هل تقرأ الأدب الحديث أم القديم؟
الثلاثاء / 23 / جمادى الأولى / 1443 هـ - 21:11 - الثلاثاء 28 ديسمبر 2021 21:11
تصف إحدى الشخصيات التي تظهر عرضاً في الرواية الفاتنة «أمريكانا» للنيجيرية تشيماماندا نغوزي أديتشي والتي أتوق للكتابة عنها في هذا العمود قريباً، علاقتها بالأدب، في أنها توقفت عند النتاج الأدبي حتى ثلاثينات القرن الماضي، فعلى الرغم من كونه أستاذا للأدب في ييل، إلا أنه أخذ موقفاً قاطعاً من الأدب الحديث، حتى إن افيلمو الشخصية الرئيسية في الرواية ازدرته وهو يتحدث بهذه الطريقة. كان يعتقد أن ما كتب بعد ذلك ليس سوى الهراء. ذكرني ذلك على الفور بالتباين الواضح في صلتنا بالأدب حسب الفترة الزمنية الذي كتبَ فيه. كان عبد الله حبيب قد علق على مقالاتي هنا بأن غالبها عن أدب حديث لا يعرفه، فيما يهتم أكثر بقراءة الكلاسيكيات.
ناثان ج. روبينسون الكاتب اليساري المخضرم الذي طُرد من ذا غارديان لكتابته عن سياسة الكيان المحتل (إسرائيل) سئل في أكثر من مناسبة خصوصاً من القراء الذين يتابعون نتاجه باستمرار في مشروعه الصحفي المستقل حالياً، عن قائمة لكتب تشرح موقف اليسار ويستطيعون من خلالها قياس موقفهم من هذا العالم واختبار إمكانيات هذا الخيار، لا يهمني الآن عرض الكتب التي تطرق لها ولا فكرته عن القائمة المطلوبة باستمرار، ولا حتى عن إشارته الملهمة حول قراءة من يختلف معهم للنظر في موقفهم وحججهم وفحصها عن قرب، لكنه كتب عن ذوقه عموما في قراءة الأدب خصوصا «الإصدارات القديمة» يقول بأن هذا الموقف ليس قائما على فكرة أن العصر الذهبي قد انقضى ولم يعد هنالك من يكتب شيئاً جيداً. بل لأنه يعتقد في الغالب أن الأفكار البشرية غالباً ما تكون هي نفسها عبر العصور، وهو يحب كيفية تعامل ومعالجة الناس للمشاكل والتحديات في أوقاتهم الخاصة، كما أن قراءة الكتب القديمة تجعله يشعر بالفخر كما لو كان راسخاً في تقليد ما ويكون جزءاً من الحفاظ على إرث ما لم يزل على قيد الحياة. بالتأكيد أن لدى هؤلاء الكتاب القدماء أوجه قصور خطيرة لم يعوا بها في فترتهم تلك، لكن مع كل ذلك لا يزال بإمكانهم أن يقدموا لنا مواقع نبدأ منها، وأفكاراً نبني عليها ونطورها.
