أفكار وآراء

إسرائيل وسياسة «التهويش» حيال إيران

د. عبد الحميد الموافي

من الصعب على إسرائيل الدخول في مواجهة مسلحة مع إيران ، ليس فقط لأن نتائجها غير محسوبة ، ولكن أيضا لأن الموقف الأمريكي منها يظل غامضا ويفضل عدم حدوثها

من أدبيات تكتيكات الردع بين الدول، وحتى على مستويات أخرى، أنه لكي تمنع الدخول في حرب لا تريدها أن تستعد للحرب، وأن تجعل الخصم على قناعة تامة من أنك ستدخل الحرب ضده إذا وصلت التطورات أو حالة التصعيد نقطة معينة.

ومن المعروف على نطاق واسع أن إسرائيل تتبع هذا الأسلوب أو التكتيك في تعاملها مع تطورات عديدة في المنطقة، وقد استغلت نقاط الضعف العربية من أجل محاولة إضفاء قدر من المصداقية على سياسة الردع التي تتبعها، وذلك من خلال القيام بعمليات عسكرية محددة ومدروسة ضد أهداف عربية في لبنان وسوريا والعراق وبعض الدول الأخرى للترويج لصورة وانطباع محدد عنها ، مفاده أنها قادرة دوما على تنفيذ ما تراه ضروريا لأمنها، أو ما تعتقد أنه يشكل مصدر تهديد لها بشكل أو بآخر، من وجهة نظرها بالطبع. ومما ساعد إسرائيل على تحقيق ذلك، أن الأوضاع العربية لم تمكن الأطراف العربية من الرد على الاعتداءات الإسرائيلية من ناحية، ولظروف وأسباب يطول شرحها، والاكتفاء بالتأكيد العربي التقليدي المعروف من أننا سنحدد مكان وموعد وطريقة الرد على الاعتداءات الإسرائيلية ، ولن نسمح لإسرائيل بأن تجرنا إلى حرب عندما تريد هي، وسنفوت الفرصة عليها، وعادة لا ترد الأطراف العربية، باستثناء حالات محددة لاسترداد الأرض في عام 1973 من ناحية ثانية، يضاف إلى ذلك أن إسرائيل، وبمساعدة ضخمة ومتواصلة من جانب واشنطن، حرصت باستمرار على تحقيق والاحتفاظ بفجوة ومساحة للتفوق العسكري والتقني على صعيد ميزان القوة بينها وبين الدول العربية الأخرى، وذلك بمختلف الوسائل المشروعة وغير المشروعة، بل والزعم أحيانا بأنها قوة إقليمية عظمى، يمكنها التأثير الواسع في تفاعلات وتطورات الوضع الإقليمي من حولها، سواء على النطاق العربي، أو الشرق الأوسطي الأوسع.

وإذا كان الزعم الإسرائيلي بالتفوق العسكري قد انكسر للمرة الأولى في حرب أكتوبر عام 1973، بعبور القوات المصرية لقناة السويس وتحطيم خط بارليف، وصراخ جولدا مائير في السفير الأمريكي لدى إسرائيل وقتها للاستنجاد بالقوة الأمريكية، وهو ما أدى إلى تنفيذ أكبر جسر جوي في التاريخ لإمدادها بالسلاح، فإنه يمكن القول إن الزعم الإسرائيلي بالتفوق العسكري يتعرض للانكسار الآن وللمرة الثانية، وذلك بعد نحو خمسين عاما من حرب أكتوبر، من خلال عدم القدرة الإسرائيلية على وقف البرنامج النووي الإيراني بشكل عملي وحقيقي، بغض النظر عن التصريحات العنترية والتعهدات العلنية من جانب كل من تولى رئاسة الحكومة، أو وزارة الدفاع الإسرائيلية، على مدى السنوات الأخيرة ، بأن إسرائيل لن تسمح لإيران بامتلاك قنبلة نووية أبدا.

والمؤكد إن القيادة الإسرائيلية تجد نفسها في مأزق حقيقي أمام التقدم الإيراني المطرد في امتلاك التقنية النووية، ووصل الأمر إلى حد اتهام بيني جانتس وزير الدفاع الإسرائيلي لإيران بأنها تعمل على كسب الوقت، وأنه يجب «تحطيم منهجها في كسب الوقت»على حد قوله، وهناك بالطبع مسافة كبيرة بين التصريحات وبين القدرة العملية على جعلها واقعا على الأرض بشكل أو بآخر.

