أفكار وآراء

في السياسة والاختلاف العربيين

(الإشكال الأساسي الذي يواجه صناعة السياسة في المنطقة العربية، قبل أن يكون إشكالا سياسيا، هو في جوهره إشكال يتصل بهوية إدارة الاختلاف الذي هو جزء من صميم الحياة العامة للاجتماع البشري).

السياسية بوصفها إدارةً للشأن العام، تبدو اليوم، عربيا، من أعقد الإشكالات التي تواجه الاجتماع البشري لبلدان هذه المنطقة، من حيث إن هناك تعثرا مستمرا ظل يطرأ على مسار تاريخ الانتظام المدني الحديث لدول هذا العالم المسمى عربيا.

وإذا كانت صناعة القرار السياسي جزءا من التفكير الذي يعكس نظم الإدراك المعبرة عن طبيعة ذلك التفكير وما إذا كان تفكيرا موضوعيا أم ذاتيا، سويا أم معطوبا، فإن الأوضاع التي تنشأ من تفعيل القرارات السياسية تنطبع بطبيعة ذلك التفكير لا محالة.

إن الإشكال الأساسي الذي يواجه صناعة السياسة في المنطقة العربية، قبل أن يكون إشكالا سياسيا، هو في جوهره إشكال يتصل بهوية إدارة الاختلاف الذي هو جزء من صميم الحياة العامة للاجتماع البشري.

وبما أن السياسة، بمعنى أساسي فيها، هي إدارة للاختلاف؛ يمكننا القول: إنها أيضا تمثل مؤشرا للنجاح والفشل في الوضع العام الذي تعكسه أنماط الحياة في هذا الجزء من العالم المسمى عربيا وما يتخذ فيه من قرارات تتعلق بإدارة تلك الحياة.

الاختلاف السياسي، عربيا، عادة ما يعكس تعبيرات عصبية، وحَدَّية، وأوتوقراطية، فتطبع تلك الصفات بدورها هوية القرار السياسي، لكن ما يظل باقيا وعلامةً بارزةً هو أن تلك الصفات ظلت باستمرار هي الميزة المائزة للوعي والتعبير عن الاختلاف السياسي في هذه المنطقة بما يفضي بنا إلى القول: بما أنه أصبح اليوم (ووفق المعايير الدولية المعتبرة للرشد السياسي): أن إدارة تناقضات أي مجتمع في العالم عبر السلم والحوار (الديمقراطية) هي علامة الرشد الإنساني لهذا المجتمع في العصر الحديث؛ فإننا سنجد أن الطبيعة غير السوية – في اغلب الأحيان – لتاريخ إدارة الاختلاف السياسي في المنطقة العربية يمكن أن تؤشر إلى طبيعة أخرى يعتبر التعبير المعطوب عنها في الاختلاف السياسي عرضا لها، ونقصد بذلك؛ هوية التخلف التي تبدو اليوم هي الحقيقة الأكثر تجليا في كثير من جوانب الحياة العامة لتلك الدول التي تسمى بالدول 'النامية' وبطبيعة الحال سنجد أن هذا الاسم هو الأكثر لطفا لهذا الوضع الحضاري؛ فمفهوم 'الدول النامية' الذي تقع الدول الناطقة بالعربية جميعا فيما يشمله هذا المفهوم من معاني سياسية، له دلالة واضحة في أدبيات السياسة الدولية وتصنيفات الأمم المتحدة.

للأسف، لا يمكن للإصلاح السياسي أن يتم استيراده أبدا، لأنه عملية حصرية بكيفية نظرة كل دولة إلى ذاتها وإدراك لحظتها التاريخية في العالم، ناهيك عن الثورة التي هي مفهوم أكثر جذريةً من الإصلاح، وتفرضه شروط معقدة ومركبة، لاسيما في ظل الوضع الراهن لثورة المعلوماتية والاتصال.

هكذا سنجد أن ما يمكن أن يعبر عن سوية إدارة الاختلاف السياسي من عدمه، لا ينعكس عبر الضخ الإعلامي لكثير من المعلومات والمفاهيم المغلوطة مثل مفهوم ' الربيع العربية' أو ' الثورة العربية الكبرى' أو ما شابه ذلك، بل الحقيقة أن ما يدلنا بوضوح على سوية إدارة الاختلاف السياسي هو؛ المحك العملي لتعبيرات المواقف السياسية للأحزاب، والنتائج التي تحدث بعد ذلك حول سوية تلك المواقف من عدمها.

فعندما اكتسح الإسلاميون في الجزائر انتخابات عام 1992 ورفض الجيش قبولها دخلت الجزائر في عشرية الدم السوداء التي راح ضحيتها 200 ألف جزائري، فيما حدث الأمر ذاته لحزب الرفاه التركي بقيادة أربكان في انتخابات عام 1998 بتركيا لكن الحزب تفهَّم موقف الجيش التركي بمنظور سياسي استراتيجي (لا مفهوما أيديولوجيا كما فعلت جبهة الإنقاذ الإسلامية الجزائرية) فانحنى للعاصفة، ثم غير، بعد ذلك، اسمه وقيادته ليعود إلى السلطة في انتخابات عام 2002 وها هو حتى اليوم يحكم تركيا!

اليوم، يشهد السودان أزمة سياسية أشد ما تحتاج إليه هو: النظر إلى مآلاتها بمنظور سياسي استراتيجي عقلاني، خصوصا بعد خطوة رئيس الوزراء عبد الله حمدوك لإنجاز اتفاق سياسي في 21 نوفمبر بينه وبين قائد الجيش، للخروج منها، لكن الموقف الاحتجاجي لتحالف قوى الحرية والتغيير والذي نحا إلى 'تخوين' حمدوك لا يعبر عن سوية سياسية وربما يدفع إلى استقالة حمدوك ودخول السودان في منعطف خطير؛ مجهول وفوضوي!.