أفكار وآراء

حرب 48 وظهور النشاط القومي

بعد احتلال إسرائيل لأراضٍ عربية فلسطينية، واستكمال احتلالها للعديد من الأراضي في أرض فلسطين في الأربعينيات من القرن الماضي، أو ما سميّ بحرب 1948، التي أحدثت هزةً عنيفةً لهذا الحدث الكبير بعد السيطرة على أجزاء كبيرة ومهمة في فلسطين، وقد كان التوقع أن باستطاعة القوات العربية التي تحركت بعد ذلك إلى انتزاع الأراضي التي احتلتها العصابات الصهيونية أن تستعيد الأراضي المحتلة، بأقل القدرات والإمكانيات في نظر القيادات العربية وخاصة القيادات العسكرية ، لكن هذا التدخل لم يحقق شيئًا يذكر وجاء الأمر عكسيًا، ونجحت هذه العصابات المسلحة أن تكسب أراضيَ عربيةً في فلسطين بصورة سهلة، مما ساعدها للتمدد أكثر في أراض أخرى بعد انسحاب القوات العربية، مع دخول دول عربية عديدة كمصر وسوريا والعراق وغيرها من القوات العربية المشاركة في حرب 48 كان مهمًا والروح الحماسية معبرة عن تحرك صادق منها لدعم الفلسطينيين، صحيح أن الاستعمار المتواجد في دول عربية على حدود فلسطين، أسهم في دعم ومناصرة قيام كيان إسرائيلي الغاصب لفلسطين، وظهرت في أثناء هذه الحرب، (أسلحة فاسدة) من خلال الاستعمار، مع بعض القوات العربية التي شاركت في هذه الحرب، التي كشف سرها الصحفي والروائي المعروف إحسان عبد القدوس، وبعد الحرب تحركت مجموعات من العرب والمسلمين، لمقاتلة اليهود من خلال حرب العصابات من تيارات إسلامية وقومية من الفلسطينيين ومن البلاد العربية، وخاصة الدول المحاذية للحدود العربية / الفلسطينية.

من ضمن هذه المجموعات التي تشكلت بعد الحرب، حركة القوميين العرب لقتال اليهود، التي أسسها د. جورج حبش مع بعض الشباب العربي الذي كان يدرس في الجامعة الأمريكية في لبنان، وكان د. جورج حبش قد غادر مدينته اللد الفلسطينية قبل الاحتلال الإسرائيلي بسنوات قليلة، للدراسة في الجامعة الأمريكية في بيروت في عام 1944، لكنه عاد إلى فلسطين في الإجازة الصيفية قبل الحرب، ليرى أسرته والظروف التي تعيشها في فترة التوترات من الفلسطينيين والعصابات الصهيونية وقيامها باحتلال أراضي فلسطينية ، والتي سبقت دخول الجيوش العربية إلى فلسطين، وذكر د. حبش في مذكراته التي حملت عنوان (صفحات من مسيرتي النضالية)، ظروف احتلال مدينة اللد، ويسهم في علاج الجرحى أثناء عودته، فيقول كنت: في أحد المستوصفات في هذه المدينة والقرى القريبة منها، بعد قيام العصابات الإسرائيلية باحتلال المدن في أراضي 48، ومنها مدينة د. حبش: 'إن عددًا كبيرًا من الرجال لجأوا إلى المسجد المجاور.. وفي النهاية احتلت مدينة اللد.

كان يومًا حارًا من أيام الصيف الحادي عشر من يوليو 1948.. كنا في شهر رمضان، وكان الرجال الذين يعرفون الطريق يسيرون باتجاه أول محطة يستطيعون الإيواء إليها ليستريحوا فيها. وما زلت أذكر حرارة ذلك اليوم والعطش الشديد الذي بدأ الجميع يشعر به على نحو يصعب عليه وصفه. كان الأطفال بوجه خاص يبكون ويصرخون طالبين الماء.. وحين كان يحاول أي إنسان أن يقف ليستريح يجد من أهله من يحثه على متابعة السير إلى حين الوصول إلى أول مكان يمكن التوقف فيه والبقاء فيه ولو مؤقتًا'.

