أفكار وآراء

روح سنكارا ترفرف على أفريقيا

لم يكن توماس سنكارا مجرد رقم ضمن قائمة رؤساء القارة الأفريقية؛ بل كان رقمًا من الوزن الثقيل، رغم قصر مدة حكمه لبوركينا فاسو التي استمرت أربع سنوات فقط، حقق فيهن إنجازات كبيرة لبلاده قَلّ أن يحققها غيره في سنوات. ورغم مرور 34 عامًا على اغتياله إلا أنّ روحه عادت لترفرف بقوة على بوركينا فاسو وعلى القارة الأفريقية كلها، وذلك بعد أن أعادت المحكمة العسكرية في واغادوغو، فتح قضية مقتل الرئيس السابق توماس سنكارا، واثني عشر من رفاقه في الخامس عشر من أكتوبر 1987، في انقلاب عسكري قاده وقتها الرئيس المخلوع بليز كومباوري الذي خُلع عام 2014 بعد حُكم استمر 27 سنة، سعى خلالها إلى مسح معالم قضية مقتل سنكارا، ولجأ إلى الدولة المجاورة ساحل العاج. وأذكر تمامًا النقاشات التي جرت يومئذ بين الزملاء في دائرة الأخبار بإذاعة سلطنة عمان - حيث كنا نعمل - إذ قال أحدهم إنّ سنكارا شيوعي.. فيما قال آخر إنه مكّن المرأة على حساب الرجل.. وانبرى ثالث يدافع عنه لأنه قضى على الفساد وأقام محاكم ضد المفسدين وأنه وقف ضد دول الاستعمار ونادى بأن تكون أفريقيا بخيراتها للأفارقة.. فيما رأى رابعٌ أنّ تلك هي مجرد شعارات مثل التي يرفعها حكّام دول العالم الثالث، وأنّ ما جرى هناك هو مجرد انقلاب عسكري مثل كلّ الانقلابات التي تحدث في الدول المتخلفة.

أن ينال حاكمٌ ما الرضا بالإجماع يُعتبر شبه مستحيل، لأنّ موقف الإنسان يأتي دائمًا من موقعه ومدى استفادته أو ضرره من ذلك الحاكم، لذا نرى - مثلا - أنّ الفقراء والمزارعين الذين استفادوا من حكم جمال عبد الناصر في مصر يثنون عليه، فيما يلعنه الإقطاعيون إلى يومنا هذا؛ وهذا ينطبق على الكلّ بما في ذلك الرئيس توماس سنكارا، الذي نقترب من سيرته في السطور التالية، بعد أن عملت سلطات بوركينا فاسو الجديدة على تكريم ذكراه ومرافقيه، بداية بنقل رفاتهم الذي ظلَّ مكان دفنه مجهولًا حتى سنة 2015.

كان سنكارا شخصية ثورية لقب بـ 'تشي جيفارا أفريقيا'، استولى على السلطة في انقلاب لقي تأييدًا شعبيًا عام 1983. وعلى عكس كلّ الانقلابيين، فقد كان هدف سنكارا يتمثل في القضاء على الفساد والتصدي لهيمنة القوة الفرنسية المستعمرة؛ ولدى وصوله للسلطة عمل على تحقيق برامج اقتصادية طموحة، وركز على التغيير الاجتماعي والاعتماد على الذات، وقام بإعادة تسمية بلاده من 'فولتا العليا' وهي التسمية الفرنسية، إلى بوركينا فاسو (أرض الرجال النزهاء). في سنوات حكمه القصير ركز في سياسته الخارجية على مناهضة الامبريالية، مع تجنب المساعدات الخارجية، وتجنب سلطة ونفوذ صندوق النقد الدولي. أما سياسته الداخلية فقد تركزت على منع المجاعة مع الاكتفاء الذاتي الزراعي وإصلاح الأراضي، وإعطاء الأولوية للتعليم بحملةٍ لمحو الأمية في جميع أنحاء البلاد، وتعزيز الصحة العامة، إضافة إلى برنامج غرس 10 ملايين شجرة من أجل إيقاف التصحر، والذي يُعدّ الأول من نوعه في تاريخ أفريقيا، مما حقق لبوركينا فاسو الاكتفاء الذاتي، فأصبحت بوركينا فاسو أول دولة في تاريخ أفريقيا مكتفية ذاتيًا، مع وجود فائض في الإنتاج؛ فبعد أن تولى سنكارا الرئاسة 'صادر أراضي الإقطاعيين وزعماء القبائل ووزّعها على الفلاحين، وألغى الضرائب الثقيلة التي تثقل كاهل الفلاح، ممّا رفع المستوى المعيشي للفلاحين وخلق الحالة المُثلى للمساواة في بوركينا فاسو، وكان من نتيجة ذلك أنه في غضون أربع سنوات فقط تضاعف إنتاج القمح والقطن، وصارت بلاده تملك فائضًا في الغذاء وهو ما يُعتبر معجزة في دولة أفريقية فقيرة مثل بوركينا فاسو'. ونفّذ سياسة الاعتماد على النفس، فحظر استيراد العديد من المواد إلى بوركينا فاسو، وشجّع على نمو الصناعات المحلية، ولم يمر على سياسته الكثير 'حتى أصبح البوركينيون يرتدون قطنًا وطنيًا 100%، جرى نسجه وتفصيله في بوركينا فاسو'، كما أكدت ذلك جميع المصادر، وكانت المرة الأولى في تاريخ أفريقيا أن يرتدي المواطنون الأفارقة الملابس المحلية بدلاً من المستوردة من الخارج، فيما تُعرف القارة الأفريقية بأنها الأغنى في العالم بثرواتها ومعادنها وزراعتها وأنهارها وبحارها، مع قلة عدد سكانها، لكنها (أفريقيا) ما زالت تعاني من ضعف أنظمة الحكم.

