آخر الباقين.. حكماء وليسوا تجاراً
الاحد / 21 / جمادى الأولى / 1443 هـ - 18:25 - الاحد 26 ديسمبر 2021 18:25
«آخر الباقين».. فيلم وثائقي من إنتاج «مؤسسة خَط»، وعمل المبدعين: حمد بن خليفة القصابي مساعداً للمخرج وعلي بن سعيد البيماني مخرجاً، فاز في مهرجان موسكو الدولي «موسكو شورتس» بجائزة أفضل فيلم وثائقي قصير لدورة نوفمبر 2021م. الفيلم.. يوثق آخر الباقين في سوق بَهلا العريق، وينقله من المحلية إلى العالمية. فالسوق.. بحد علمي لم يحظَ من قبل بتوثيق سينمائي بهذا المستوى، إلا تقارير في إطار التعريف السياحي بمقومات البلاد. والأمر الآخر.. أن مخرجَي الفيلم من بَهلا، وهما وإن كانا لم يشهدا ذروة السوق السابقة، إلا أنهما عرفا عنه من خلال اتصالهما بجيل آبائهم، فالفيلم.. صُنع بروح المخرجَين المنسلة من أسلافهم قبل خبرتهما ومهارتهما، وهنا يكمن سر نجاحه.
أعرف السوق، وكثيراً من تأريخه وتأريخ بَهلا، وذلك.. لاشتغالي البحثي بحضارة الولاية. وأعرف المخرجَين جيداً، وقد وقفت على عملهما منذ نعومة أظافرهما السينمائية، وأعددت لهما المادة العلمية في فيلم «ني صلت» الذي حاز على أفضل قبول جماهيري في مسابقة مهرجان مسقط لدورة عام 2018م، ولطالما تكلمنا عن أهمية توثيق الحضارة العمانية، فحديثي هنا عن قرب، وأرجو أن أقدم فيه ما يضيء للقارئ مناطق من حضارتنا العظيمة، ومن جمال إبداع المخرجَين.
«آخر الباقين».. لم أتفاجأً بفوزه؛ على المستوى الفني، حيث أعرف القدرات الرفيعة التي يتمتع بها هذا الثنائي، ولا على مستوى الفكرة؛ فمن المتوقع أنهما سيحبسان بعدستهما السويعات الأخيرة من حياة توشك أن تلفظ أنفاسها. ما فاجأني هو ما قدمه الفيلم من حكمة الآباء الأجلاء: (عبدالله بن ناصر المحروقي، وخلف بن ناصر المحروقي، وعبيد بن سالم الشوكري، وحمد بن محمد الشريقي، وحمد بن سعيد المفرجي، وحارب بن غريب الشكيلي)، الذين تحدثوا بسجيتهم، ونطقوا بمكنون نفوسهم، وكانوا لا يرمون بأنظارهم إلى الكاميرا، وإنما إلى حياتهم التي عاشوها بكل تقلباتها؛ حلاةً ومرارةً، لتصبح زاداً من الحكمة لأجيال قادمة، استطاع الفيلم باقتدار أن يستجمعها. ولولا أن المقال محدود الكلمات، لدوّنت جميع فرائد حِكَمِهم، وإنما أكتفي باختيار شيء من حكمة الوالد عبيد الشوكري؛ منها: (السوق.. هو الوطن، هو مثل البيت، هو القاعدة الأساسية)، (لا يرتاح قلبي إلا هنا)، (السوق.. أصبح كياناً في قلوبنا)، (القلب.. منغمس في هذا الشغل؛ آكل وأشرب منه، وأنا مرتاح)، (مصدر رزق الإنسان.. هو العمود الفقري للإنسان، وكرامته)، (ما كرامة الإنسان إلا العمل، وما كرامته إلا وطنه، مهما حصل ما حصل)، (السوق.. مثل ملابسنا ستر). عباراته -التي لم أتدخل فيها إلا بضبطها كتابةً- دّالة على أن المتحدث حكيم؛ مرسته الحياة ومرسها.