بعد ذلك عاد د. جورج حبش إلى لبنان بعد انتهاء الإجازة الصيفية للدراسة، لكنه لم ينس ما أصاب فلسطين وأهلها ومدينته 'اللد' التي تم احتلالها وطرد عائلته من منزلهم وخرجت عائلته مع من خرج إلى دول الجوار، في هذه الظروف، بدأ التفكير في تأسيس حركة مقاومة للاحتلال، لكن هذا الفكر بقي هاجسًا متحركًا في ذهنه لم يفارقه أثناء وجوده في الدراسة الجامعية، ولإيجاد المتطلبات التي تعين على الانطلاق للتحرك، كانت الإرهاصات الأولى لقيام التنظيمات السياسية لمقاتلة الصهاينة، كان تأسيس (كتائب الفداء العربي)، وشارك فيها مع بعض المجموعات الناشطة، ومنهم الشباب الذين انظموا إلى (جمعية العروة الوثقى) في لبنان وسوريا، وكانت جمعية العروة الوثقى، من الجمعيات غير السياسية التي تأسست في الثلاثينيات من القرن الماضي، لكن بعد نكبة 48، تحولت إلى جمعية سياسية، ويعتبر الدكتور قسطنطين زريق، أحد المنظرين البارزين في الفكر القومي العربي آنذاك، وكان النادي الثقافي العربي، أحد الأندية التي أسهمت في التكوين الإيديولوجي للقيادة التي أسست الحركة بعد ذلك، وكان نشاطهم ينطلق من خلال هذا النادي، وكان د. زريق أستاذًا في الجامعة الأمريكية، الذي ألهب الشباب العرب في غرس الروح الوطنية، وأغلبهم ممن يدرسون في الجامعة الأمريكية، كما أشرنا آنفًا، وكانت الروح المعنوية لديهم قوية، كانت البدايات بتسمية الشباب القومي العربي غير المنظم، لكن سرعان ما تحول الفكر المؤثر من خلال العروة الوثقى، إلى حركة تنظيمية عرفت باسم (حركة القوميين العرب) وكان سريًا، في عام 1952، لكن الحراك السياسي التنظيمي للنشاط الفعلي لحركة القوميين العرب وظهور نشاطها للعلن، وبدأ العمل فعليًا بعد مؤتمر الحركة الأول في عام 1958، وضمّت هذه المجموعة المؤسسة كما هو معروف: المؤسس جورج حبش، مع وديع حداد، هاني الهندي، أحمد الخطيب، وبعض الآخرين من طلبة الجامعة الأمريكية لكن بعضهم خرج من الحركة ومنهم د. حامد الجبوري الذي انظم إلى حزب البعث في العراق، وتقلد العديد من المناصب الوزارية.

ويذكر د. جورج حبش في مذكراته كيف بدأ التفكير في تأسيس الحركة فيقول: 'من خلال العروة الوثقى تحديدًا، من هنا حصلت عملية الاندماج الكلي والصادق بيني وبين العمل الكلي من أجل قضية شعبي ووطني. تبلورت في تلك السنة مجموعة أسماء التي كنت أشعر بأن النكبة أثرت فيها بالقدر نفسه الذي كنت أشعر أنها أثرت فيّ أنا أيضًا. لقد أظهر هؤلاء الأشخاص استعدادًا لعمل أي شيء ممكن لخدمة القضية، وأذكر منهم الدكتور وديع حداد، والدكتور أحمد الخطيب، وكذلك صالح شبل وهاني الهندي وأشخاص آخرين، بعضهم توقف عن متابعة المسيرة فور التخرج من الجامعة وبعضهم بعد ذلك بسنوات قليلة'.

أول حراك سياسي وعسكري للحركة، كان بإنشاء (كتائب الفداء العربي) التي حملت شعار [وحدة ـ تحرر ـ ثأر]، وقامت ببعض العمليات السياسية والعسكرية عام 1949 وما بعدها، لكن لم تحقق نجاحات تذكر في نشاطاتها العسكرية في فلسطين لأسباب عديدة منها الحدود العربية المجاورة شبه مغلقة للتحرك، ويذكر كتاب (المسيرة التاريخية للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين)، من أجل نضال ضد إسرائيل: 'بقيت حركة القوميين العرب ترفع هذه الشعارات وتناضل تحت رايتها حتى عام 1959 حيث أضافت لها شعار الاشتراكية، واستبدلت شعار 'الثأر' بشعار استرداد فلسطين، وبالتالي أصبحت الحركة تستهدف تعبئة جماهير الأمة العربية في كافة الأقطار العربية لتحقيق الوحدة العربية، وتحرر كافة الأقطار العربية من الاستعمار وتحقيق الاشتراكية، واسترداد فلسطين.' بعد العدوان الثلاثي على مصر في عام 1956، بعد تأميم قناة السويس، تم إرغام الدول التي دخلت هذه الحرب على الانسحاب، خاصة بعد الإنذار الأمريكي للدول التي دخلت الحرب، بالخروج من مصر، شعرت الحركة بأن هذا الموقف الصلب من العدوان الثلاثي، مؤهل ليكون سندًا في مقاومة الاحتلال إسرائيلي بعد ذلك، ثم قامت الوحدة المصرية/ السورية، في عام 1958، فشعرت أن أحد شعاراتها قد تحقق بهذه الوحدة، وأعلنت تأييدها لهذه الوحدة الاندماجية، ودخل بعض الأعضاء من حركة القوميين العرب في الاتحاد القومي الموحد في مصر وسوريا [الجمهورية العربية المتحدة]، واعتبرت الحركة أن هذا الحدث الكبير يهم القضية المركزية للأمة، ألا وهو تحرير الأراضي الفلسطينية، وكادت الحركة أن تلغي نفسها، وتصبح جزءًا من النظام الوحدوي الجديد، بقيادة الرئيس جمال عبد الناصر، الذي انتخب رئيسًا للوحدة الاندماجية، لكن بعض القيادات في الحرك، رأت عدم إنهاء الحركة، بسبب ـ كما قيل في وثيقة الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين التي صدرت في يوليو 1967، أن الحركة رأت عدم: ' قناعتها بالصيغ التنظيمية التي كانت تطرحها القيادة الناصرية لتعبئة الجماهير -بعد الوحدة- لقد تصورت قيادة الحركة أن قيام الوحدة بين سوريا ومصر يقربها إلى حدٍ كبيرٍ من تحقيق كافة أهدافها في الوحدة والتحرر والاشتراكية واسترداد فلسطين'.