أتذكر فرحتي الطفولية عندما كنتُ أقرأ الجزء الأول من رباعية الفصول للكاتبة البريطانية «ايلي سميث» وعنوانها «الخريف» وتعد أولى الروايات عن «البريكست» أي خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، صدرت عام 2016 أحسست ببساطة أنها حبكة تنتمي لحياتي اليومية، للأخبار التي أتعرض لها طوال الوقت، لم يكن هذا ما أبهجني فحسب، بل أن الشخصية الرئيسية كانت طالبة ماجستير في تخصص الفنون، ولديها أم، هذه الأم مفتونة بسيلفيا بلاث، لم أصادف في أي من قراءاتي شيئاً عن العلاقة ببلاث التي أثرت فيمن بعدها بصورة كبيرة، والتي انتحرت بإدخال رأسها في الفرن في فبراير من عام 1963 كانت دهشتي كبيرة، أن من يتحدث عن علاقة أثيرة ببلاث ليست الابنة الشابة بل الأم، بدا ذلك وكأنه ينتمي للعالم نفسه الذي كبرتُ فيه، سيلفيا بلاث أيقونة، وقد تشابكنا معها بطريقة أو بأخرى خصوصاً نحن النساء القارئات، إما ولعاً بحساسيتها وبتعبيرها عن ذاتها وبهوسها، وإما نفوراً مما تظنه الكثيرات هستيريا وتحلقاً مريعاً حول الذات، أكاد أجزم أننا جميعاً لدينا خيط ما مع سيلفيا، إنها الشاعرة المستعدة لإفناء نفسها تماماً من أجل الحب، والحب هو من سيدفعها للموت في آخر الأمر، ثم تلك الكتابات الحادة، المليئة بالقلق والهواجس في يومياتها، وعلاقتها الملتبسة بوالديها، ثم روايتها «الناقوس الزجاجي» ودخولها المصحة النفسية، وتشخيصها بأكثر مرض منتشر في العالم اليوم «الاكتئاب» وأمومتها، كلها مواقع جعلتنا سيلفيا نفكر بها معها، أو عاشتها هي معنا بينما لم يكن ما نمر به مفهوما بالنسبة للآخرين.
أظن بأنني أتوق طوال الوقت لنوع من التشافي، ومن القدرة على التواصل مع ما يحيط بي، أشعر بأنني مغمورة بما يحدث، ممتلئة بكل شيء قهرا، ولذلك عليّ أن «أنظف عينيّ» على حد تعبير آذر نفيسي حول أثر الأدب علينا، لذا لم يكن انجذابي للأدب الحديث اختياري كما يظن الكثيرون. مع أنني قرأت أعمالاً كلاسيكية عديدة، بل أنني التزمت بمشروع قراءة طويل لقراءة أهم الكلاسيكيات العالمية في الأدب، واستمتعت بكثير منها، وأضجرني بعضها الآخر. يبدو لي أن نثر زيبالد أو قتامة لاسلو كراسناهوركاي وحكايات فيليب روث العادية، أكثر تآلفا مع الواقع الذي أعيش فيه. ثم هنالك شيء آخر، لقد تطور الأدب في أساليبه بطبيعة الحال، وظهرت الكثير من الأعمال ذات الطابع التجريبي، هذا الطابع المحدد بالتجريب لكن وفقا لمنطق سياق منتجه، سياق محدد ومفهوم، حسب تاركوفسكي في كتابه «النحت في الزمن» عن التجريب في السينما. إنها بلغتي اليوم، بهواجسي، بتعبي وضعفي وهشاشتي وقوتي واندفاعي وحبي للحياة وكل شيء يتعلق بي.
أتابع آخر الإصدارات بعضها صدر هذا العام وترجم على الفور، ليست الأمور كما كانت عليه، عندما كانت تتأخر الترجمة لعقود، مع أنها ما زالت متواضعة، إلا أن هنالك سرعة وتنافسا كبيرين في التقاط الأعمال التي تحصل على جوائز عالمية، لديّ كتاب مفضلون على قيد الحياة، كناوسغارد، ميشيل ويلبك، إيمان مرسال، وآخرين كثر، لا أتذكر تلك السخرية الحاذقة لشخصية فيلم كانت تسخر من هذه الفكرة. ومع ذلك كان هنالك سؤال مستمر حول ما إذا كان الأدب الكلاسيكي مهما لي، فكثيراً ما تحضر إشارات في النصوص المعاصرة، لأيقونات من الأدب الكلاسيكي، لمعان وأفكار من الملهاة الإغريقية، ولتمثيلات قادمة من روايات ديستوفيسكي مثل راسكلينكوف شخصية الجريمة والعقاب التي تمت إعادة إنتاجها في العديد من الأعمال المعاصرة السينمائية والأدبية، أظن بأن هذا مهم فعلا، أثار اهتمامي بصورة خاصة كتاب كالفينو عن الأدب الكلاسيكي حتى قبل ترجمته للعربية، والتي صدرت هذا العام عن دار المدى، إنه يعتقد أن الأدب الكلاسيكي ما يمكن أن نعود لقراءته في كل مرة، وأن نرى أنفسنا فيه مهما تغير الوقت، بل وأن نعيد تأويله، إنه قادر على احتوائنا رغم الفارق الزمني والمكاني، وأستطيع تصديق ذلك، لكنني لن أقايض هذا أبداً، بمتاهات الأدب المعاصر، التي تشبه دوار عالمنا اليوم، والتي تجعلنا مدوخين بها، ومستسلمين لها، إنها على الأقل طريقتي في أن لا أغرق كثيراً، وأن أشعر بوجودي الفيزيقي والميتافيزيقي على حد سواء.