«آخر الباقين».. رصد بنجاح فريد الحياة الآفلة بكل تجلياتها: بوجوه الناس السمحة، وابتسامتهم الندّية، وكلامهم غير المتكلّف، ولهجتهم التي بدأت تغرب بغروب شمس ذلك الجيل المعطاء. آخر الباقين هؤلاء.. امتداد سلسلة طويلة من الذين عاشوا في هذه المدينة الفخمة، التي استعمرها الإنسان منذ آلاف السنين. وقد رصد الفيلم على لسان حارب بن غريب ما رصدته المقارنة الآثارية لحظة التأسيس الأولى للمدينة بصورتها المكتملة؛ وهي الألفية الثالثة قبل الميلاد. حتى الآن لا نملك دليلاً على أن هذا السوق بالذات قد بني في تلك الحقب السحيقة، ولكني أعرف منطق هندسة المدن القديمة؛ التي لا تحول دون تلك النشأة، والتي من أهم معالمها: أنها مسوّرة، ومنطقتها الإدارية في قلب المدينة، التي تشتمل على قصر الحاكم «الحصن» والمعبد «المسجد»، وتتحلق حولهما البيوت، وبجوارهما يقوم السوق، ثم تبسط البساتين فراشها الأخضر، لترويها بالحياة الآبار والأفلاج، هذا هو النموذج العريق للمدينة العمانية، والذي تقف بَهلا اليوم شاهدة عليه.
بذكاء.. اختار سكان بَهلا الأوائل مدينتهم وسط حلقة من سلسلة جبلية تحيط بها، ثم أحيطت بسور؛ حافظ عليه الأسلاف طيلة خمسة آلاف سنة، ووضعوا له نظاماً محكماً لخدمته، وأوقافاً لصيانته، وأحكاماً لمن يتعدى عليه، مما أورث البلد أمناً؛ جعل سوقها محطة تجارية جاذبة للناس من مناطق شتى. لقد عايشتُ زخم حركته التجارية في طفولتي، قبل أن تكتسحها التحولات الحديثة، التي بدأت تتسرب إلى السوق منذ الثمانيات الميلادية، لتؤثر عليه في التسعينات، ويركد خلال العقدين الأخيرين.
بيد أن الحكمة تتسلسل؛ فإن هؤلاء الحكماء الذين رأيناهم في السوق، وأصرّوا على بقائه حياً، لدى أبنائهم الرغبة باستغلاله، بطرق مبتكرة وأساليب مبتدعة، حيث أدركوا أن بوصلة الزمن لا تعود للوراء، فاستبدلوا التجارة القديمة؛ التي مات بعضها، وهرب بعضها الآخر ناجياً بحياته إلى أماكن متفرقة في الولاية، بتجارة أقرب لفاعلية العصر، فبدأوا بفتح المقاهي فيه ومحلات التحف والهدايا والقطع التذكارية.
وبسبب موقع السوق وتاريخه النشط.. فإنه بذاته أصبح مادة للدراسات: الجغرافية من حيث الموقع، والأنثروبولوجية بالبحث في أحوال الأجيال المتعاقبة عليه، والآثارية بالتنقيب فيه وحوله، كما أنه أصبح مادة وثائقية.. ألهمت منتجَي «آخر الباقين»، وستلهم غيرهم بشروق روح الإنسان، وإبراز حاجاته وحكاية همومه ورجاء تحقق طموحاته.
«آخر الباقين».. يُظِهر بلقطة بانورامية مشهداً علوياً للشجرة الكبيرة التي تتوسط رحبة السوق، مانحةً رمزية عميقة؛ لقلب السوق الذي ينبض بالحياة، فيضخ دماءه في الشرايين المتوغلة سككاً بين الدكاكين، منفذة هذه السكك إلى أربعة أبواب لدخول السوق والخروج منه، فيكون السوق هو قلب مدينة بَهلا كما أن الشجرة قلب السوق، في تصميم هندسي بديع.
التصميم الذكي للسوق بموقعه وسط المدينة، بين علايتها وسفالتها؛ يأتي ليشكّل رابطة اجتماعية؛ يلتقي الناس يومياً فيها من جميع حارات البلاد. والسوق.. تَحُفُّه البساتين؛ فتمده بلطف الجو ونقائه، في منطقة غالب أيامها يلفحها وهر الشمس، وتحت النخيل يجد الهابطون إلى السوق مراحاً ظليلاً لدوابهم.
