه هي أمريكا حيث من المفترض أن تتظاهر بأنك لا تلاحظ أشياء معينة. تقول دونسكي إن الرواية مبينة على هذه اللحظات، التي تشبه وخزاً صغيراً لمنطاد عملاق انتفخ حول موضوع العرق في أمريكا بعد حقبة الحقوق المدنية، إنها رواية حول الطرق التي يشكل بها الناس هوياتهم: ' ما نرتديه وما نخلعه، والأشياء التي نراكمها وتلك التي نتجاهلها على طول الطريق'.

وعن قدرة الكتب وخصوصاً الأدب في إحداث نوع من الفهم، فأوبنز مثل ما قلت في بداية هذه المقالة مولع بالقراءة خصوصاً عن أمريكا التي يتوق لها، إنه على حد تعبير دونسكي أمل العثور على صدى وتشكيل لشوق اوبنز وإحساسه بأمريكا التي كان يتخيل نفسه جزءاً منها. فيما ترى افيلمو أن كتبه تلك مكتوبة بأناقة كما لو أن كل جملة مدركة لأناقتها. في المقابل يتردد وبصورة كبيرة مثال أكثر تعبيراً وسياسيةً من تلك التي أحبها اوبنز وهي أعمال غراهام غرين. بعيداً عن رأي ايفا دونسكي، لقد وجدتُ صدى جيداً لحضور الكثير من أسماء الأدباء في أمريكانا لكنني وعلى نحو خاص تنفست الصعداء عندما وصفت افيلمو فيليب روث بأنه كاتب عظيم. إنه واحد من كتابي المفضلين ليس هذا فحسب، بل عند بداية القراءة شعرتُ كما لو أن طيفه يمر عبر الكتابة، إنه أيضاً يكتب عن الهامش، حين كتب عن اليهود في المجتمع الأمريكي والحلم الأمريكي، وعن ظاهرة 'العبور' وهي تظاهر السود ذو البشرة الفاتحة بأنهم بيض وانخراطهم في مجتمعات البيض دون التصريح بذلك كما في روايته 'الوصمة البشرية'.