لكن الوحدة المصرية / السورية انتهت بعد قيام بعض الضباط السوريين من حزب البعض بالإقليم السوري، بإعلان انفصال الوحدة القائمة، وردوا -قيادات الانفصال- أسباب الانفصال إلى سياسات القيادة العسكرية الموحدة الممثلة في المشير عبد الحكيم عامر، وبعض القيادات العسكرية تجاه الضباط السوريين وتنحيتهم، دون أسباب موضوعية، لكن حركة القوميين العرب، رأت أن السبب الأساسي يرجع إلى الإقطاع وقيام البرجوازيين في دولة الوحدة، منع قيام وحدة اشتراكية وجعل الصراع الطبقي سلميًا، ومن عام 1963، بدأ الجناح اليساري الماركسي، وفي المقدمة القيادات في الحركة محسن إبراهيم، ومحمد كشلي، ونايف حواتمة بإثارة موضوع الصراع الطبقي، والماركسية، مما حدًا بجورج حبش، إلى تسمية محسن أبراهم ومجموعته بـ(الطفولة اليسارية)، وبأنهم منظّرون لا يستطيعون تحمل مصاعب النضال السياسي'. لكن هذا القول هدفه عدم الاستعجال في حرق المراحل، في تبني النظرية الماركسية، وأن التدرج المحسوب، هو الأهم في المسيرة النضالية في ذلك الظرف، فتمت التهدئة قليلًا من مجموعة مجلة الحرية، فاستمر الحديث عن 'الالتحام بالناصرية'، مع ظهور بعض الأفكار التي تدعو إلى قيام الحركة الجذرية للنضال، وتطبيق النظرية العلمية، وتم انتقاد القرارات الاشتراكية التي أصدرها الرئيس عبد الناصر في عام 1961، التي لم تتحدث عن الصراع الطبقي، لكن المجموعة المسيطرة على مجلة (الحرية)، وخاصة محسن إبراهيم الذي يكرر الحديث بين الحين والآخر، عن أهمية التجذير الاشتراكي و': لا يمكن بناء الاشتراكية من دون حزب اشتراكي يحّول الجماهير من قوة اشتراكية بالقوة إلى قوة اشتراكية بالفعل'.

وهذا يعني أن الفكر الماركسي كان حاضرًا في وعي البعض، ولذلك جاء الحراك مع حركة الانفصال بالظهور المتذبذب، أكثر مما هو مستبعد من الفكر، ويذكر الكاتب كمال خلف الطويل أحد المتابع لحركة القوميين العرب، أن الحركة: ' لم تكن جادة مع عبد الناصر قبل الوحدة وبعدها، سايرت الحركة رغبة عبد الناصر في توحيد الفصائل الوحدوية السورية فاندمجت (اسمًا لا فعلًا) في الاتحاد الاشتراكي العربي عند تأسيسه في يوليو 1964 لتسارع إلى الخروج منه بعد فترة لم تبلغ العام، وتعود للعمل المستقل، وإن تحت لافتة الناصرية العامة مرتين عامي 1965 و1966.' لكن نكسة عام 1967، برزت الرؤية الواضحة والكاشفة لحركة القوميين العرب، تجاه الناصرية، من خلال حتى القيادة التقليدية للحركة التي كانت تنتقد بعض الآراء اليسارية وتسميها بالطفولة واستعجال المراحل، ومن المجموعة التي كانت تطالب بالجذرية الفكرية منذ بداية الستينات، وكانت تتحرك وتبرز رؤيتها للنظرية الماركسية / اللينينية، وهو ما تم الحديث عنه في العديد من الكتابات والوثائق السياسية، التي أشرنا إليها في مقالنا الأسبوع الماضي، وما أسمته بالهزيمة المذلة لحرب 67، من قيادة برجوازية صغيرة، بعدها بأشهر قليلة، بدأ التنصل من حركة القوميين، وأعلن جورج حبش قيام الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، واتخذت الماركسية/ اللينينية فكرًا لها، وتبعته العديد من الحركات السياسية بإنهاء الحركة، وأعلنت قيام أحزاب جديدة تتبنى النظرية الماركسية، طريقًا ومنهجًا فيما سموه بالنضال السياسي والعسكري.. لكن الدور عن الذي لعبته (مجلة الحرية) منذ تأسيسها ؟ وماذا كانت تطرحه من أفكار تحذيرية في فكر حركة القوميين، قبل أن تنتهي الأخيرة عمليا بعد نكسة 67؟ وللحديث بقية.