السوق.. تمر حذاه ثلاثة أفلاج: «المحدث»؛ يروي البساتين المحيطة به، و«الميتا»؛ يَرِدُه أهل السوق لأعمالهم اليومية، و«المَقِّين» للشرب، وإذا ما انخفضت مناسيب مياه الأفلاج وقت القحط، فتوجد بجواره بئر يجذب الناس ماءها. والأرواح لا تحيا إلا بالاتصال بباريها، فكان المسجد بجوار السوق، حيث يغلق وقت صلاتي الظهر والعصر. والجامع ليس ببعيد عنه، فما أن يؤذن المؤذن لصلاة الجمعة حتى يذر الناس تجاراتهم وييمموا وجوههم شطره، بعد أن يغتسلوا ويتوضأوا من الأفلاج المجاورة.
«آخر الباقين».. بلقطة مؤثرة يوثق نزول الوالد علي بن سيف بلخفير السوق، ليلتقي ببقايا روحه، ويتذكر صخب الأيام الخوالي. هذه الحميمية بين الناس تعكس الحياة الاجتماعية في البلد، فمعظم أصحاب التجارات في السوق هم أهل وأصحاب، وإذا ما فجأتهم حادثة في مكان بالبلد؛ ونادى المنادي داعياً للنجدة، تسابقوا لإغاثة المصابين.
السوق.. ليس مجرد تجمّع محلات ولا تحكمه قوانين غير مُبصَرة؛ كما نرى أسواقنا اليوم، بل كان نظاماً تراه العين وتلمسه اليد، يسوده الاجتماع المحكم، استطاع الفيلم رصد جانب منه. فهو أشبه بقرية، يضم داخله الدكاكين والبضائع والبشر الذين يرتادونه، وهو مغلق التصميم آمن؛ له أبواب توصد بعد انتهاء مواعيد العمل، وحارسه ينظّم عمله بفتح أبوابه وغلقها. وله ناظر يرجع الناس إليه في أمورهم وتسهيل مصاعبهم، ورفع حاجاتهم للحكومة؛ سواء للقاضي أو الوالي، ويبلّغ الناس بتوجيهاتها. وكان للسوق كتبة عقود وقاض يفصل بين الناس فيما فيه يختلفون، وإن بلغت القضية إلى جناية رفعها للحصن فيقضي فيها قاضي الولاية.
أليس وراء هذا البناء المتقَن للسوق عقل حكيم، سواء صُمِّم دفعة واحدة، أو تعوقب على تصميمه؟ وصفوة القول.. إن آخر الباقين ليس هؤلاء الحكماء وحدهم، بل السوق ومن ورائه بَهلا كلها، الآتون من عمق التأريخ؛ منذ طور التأسيس الأول لعمان العظيمة.
• خميس العدوي كاتب عماني مهتم بقضايا الفكر والتاريخ ومؤلف كتاب 'السياسة بالدين'
أعرف السوق، وكثيراً من تأريخه وتأريخ بَهلا، وذلك.. لاشتغالي البحثي بحضارة الولاية. وأعرف المخرجَين جيداً، وقد وقفت على عملهما منذ نعومة أظافرهما السينمائية، وأعددت لهما المادة العلمية في فيلم «ني صلت» الذي حاز على أفضل قبول جماهيري في مسابقة مهرجان مسقط لدورة عام 2018م، ولطالما تكلمنا عن أهمية توثيق الحضارة العمانية، فحديثي هنا عن قرب، وأرجو أن أقدم فيه ما يضيء للقارئ مناطق من حضارتنا العظيمة، ومن جمال إبداع المخرجَين.
