ليسوا رامبرانت ولا شكسبير!
الاحد / 14 / جمادى الأولى / 1443 هـ - 20:37 - الاحد 19 ديسمبر 2021 20:37
قبل سنواتٍ عديدة تمّ استدعائي لمدرسة ابني، فخمّن عقلي سيناريوهات عديدة حول أسباب اللقاء. أشارتْ معلمة الرسم إلى الشغب الذي يُحدثه ابني فهو لا يرسم في الحصة المطلوب منه كما ينبغي، فكان أن سألتها عمّا طلبتْ منه، فأجابتْ: «أن يرسم مدينة.. لكن انظري لعبثه». تبدتْ لي لوحة ابني على هيئة انحناءات لولبية سوداء، وبين فجوات صغيرة منها تظهرُ ألوان ضئيلة أشبه بأضواء بعيدة. قالت المعلمة: «أين المدينة؟». قال ابني مُقطبا حاجبيه: «كنتُ أراها من وراء الغيم، وكان الغيم كثيفا عندما رسمت»!
أشارت المعلمة إلى سلوكه غير المهذب، بينما ابتهجتُ وتساءلتُ في أعمق نقطة من روحي: «كيف يُمكنني أن أحمي حرية ابني قبل أن تتعفن في القوالب والتصنيفات الجاهزة؟».
فكما يبدو، يخسرُ أبناؤنا بصورة مخيفة فرديتهم، وأحاسيسهم العفوية تجاه الأشياء. لا أتحدث عن مواد مثل العلوم والرياضيات والفيزياء والكيمياء في صرامتها الأبدية. أتحدثُ عن مواد من المفترض أن تُحرض الجمال، ولكن عوض أن يرسم الطالب لوحاته ويستمتع بحرارة الألوان وبأفكاره الحُرّة، عوض أن يعزف على آلة موسيقية مُفضلة تملأ روحه بوهج الحياة، عوض أن يلعب ويحرك جسده وطاقاته في ملاعب مُجهزة ويختار ما يلائمه من أنشطة، صار يحفظ مصطلحات عقيمة، نحن الأمهات والآباء عاجزون عن حفظها. يُجبر أبناؤنا على الحفظ ليأخذوا درجة بائسة، فتذهب المعلومة طي النسيان بعد الامتحان مباشرة!
أمّا الأسئلة التي يُطلب من الطالب أن يُعبر فيها عن رأيه الشخصي في مسائل مختلفة، فتلك قصّة أخرى، تكلفه خسارة درجته الكاملة لو أنّه قال ما يُخالف التوقع أو المنهج، فلماذا تسأله عن رأيه إن كنتَ لا تريد إلا أن تعرف رأي المنهج؟
يتورط أبناؤنا بصورة عجائبية بكتابة تعبير عن عيد الشجرة وعيد الأمّ والأعياد المكرورة منذ زمن آبائنا إلى اليوم، من غير فسحة تفكير ولا مناخ حر لإبداء آراء وأفكار جديدة في قضايا تعبرُ البشرية بصورة مطردة، وكأن الطالب معزول ومحاط بفولاذ عن الحياة الحقيقية!
أتذكر ما قاله المعلم الصارم في فيلم «مجتمع الشعراء الموتى»، «Dead poets society»: «إنّهم ليسوا رامبرانت وليسوا شكسبير!». فكيف للمعلم أن يُحاكم طلابه بهذا المنطق المُتعنت؟ كيف له أن يضعهم في قوالب جاهزة وأن يمنع ظهور أصواتهم الخاصة بهم؟
وإن كان هذا ما يحدث في الغرب، فما بالك بمدارس ما تزال تؤجج بين طلابها فكرة مفادها «السيئة تعم»، وبالتالي لا يُعنفُ المُخطئ وحده بل يعنف الجميع!
وعلى نقيض المعلم السابق، يظهرُ في الفيلم معلم الأدب الإنجليزي «جون كيتينج» الذي يُؤمن بقوة الكلمات والأفكار الجديدة التي تُغير العالم، فينفضُ عن عقول تلاميذه الصرامة المُفرطة ويأخذهم في رحلة وعي جديدة لذواتهم وأحاسيسهم.
«كيتينج» معلم غير تقليدي، متمرد على أساليب التعليم القديمة، سمح لطلبته أن يفكروا وأن يحلموا وأن يعبروا عن شغفهم. حيث يستدعي أشعار الشاعر الإنجليزي روبيرت هيليك: «تجمعن أيتها البراعم طالما تستطعن، الزّمن الغابر لازال طائراً، ونفس هذه الزهرة التي تبتسم اليوم ستموت غداً».
وآنذاك كنتُ أفكر إن كان الخلل في المعلم -المُكبل بالأعباء- الذي يفتقدُ روح التغيير المُتقدة والقدرة على استيعاب حساسية الجيل الجديد، أم المنهج الذي يميل لتعقيد الأشياء!
قبل أيام احتفلت المدارس بيوم اللغة العربية، وتساءلتُ مع نفسي: «لو أننا فقط استطعنا أن نجعل أولادنا يحبون هذه اللغة لكنا أحدثنا مُعجزة»، ولكن كما يبدو ثمّة ما يؤجج النفور بين التلاميذ وبينها!