على أية حال فإنه يمكن الإشارة في هذا الإطار إلى عدد من الجوانب، لعل من أهمها ما يلي: أولا: أنه من غير الموضوعية إنكار أو التقليل من القدرات العسكرية الإسرائيلية، وذلك في ضوء ما تمتلكه إسرائيل من قدرات عسكرية متفوقة تسليحا وعتادا وقوة بشرية مدربة وخبرات قتالية متنوعة، وهي قدرات مدعومة بامتلاك إسرائيل لقنابل نووية وصل عددها في بعض المصادر إلى نحو 180 قنبلة نووية، والأهم من ذلك أنها تملك وسائل نقلها من طائرات قاذفة قادرة على حمل القنابل النووية وكذلك غواصات متطورة استوردتها إسرائيل من ألمانيا قبل سنوات عدة، أما الصواريخ القادرة على حمل القنابل النووية فيبدو أن إسرائيل لا تهتم كثيرا بها بحكم ضيق النطاق الجغرافي الذي يمكن لإسرائيل استخدام قنابلها النووية في نطاقه، ولو افتراضيا. ومع التسليم بالقدرات العسكرية الإسرائيلية والتفوق التقني الإسرائيلي، إلا أن ذلك لا يعني على أي نحو أن إسرائيل قوة إقليمية عظمى، كما سبقت الإشارة، فالقوة الإسرائيلية توجد في منطقة تضم عدة قوى عسكرية كبيرة وذات وزن لا يمكن إغفاله أو التقليل من قدراته، ومن هذه القوى على سبيل المثال مصر وتركيا وإيران، كما لا يمكن إغفال أن إسرائيل لا تزال محاطة بكيانات عسكرية لا تحسب ضمن نطاق الدول مثل حزب الله اللبناني وحركتي حماس والجهاد الفلسطينيتين، التي تسعى بكل السبل إلى زيادة قدراتها العسكرية بكل السبل الممكنة، ولا تخفى استعدادها للحرب ضد إسرائيل، خاصة إذا تورطت إسرائيل في حرب مع إيران. وباختصار شديد وبالمفهوم العسكري فإن الوضع الاستراتيجي لإسرائيل هو وضع معقد إلى حد كبير، صحيح أن إسرائيل استعدت دوما للحرب على جبهتين، ضد مصر وسوريا في وقت واحد، ولكن الصحيح أن إسرائيل لم تجرب الحرب ضد قوات نظامية، والتعرض في الوقت ذاته لهجمات واسعة تستهدف مؤسساتها وعناصر قوتها وجبهتها الداخلية وبشكل مخيف وغير مسبوق. ومع أن القيادة العسكرية الإسرائيلية درست وتدرس ذلك الوضع وتضع له تكتيكات مختلفة لمواجهة احتمال حدوثه، بما في ذلك نشر منظومة القبة الحديدية ضد الصواريخ ومنظومات الدفاع الجوي المتطورة، إلا أن وضع إسرائيل في حالة التورط في مواجهة عسكرية مع إيران يظل وضعا لا يمكن اليقين، أو التحقق من احتمالات تطوره، ولا من موقف حزب الله اللبناني وحركتي حماس والجهاد الفلسطينيتين في حالة حدوث المواجهة، خاصة إذا استمرت لعدة أيام يصعب توقع عددها الذي ستحدده طبيعة ومدى نجاح العمليات على الأرض ومواقف القوى المختلفة حيالها أيضا.

ومن هنا فإنه يمكن فهم حاجة إسرائيل وسعيها الحثيث من أجل الدفع بالولايات المتحدة إلى التورط بشكل ما في الحرب ضد إيران، أو على الأقل الحصول على ضمانات أمريكية بنجدة إسرائيل عند الحاجة، خاصة إذا قررت القيادة الإسرائيلية الدخول في مواجهة لا تعلم يقينا كيف ومتى يمكن أن تنتهي، ولا احتمالات تطورها كذلك.

ثانيا: انه مع التأكيد على أن هناك حدودا للقوة والقدرات العسكرية الإسرائيلية، وهو ما تدركه القيادة الإسرائيلية. بغض النظر عن أية مزاعم إعلامية ، فإن الادعاءات الإسرائيلية عادة ما تحيل أو تشير إلى تدمير إسرائيل لمفاعل تموز في العراق عام 1981 وتدميرها للمفاعل السوري قبل عدة سنوات، كدليل على قدرة إسرائيل على الفعل، غير أن الواقع هو أن العمليتين الإسرائيليتين ضد المفاعلين العراقي والسوري كانت استعراضا فارغا للقوة ضد منشآت لم تكتمل بعد، ولم تضم أية أنشطة نووية، وبالتالي فإن تدميرها ليس صعبا، خاصا إذا لم يتوفر لها أنظمة دفاع جوي قوية وفعالة، وهو ما لم يتحقق في الحالتين، وكذلك لأن عملية التدمير لن ينتج عنها أية مخاطر إشعاعية، أو أي انتشار للغبار الذري، لأنه لا يوجد فيها مواد نووية قابلة للانتشار، وبالتالي فإن تدميرها مأمون، ويحقق فقط مصلحة لإسرائيل. ولو كانت هذه المفاعلات تعمل بالفعل، ولو كمفاعلات مدنية لأحجمت إسرائيل عن تدميرها خوفا من مخاطر الانتشار النووي والإدانة الدولية لها. وعلى ذلك فإنه لا يمكن المقارنة بين المفاعلين العراقي والسوري وبين وضع البرنامج النووي الإيراني في حالته الراهنة، خاصة وأن مفاعلات إيران تعمل في معظمها، وأن هناك عمليات تخصيب لليورانيوم في مفاعلات فوردو وآراك وربما غيرهما، ومن ثم تخطت المفاعلات الإيرانية ما يسمي بمرحلة الأمان لتدميرها، وهي مرحلة ما قبل التشغيل الفعلي، وينطبق ذلك على مفاعل بوشهر الإيراني أيضا.