تأثّر سنكارا إلى حد بعيد بتشي جيفارا وبالثورة الكوبية، فأنشأ محاكم ثورية شعبية على غِرار تلك الموجودة في كوبا لمحاكمة الفاسدين ومُبذري المال العام، حوكم فيها مسؤولون حكوميون سابقون متهمون بالسرقة والفساد، وأعيدت أموالهم المنهوبة إلى خزينة الدولة.

وإذا كانت برامج سنكارا الثورية للاعتماد على الذات قد جعلته رمزًا لفقراء أفريقيا، إلا أنه كان هناك نفور من سياساته بالنسبة لزعماء القبائل الذين فقدوا امتيازاتهم القديمة، والذين كانوا اليد العليا في أفريقيا، إضافة إلى وقوف زعماء أفارقة ضده، خوفًا من انتشار أفكاره الثورية التي تهدد مصالحهم؛ لذا نجده في عام 1987 وأثناء اجتماع القادة الأفارقة، حاول توماس سنكارا إقناع أقرانه بأن يديروا ظهورهم لديون الدول الغربية، 'إنّ الدَيْن يدار بشكل بارع لاستعادة أفريقيا.. إنه استرداد يحيل كلّ واحد منّا إلى عبد اقتصادي.. إنّ سياسات الفائدة والمساعدات قد انتهت بنا إلى إخضاعنا وسلبنا الشعور بالمسؤولية تجاه شؤوننا الاقتصادية والسياسية والثقافية. لقد اخترنا أن نخاطر بأن نمضي في مسارات جديدة لتحقيق رفاهية أفضل'.

ضاقت بعض الدول الأفريقية ذرعًا بتوجهات سنكارا، فتحالفت مع فرنسا - التي سئمت بدورها منه بسبب سياساته المناهضة للإمبريالية - فتم التخطيط للإطاحة به عن طريق صديقه ورفيقه كومباوري، الذي خانه وتعاون مع المخابرات الفرنسية، فقام بانقلاب عليه وقتله، وكثيرًا ما حذّره أصدقاؤه من كومباوري، لكنه لم يقتنع وقال: 'الأصدقاء لا يخونون'، وكان يردد 'يمكن قتل الثوار إلا أنّ أفكارهم لا تقتل'. وقد قُتل سانكارا من قبل مجموعة مسلحة مكوّنة من 12 ضابطًا حيث أطلقوا عليه النار عندما كان في أحد الاجتماعات، كما روى ألونا تراوري أحد رفاق سنكارا والناجي الوحيد من مجزرة انقلاب 15 أكتوبر 1987 أنه سُمع صوت يأمر من الخارج: 'اخرجوا'، تلته بعدها رشقات رصاص، فوقف سانكارا هاتفًا برفاقه 'ابقوا هنا.. إنه أنا من يريدون. خرج الرئيس وما هي إلا ثوان من عبوره باب البيت حتى أطلقوا عليه النار ليردوه قتيلاً، خرجنا بعده فأطلقوا علينا النار كذلك'، وقد أخذوا جثته وقطعوها إربًا ثم دفنوها في إحدى المقابر.

رفض سنكارا كلّ الامتيازات الحكومية، وجعل راتبه 450 دولار فقط، وبذلك يعد أفقر رئيس في العالم آنذاك، ومجمل ممتلكاته الشخصية هي دراجة هوائية وسيارة قديمة مع ثلاجة معطلة وثلاثة غيتارات.

بعد مقتله ب34 عامًا، ترفرف روح توماس سنكارا على أفريقيا، وسيظلّ باقيًا في الذاكرة الجمعية للشعوب الأفريقية، خاصةً شعب بوركينا فاسو، إذ استطاع أن يحوّل بلاده في غضون أربعة أعوام من بلد فقير يعتمد على المساعدات، إلى بلد مستقل اقتصاديًا ومتقدم اجتماعيًا، فلم يلجأ إلى فرض الضرائب على الشعب، ولا إلى رفع الدعم، ولا إلى اقتطاع رواتب المواطنين التي هي في الأصل شحيحة، ووقف ضد سياسات صندوق النقد والبنك الدوليين لصالح مواطنيه؛ وقدّم دروسًا للحكام قبل الشعوب بأنّ علينا أن تثق في قدراتنا، وألا نرهن أوطاننا للأجانب تحت أيّ ظرف كان، حتى وإنْ كان في الديون، لأنّ في ذلك نرهن قرارنا وسيادتنا للآخرين، وعلّمنا توماس سنكارا أنّ جميع الحلول في الداخل عندما تخلص وتصدق النية.