تصطدم رغبات أبطال الفيلم المراهقين بصورة مطردة مع أشكال مختلفة من السُلطة، فتتجلى المدرسة في إحدى أكثر صورها وضوحا ومن ثمّ رغبات أولياء الأمور التي تقوض أمانيهم. تذكرتُ ابني الذي لم تُقدِر المعلمة خياله وشاعريته الطفولية، وهو يرى المدينة من وراء الغيم الكثيف، وذلك عندما سمعتُ المعلم «كيتينج» يقول: «نقرأ ونكتب الشعر لأننا أفراد من الجنس البشري والجنس البشري ممتلئ بالعاطفة. الطب، المحاماة، إدارة الأعمال، الهندسة هي حرف نبيلة ومُهمة لكي نحافظ على الحياة ولكن الشعر هو الجمال والرومانسية والحبّ، وهذه هي الأشياء الّتي نعيشُ من أجلها».
أشارت المعلمة إلى سلوكه غير المهذب، بينما ابتهجتُ وتساءلتُ في أعمق نقطة من روحي: «كيف يُمكنني أن أحمي حرية ابني قبل أن تتعفن في القوالب والتصنيفات الجاهزة؟».
فكما يبدو، يخسرُ أبناؤنا بصورة مخيفة فرديتهم، وأحاسيسهم العفوية تجاه الأشياء. لا أتحدث عن مواد مثل العلوم والرياضيات والفيزياء والكيمياء في صرامتها الأبدية. أتحدثُ عن مواد من المفترض أن تُحرض الجمال، ولكن عوض أن يرسم الطالب لوحاته ويستمتع بحرارة الألوان وبأفكاره الحُرّة، عوض أن يعزف على آلة موسيقية مُفضلة تملأ روحه بوهج الحياة، عوض أن يلعب ويحرك جسده وطاقاته في ملاعب مُجهزة ويختار ما يلائمه من أنشطة، صار يحفظ مصطلحات عقيمة، نحن الأمهات والآباء عاجزون عن حفظها. يُجبر أبناؤنا على الحفظ ليأخذوا درجة بائسة، فتذهب المعلومة طي النسيان بعد الامتحان مباشرة!
أمّا الأسئلة التي يُطلب من الطالب أن يُعبر فيها عن رأيه الشخصي في مسائل مختلفة، فتلك قصّة أخرى، تكلفه خسارة درجته الكاملة لو أنّه قال ما يُخالف التوقع أو المنهج، فلماذا تسأله عن رأيه إن كنتَ لا تريد إلا أن تعرف رأي المنهج؟
يتورط أبناؤنا بصورة عجائبية بكتابة تعبير عن عيد الشجرة وعيد الأمّ والأعياد المكرورة منذ زمن آبائنا إلى اليوم، من غير فسحة تفكير ولا مناخ حر لإبداء آراء وأفكار جديدة في قضايا تعبرُ البشرية بصورة مطردة، وكأن الطالب معزول ومحاط بفولاذ عن الحياة الحقيقية!
أتذكر ما قاله المعلم الصارم في فيلم «مجتمع الشعراء الموتى»، «Dead poets society»: «إنّهم ليسوا رامبرانت وليسوا شكسبير!». فكيف للمعلم أن يُحاكم طلابه بهذا المنطق المُتعنت؟ كيف له أن يضعهم في قوالب جاهزة وأن يمنع ظهور أصواتهم الخاصة بهم؟
وإن كان هذا ما يحدث في الغرب، فما بالك بمدارس ما تزال تؤجج بين طلابها فكرة مفادها «السيئة تعم»، وبالتالي لا يُعنفُ المُخطئ وحده بل يعنف الجميع!
وعلى نقيض المعلم السابق، يظهرُ في الفيلم معلم الأدب الإنجليزي «جون كيتينج» الذي يُؤمن بقوة الكلمات والأفكار الجديدة التي تُغير العالم، فينفضُ عن عقول تلاميذه الصرامة المُفرطة ويأخذهم في رحلة وعي جديدة لذواتهم وأحاسيسهم.
«كيتينج» معلم غير تقليدي، متمرد على أساليب التعليم القديمة، سمح لطلبته أن يفكروا وأن يحلموا وأن يعبروا عن شغفهم. حيث يستدعي أشعار الشاعر الإنجليزي روبيرت هيليك: «تجمعن أيتها البراعم طالما تستطعن، الزّمن الغابر لازال طائراً، ونفس هذه الزهرة التي تبتسم اليوم ستموت غداً».
وآنذاك كنتُ أفكر إن كان الخلل في المعلم -المُكبل بالأعباء- الذي يفتقدُ روح التغيير المُتقدة والقدرة على استيعاب حساسية الجيل الجديد، أم المنهج الذي يميل لتعقيد الأشياء!
قبل أيام احتفلت المدارس بيوم اللغة العربية، وتساءلتُ مع نفسي: «لو أننا فقط استطعنا أن نجعل أولادنا يحبون هذه اللغة لكنا أحدثنا مُعجزة»، ولكن كما يبدو ثمّة ما يؤجج النفور بين التلاميذ وبينها!
تصطدم رغبات أبطال الفيلم المراهقين بصورة مطردة مع أشكال مختلفة من السُلطة، فتتجلى المدرسة في إحدى أكثر صورها وضوحا ومن ثمّ رغبات أولياء الأمور التي تقوض أمانيهم. تذكرتُ ابني الذي لم تُقدِر المعلمة خياله وشاعريته الطفولية، وهو يرى المدينة من وراء الغيم الكثيف، وذلك عندما سمعتُ المعلم «كيتينج» يقول: «نقرأ ونكتب الشعر لأننا أفراد من الجنس البشري والجنس البشري ممتلئ بالعاطفة. الطب، المحاماة، إدارة الأعمال، الهندسة هي حرف نبيلة ومُهمة لكي نحافظ على الحياة ولكن الشعر هو الجمال والرومانسية والحبّ، وهذه هي الأشياء الّتي نعيشُ من أجلها».