أمل السعيدي كاتبة وقاصة عمانية
ناثان ج. روبينسون الكاتب اليساري المخضرم الذي طُرد من ذا غارديان لكتابته عن سياسة الكيان المحتل (إسرائيل) سئل في أكثر من مناسبة خصوصاً من القراء الذين يتابعون نتاجه باستمرار في مشروعه الصحفي المستقل حالياً، عن قائمة لكتب تشرح موقف اليسار ويستطيعون من خلالها قياس موقفهم من هذا العالم واختبار إمكانيات هذا الخيار، لا يهمني الآن عرض الكتب التي تطرق لها ولا فكرته عن القائمة المطلوبة باستمرار، ولا حتى عن إشارته الملهمة حول قراءة من يختلف معهم للنظر في موقفهم وحججهم وفحصها عن قرب، لكنه كتب عن ذوقه عموما في قراءة الأدب خصوصا «الإصدارات القديمة» يقول بأن هذا الموقف ليس قائما على فكرة أن العصر الذهبي قد انقضى ولم يعد هنالك من يكتب شيئاً جيداً. بل لأنه يعتقد في الغالب أن الأفكار البشرية غالباً ما تكون هي نفسها عبر العصور، وهو يحب كيفية تعامل ومعالجة الناس للمشاكل والتحديات في أوقاتهم الخاصة، كما أن قراءة الكتب القديمة تجعله يشعر بالفخر كما لو كان راسخاً في تقليد ما ويكون جزءاً من الحفاظ على إرث ما لم يزل على قيد الحياة. بالتأكيد أن لدى هؤلاء الكتاب القدماء أوجه قصور خطيرة لم يعوا بها في فترتهم تلك، لكن مع كل ذلك لا يزال بإمكانهم أن يقدموا لنا مواقع نبدأ منها، وأفكاراً نبني عليها ونطورها.
أتذكر فرحتي الطفولية عندما كنتُ أقرأ الجزء الأول من رباعية الفصول للكاتبة البريطانية «ايلي سميث» وعنوانها «الخريف» وتعد أولى الروايات عن «البريكست» أي خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، صدرت عام 2016 أحسست ببساطة أنها حبكة تنتمي لحياتي اليومية، للأخبار التي أتعرض لها طوال الوقت، لم يكن هذا ما أبهجني فحسب، بل أن الشخصية الرئيسية كانت طالبة ماجستير في تخصص الفنون، ولديها أم، هذه الأم مفتونة بسيلفيا بلاث، لم أصادف في أي من قراءاتي شيئاً عن العلاقة ببلاث التي أثرت فيمن بعدها بصورة كبيرة، والتي انتحرت بإدخال رأسها في الفرن في فبراير من عام 1963 كانت دهشتي كبيرة، أن من يتحدث عن علاقة أثيرة ببلاث ليست الابنة الشابة بل الأم، بدا ذلك وكأنه ينتمي للعالم نفسه الذي كبرتُ فيه، سيلفيا بلاث أيقونة، وقد تشابكنا معها بطريقة أو بأخرى خصوصاً نحن النساء القارئات، إما ولعاً بحساسيتها وبتعبيرها عن ذاتها وبهوسها، وإما نفوراً مما تظنه الكثيرات هستيريا وتحلقاً مريعاً حول الذات، أكاد أجزم أننا جميعاً لدينا خيط ما مع سيلفيا، إنها الشاعرة المستعدة لإفناء نفسها تماماً من أجل الحب، والحب هو من سيدفعها للموت في آخر الأمر، ثم تلك الكتابات الحادة، المليئة بالقلق والهواجس في يومياتها، وعلاقتها الملتبسة بوالديها، ثم روايتها «الناقوس الزجاجي» ودخولها المصحة النفسية، وتشخيصها بأكثر مرض منتشر في العالم اليوم «الاكتئاب» وأمومتها، كلها مواقع جعلتنا سيلفيا نفكر بها معها، أو عاشتها هي معنا بينما لم يكن ما نمر به مفهوما بالنسبة للآخرين.