«آخر الباقين».. لم أتفاجأً بفوزه؛ على المستوى الفني، حيث أعرف القدرات الرفيعة التي يتمتع بها هذا الثنائي، ولا على مستوى الفكرة؛ فمن المتوقع أنهما سيحبسان بعدستهما السويعات الأخيرة من حياة توشك أن تلفظ أنفاسها. ما فاجأني هو ما قدمه الفيلم من حكمة الآباء الأجلاء: (عبدالله بن ناصر المحروقي، وخلف بن ناصر المحروقي، وعبيد بن سالم الشوكري، وحمد بن محمد الشريقي، وحمد بن سعيد المفرجي، وحارب بن غريب الشكيلي)، الذين تحدثوا بسجيتهم، ونطقوا بمكنون نفوسهم، وكانوا لا يرمون بأنظارهم إلى الكاميرا، وإنما إلى حياتهم التي عاشوها بكل تقلباتها؛ حلاةً ومرارةً، لتصبح زاداً من الحكمة لأجيال قادمة، استطاع الفيلم باقتدار أن يستجمعها. ولولا أن المقال محدود الكلمات، لدوّنت جميع فرائد حِكَمِهم، وإنما أكتفي باختيار شيء من حكمة الوالد عبيد الشوكري؛ منها: (السوق.. هو الوطن، هو مثل البيت، هو القاعدة الأساسية)، (لا يرتاح قلبي إلا هنا)، (السوق.. أصبح كياناً في قلوبنا)، (القلب.. منغمس في هذا الشغل؛ آكل وأشرب منه، وأنا مرتاح)، (مصدر رزق الإنسان.. هو العمود الفقري للإنسان، وكرامته)، (ما كرامة الإنسان إلا العمل، وما كرامته إلا وطنه، مهما حصل ما حصل)، (السوق.. مثل ملابسنا ستر). عباراته -التي لم أتدخل فيها إلا بضبطها كتابةً- دّالة على أن المتحدث حكيم؛ مرسته الحياة ومرسها.
«آخر الباقين».. رصد بنجاح فريد الحياة الآفلة بكل تجلياتها: بوجوه الناس السمحة، وابتسامتهم الندّية، وكلامهم غير المتكلّف، ولهجتهم التي بدأت تغرب بغروب شمس ذلك الجيل المعطاء. آخر الباقين هؤلاء.. امتداد سلسلة طويلة من الذين عاشوا في هذه المدينة الفخمة، التي استعمرها الإنسان منذ آلاف السنين. وقد رصد الفيلم على لسان حارب بن غريب ما رصدته المقارنة الآثارية لحظة التأسيس الأولى للمدينة بصورتها المكتملة؛ وهي الألفية الثالثة قبل الميلاد. حتى الآن لا نملك دليلاً على أن هذا السوق بالذات قد بني في تلك الحقب السحيقة، ولكني أعرف منطق هندسة المدن القديمة؛ التي لا تحول دون تلك النشأة، والتي من أهم معالمها: أنها مسوّرة، ومنطقتها الإدارية في قلب المدينة، التي تشتمل على قصر الحاكم «الحصن» والمعبد «المسجد»، وتتحلق حولهما البيوت، وبجوارهما يقوم السوق، ثم تبسط البساتين فراشها الأخضر، لترويها بالحياة الآبار والأفلاج، هذا هو النموذج العريق للمدينة العمانية، والذي تقف بَهلا اليوم شاهدة عليه.
بذكاء.. اختار سكان بَهلا الأوائل مدينتهم وسط حلقة من سلسلة جبلية تحيط بها، ثم أحيطت بسور؛ حافظ عليه الأسلاف طيلة خمسة آلاف سنة، ووضعوا له نظاماً محكماً لخدمته، وأوقافاً لصيانته، وأحكاماً لمن يتعدى عليه، مما أورث البلد أمناً؛ جعل سوقها محطة تجارية جاذبة للناس من مناطق شتى. لقد عايشتُ زخم حركته التجارية في طفولتي، قبل أن تكتسحها التحولات الحديثة، التي بدأت تتسرب إلى السوق منذ الثمانيات الميلادية، لتؤثر عليه في التسعينات، ويركد خلال العقدين الأخيرين.
بيد أن الحكمة تتسلسل؛ فإن هؤلاء الحكماء الذين رأيناهم في السوق، وأصرّوا على بقائه حياً، لدى أبنائهم الرغبة باستغلاله، بطرق مبتكرة وأساليب مبتدعة، حيث أدركوا أن بوصلة الزمن لا تعود للوراء، فاستبدلوا التجارة القديمة؛ التي مات بعضها، وهرب بعضها الآخر ناجياً بحياته إلى أماكن متفرقة في الولاية، بتجارة أقرب لفاعلية العصر، فبدأوا بفتح المقاهي فيه ومحلات التحف والهدايا والقطع التذكارية.