ثالثا: برغم إدراك القيادة الإسرائيلية لكل تلك الحقائق ، إلا أنها تواصل اتباع تكتيكات الردع أو «التهويش» بمعنى أدق، في تعاملها مع البرنامج النووي الإيراني ومع إيران في هذه المرحلة، فقادتها يقسمون بأغلظ الأيمان أنهم سيمنعون إيران من الحصول على قنبلة نووية، كما لجأت إسرائيل، وبالتعاون مع واشنطن أحيانا إلى عمليات تخريب لبعض عناصر البرنامج النووي الإيراني، سواء من خلال فيروس «ستاكسنت»، أو من خلال عمليات تخريب متعمدة بالتسلل إلى بعض المفاعلات الإيرانية، أو من خلال اغتيال علماء ومتخصصين إيرانيين يعملون في البرنامج النووي الإيراني. وفي حين تعهدت حكومة نفتالي بينت الإسرائيلية بمواصلة وزيادة عمليات التخريب العلنية والسرية للبرنامج النووي الإيراني، إلا أنها تدرك انه من الصعب عمليا لإسرائيل أن تقوم بتدمير البرنامج الإيراني، أو حتى الجزء الأكبر منه، وذلك لأسباب عدة من أبرزها، أن إيران تنبهت منذ البداية للعداء الإسرائيلي والأمريكي لبرنامجها النووي، ووضعت في اعتبارها تدمير المفاعلين العراقي والسوري، ولذلك فإنها عملت بوعي من أجل نشر عناصر برنامجها النووي في مواقع عديدة، متفرقة ومتباعدة أيضا، كما عمدت إلى حماية المنشآت الهامة منها، سواء بنقلها إلى مواقع تحت الأرض أو في بطون الجبال ليصعب الوصول إليها، فضلا عن نشر وسائل دفاع جوي مختلفة، مما يتيسر لإيران حمايتها. صحيح أن إسرائيل رصدت وترصد مواقع وإحداثيات عدد من المواقع النووية الإيرانية، وصحيح أيضا أن خبراء الوكالة الدولية للطاقة النووية يزورون عددا من المواقع الإيرانية وتضع الوكالة الدولية كاميرات مراقبة للأنشطة في عدد من المواقع لرصد أية تغيرات أو خطوات إيرانية في مجال تطوير التقنية النووية، وتحصل إسرائيل، من خلال واشنطن، على بعض معطيات تلك الكاميرات بشكل أو بآخر. ولكن الصحيح أيضا هو أن إسرائيل لا يمكنها تدمير البرنامج النووي الإيراني ولا حتى معظم عناصره، ليس فقط لأن سلاحها الجوي لا يستطيع القيام بذلك وحده، ولا خلال مدة محدودة، لاعتبارات عديدة منها بعد المسافة بين إسرائيل وإيران ومحدودية فعالية القصف الجوي، وعدم اليقين من فعالية القنابل المضادة القادرة على اختراق طبقات كثيفة من الخرسانة المسلحة أو من الصخور وهي القنابل التي زودت أمريكا إسرائيل بها، فضلا عن حقيقة أن قيام إسرائيل بضرب المنشآت النووية الإيرانية يعني ببساطة الدخول في مواجهة مسلحة لا يمكن لإسرائيل التحكم في نهايتها. وأمام المأزق الإسرائيلي فإن تل أبيب أخذت تتحدث عن دور المجتمع الدولي في منع إيران من امتلاك قنبلة نووية، وعن تعاونها مع أطراف إقليمية ودولية في العمل ضد إيران، ومن ثم فإنه يمكن القول بأنه من الصعب على إسرائيل الدخول في مواجهة مسلحة مع إيران، ليس فقط لأن نتائجها غير محسوبة، ولكن أيضا لأن الموقف الأمريكي منها يظل غامضا ويفضل عدم حدوثها، ولأن المخاطر المترتبة على أية مواجهة قد تخرج عن السيطرة، ولذلك تلجأ إسرائيل إلى «التهويش» لعل إيران ترتدع، ولكن إيران تدرك جيدا أن امتلاكها للتقنية النووية ووصولها إلى العتبة النووية هو ضرورة للتوازن مع إسرائيل ولردع إسرائيل ومنعها من مهاجمتها أيضا، ولأن هناك مسافة بين العتبة النووية وبين تصنيع السلاح النووي، فقد تكتفي إيران بالوصول إلى العتبة النووية لتجعل الطريق مفتوحا للتفاهم مع واشنطن، ولتفتح اتصالات مع القوى الأخرى في المنطقة في ظل وضع استراتيجي جديد على العرب العمل والتحسب له حتى لا يكونوا الطرف الإقليمي الأضعف ، أما «التهويش» الإسرائيلي فلن يجدي مع إيران كما لم يجد مع مصر من قبل.

د. عبد الحميد الموافي كاتب صحفي مصري