أظن بأنني أتوق طوال الوقت لنوع من التشافي، ومن القدرة على التواصل مع ما يحيط بي، أشعر بأنني مغمورة بما يحدث، ممتلئة بكل شيء قهرا، ولذلك عليّ أن «أنظف عينيّ» على حد تعبير آذر نفيسي حول أثر الأدب علينا، لذا لم يكن انجذابي للأدب الحديث اختياري كما يظن الكثيرون. مع أنني قرأت أعمالاً كلاسيكية عديدة، بل أنني التزمت بمشروع قراءة طويل لقراءة أهم الكلاسيكيات العالمية في الأدب، واستمتعت بكثير منها، وأضجرني بعضها الآخر. يبدو لي أن نثر زيبالد أو قتامة لاسلو كراسناهوركاي وحكايات فيليب روث العادية، أكثر تآلفا مع الواقع الذي أعيش فيه. ثم هنالك شيء آخر، لقد تطور الأدب في أساليبه بطبيعة الحال، وظهرت الكثير من الأعمال ذات الطابع التجريبي، هذا الطابع المحدد بالتجريب لكن وفقا لمنطق سياق منتجه، سياق محدد ومفهوم، حسب تاركوفسكي في كتابه «النحت في الزمن» عن التجريب في السينما. إنها بلغتي اليوم، بهواجسي، بتعبي وضعفي وهشاشتي وقوتي واندفاعي وحبي للحياة وكل شيء يتعلق بي.
أتابع آخر الإصدارات بعضها صدر هذا العام وترجم على الفور، ليست الأمور كما كانت عليه، عندما كانت تتأخر الترجمة لعقود، مع أنها ما زالت متواضعة، إلا أن هنالك سرعة وتنافسا كبيرين في التقاط الأعمال التي تحصل على جوائز عالمية، لديّ كتاب مفضلون على قيد الحياة، كناوسغارد، ميشيل ويلبك، إيمان مرسال، وآخرين كثر، لا أتذكر تلك السخرية الحاذقة لشخصية فيلم كانت تسخر من هذه الفكرة. ومع ذلك كان هنالك سؤال مستمر حول ما إذا كان الأدب الكلاسيكي مهما لي، فكثيراً ما تحضر إشارات في النصوص المعاصرة، لأيقونات من الأدب الكلاسيكي، لمعان وأفكار من الملهاة الإغريقية، ولتمثيلات قادمة من روايات ديستوفيسكي مثل راسكلينكوف شخصية الجريمة والعقاب التي تمت إعادة إنتاجها في العديد من الأعمال المعاصرة السينمائية والأدبية، أظن بأن هذا مهم فعلا، أثار اهتمامي بصورة خاصة كتاب كالفينو عن الأدب الكلاسيكي حتى قبل ترجمته للعربية، والتي صدرت هذا العام عن دار المدى، إنه يعتقد أن الأدب الكلاسيكي ما يمكن أن نعود لقراءته في كل مرة، وأن نرى أنفسنا فيه مهما تغير الوقت، بل وأن نعيد تأويله، إنه قادر على احتوائنا رغم الفارق الزمني والمكاني، وأستطيع تصديق ذلك، لكنني لن أقايض هذا أبداً، بمتاهات الأدب المعاصر، التي تشبه دوار عالمنا اليوم، والتي تجعلنا مدوخين بها، ومستسلمين لها، إنها على الأقل طريقتي في أن لا أغرق كثيراً، وأن أشعر بوجودي الفيزيقي والميتافيزيقي على حد سواء.
أمل السعيدي كاتبة وقاصة عمانية