وبسبب موقع السوق وتاريخه النشط.. فإنه بذاته أصبح مادة للدراسات: الجغرافية من حيث الموقع، والأنثروبولوجية بالبحث في أحوال الأجيال المتعاقبة عليه، والآثارية بالتنقيب فيه وحوله، كما أنه أصبح مادة وثائقية.. ألهمت منتجَي «آخر الباقين»، وستلهم غيرهم بشروق روح الإنسان، وإبراز حاجاته وحكاية همومه ورجاء تحقق طموحاته.
«آخر الباقين».. يُظِهر بلقطة بانورامية مشهداً علوياً للشجرة الكبيرة التي تتوسط رحبة السوق، مانحةً رمزية عميقة؛ لقلب السوق الذي ينبض بالحياة، فيضخ دماءه في الشرايين المتوغلة سككاً بين الدكاكين، منفذة هذه السكك إلى أربعة أبواب لدخول السوق والخروج منه، فيكون السوق هو قلب مدينة بَهلا كما أن الشجرة قلب السوق، في تصميم هندسي بديع.
التصميم الذكي للسوق بموقعه وسط المدينة، بين علايتها وسفالتها؛ يأتي ليشكّل رابطة اجتماعية؛ يلتقي الناس يومياً فيها من جميع حارات البلاد. والسوق.. تَحُفُّه البساتين؛ فتمده بلطف الجو ونقائه، في منطقة غالب أيامها يلفحها وهر الشمس، وتحت النخيل يجد الهابطون إلى السوق مراحاً ظليلاً لدوابهم.
السوق.. تمر حذاه ثلاثة أفلاج: «المحدث»؛ يروي البساتين المحيطة به، و«الميتا»؛ يَرِدُه أهل السوق لأعمالهم اليومية، و«المَقِّين» للشرب، وإذا ما انخفضت مناسيب مياه الأفلاج وقت القحط، فتوجد بجواره بئر يجذب الناس ماءها. والأرواح لا تحيا إلا بالاتصال بباريها، فكان المسجد بجوار السوق، حيث يغلق وقت صلاتي الظهر والعصر. والجامع ليس ببعيد عنه، فما أن يؤذن المؤذن لصلاة الجمعة حتى يذر الناس تجاراتهم وييمموا وجوههم شطره، بعد أن يغتسلوا ويتوضأوا من الأفلاج المجاورة.
«آخر الباقين».. بلقطة مؤثرة يوثق نزول الوالد علي بن سيف بلخفير السوق، ليلتقي ببقايا روحه، ويتذكر صخب الأيام الخوالي. هذه الحميمية بين الناس تعكس الحياة الاجتماعية في البلد، فمعظم أصحاب التجارات في السوق هم أهل وأصحاب، وإذا ما فجأتهم حادثة في مكان بالبلد؛ ونادى المنادي داعياً للنجدة، تسابقوا لإغاثة المصابين.
السوق.. ليس مجرد تجمّع محلات ولا تحكمه قوانين غير مُبصَرة؛ كما نرى أسواقنا اليوم، بل كان نظاماً تراه العين وتلمسه اليد، يسوده الاجتماع المحكم، استطاع الفيلم رصد جانب منه. فهو أشبه بقرية، يضم داخله الدكاكين والبضائع والبشر الذين يرتادونه، وهو مغلق التصميم آمن؛ له أبواب توصد بعد انتهاء مواعيد العمل، وحارسه ينظّم عمله بفتح أبوابه وغلقها. وله ناظر يرجع الناس إليه في أمورهم وتسهيل مصاعبهم، ورفع حاجاتهم للحكومة؛ سواء للقاضي أو الوالي، ويبلّغ الناس بتوجيهاتها. وكان للسوق كتبة عقود وقاض يفصل بين الناس فيما فيه يختلفون، وإن بلغت القضية إلى جناية رفعها للحصن فيقضي فيها قاضي الولاية.
أليس وراء هذا البناء المتقَن للسوق عقل حكيم، سواء صُمِّم دفعة واحدة، أو تعوقب على تصميمه؟ وصفوة القول.. إن آخر الباقين ليس هؤلاء الحكماء وحدهم، بل السوق ومن ورائه بَهلا كلها، الآتون من عمق التأريخ؛ منذ طور التأسيس الأول لعمان العظيمة.
• خميس العدوي كاتب عماني مهتم بقضايا الفكر والتاريخ ومؤلف كتاب 'السياسة بالدين'