أفكار وآراء

منهاج السلامة.. مخطوط غير معروف

تراثنا العلمي العماني.. لا يزال أغلبه بكراً، ينتظر من يزيح عنه دثار العوادي، ويخرجه للحياة، ليعرف الناس حضارتنا، ويقرأوا فكرنا، ويدرسوا معارفنا، فكم من كتاب يُذكر ولا يُبصر، بل كم من سفر تسفر عليه الشمس بوجهها بعد أن كان في الظل منسياً. واليوم.. أقدم للقارئ مخطوطاً يكاد لا يعرفه أحد؛ إلا اليد الأمينة التي حافظت عليه، وهو «منهاج السلامة في أحكام الإمامة» لسالم بن عبدالله بن راشد الحمسعيدي، جامع في فقه الإمامة، تقلّب يتيماً -دون نسخة ثانية له- بين أيدي أفراد الناس حتى وصل إلى الشيخ عبدالله بن زاهر الهنائي، ثم آل إلى ابنه الشيخ عبدالملك، الذي دفعه منذ عشرين عاماً إلى الدكتور محمد صالح ناصر، فحققه هو وابنه يحيى، ولكن لم يقيّض له أن يرى النور، فطلب مني الدكتور عبدالملك أن أعمل على نشره، وقريباً بإذن الله يصدر.

وكما أن الكتاب كان غير معروف؛ فإن المعلومات حول مؤلفه شحيحة، ولم يجد المحققان ما يترجمان له، فكتبا في مقدمة التحقيق: (ولم نعثر في كتب أعلام عمان له على ذكر، مما يدل على أنه لم يكن من الشهرة بمكان). ولذلك.. وقعا في خطأ؛ بـ(أنه كان يعيش في أواخر القرن الثالث عشر الهجري... ولعله أدرك القرن الرابع عشر). والسبب.. أنهما وجداه ينقل من كتاب «التمهيد»، وظنا أنه «تمهيد قواعد الإيمان» للمحقق سعيد بن خلفان الخليلي(ت:1287هـ)، وإنما هو «التمهيد» لأبي بكر محمد بن الطيّب الباقلاني(ت:403هـ). وكذلك.. حصل لفهد السعدي صاحب «معجم الفقهاء والمتكلمين الإباضية»، فلم يورد عنه إلا معلومات يسيرة، مجملها أن الحمسعيدي (عاش في القرن الثاني عشر الهجري، من العقر من ولاية نزوى)، وقد أصاب في مكانه، إلا أنه لم يكن دقيقاً في زمانه. ويذهب محمد السيفي صاحب «السلوى في تاريخ نزوى» إلى أنه (من مشايخ القرن الحادي عشر، وأدرك القرن الثاني عشر الهجري)، ولم أجد أنه أدرك القرن الثاني عشر.

لم أجد ذكراً «للمنهاج» في المراجع التي اطلعت عليها؛ إلا في موقع «تادارت» الإلكتروني، وفيما يبدو.. أن المحققَين أمدّاه بما ترجم به للمؤلف، لأنه ذكر ما ذكرا في مقدمتهما. وهذا يعني.. أن بقاء المخطوط ثروة لا تقدّر بثمن، فلولا بقاؤه لما عرف للحمسعيدي كتاب غير «نهج الأبرار وجواهر الآثار والأخبار»، وهو في الزهد والوعظ.

«منهاج السلامة».. يقوم منهجه على رؤية واعية في تأصيل المعرفة بالرجوع إلى نصوص القرآن والحديث، ثم نصوص العلماء المعتمدين لديه، ثم ما موافقها من نصوص غيرهم. وأسلوبه سهل، يختار الواضح مما ينقل من النصوص، وما يوجد من غموض فيها فيرجع للطبيعة الاصطلاحية التي تلازم العلوم، وتأثير تغيّر الزمان على اللغة.

والحديث عن منهج الكتاب وأسلوبه يقودنا للحديث عن طبيعة التفكير في العهد اليعربي، فقد كان المنهج السائد فيه توحيد الرؤية حول القضايا السياسية من بعد الافتراق الطويل بين المدرستين الرستاقية والنزوانية منذ القرن الرابع الهجري، وهذا نجده في هذا الكتاب، وفي «منهج الطالبين وبلاغ الراغبين» لخميس بن سعيد الشقصي(حي:1070هـ)، حيث أخذ العلماء عن كلا المدرستين، وتجنبوا الكثير من الجدل الخلافي حول الإمامة؛ الذي حصل بخروج موسى بن علي(ت:287هـ) على الإمام الصلت بن مالك الخروصي(ت:273هـ) وتنصيب راشد بن النظر(حي:277هـ) إماماً، ما أدّى إلى جدل كلامي وخلاف فقهي وصراع اجتماعي واقتتال قبلي. وقد فعل العلماء ذلك -فيما يبدو- عن إدراك لتأثير تلك الفتنة العمياء على التأريخ العماني، فأردوا أن يؤسسوا منهجاً جديداً يقطع الصلة بها وبآثارها المُرّة، ويتجاوزها إلى النصوص التأسيسية المتفق عليها بين المدرستين، وقد ظهر هذا الإدراك في مادة التأليف، وفي العناوين المختارة لكتبهم، وهذان الكتابان نموذجان.. فسمى الشقصي كتابه بـ«المنهج» وعنون الحمسعيدي كتابه بـ«المنهاج». بل أن تجاوز الافتراق سابق على العصر اليعربي وممهد له؛ فـ«منهاج العدل» لعمر بن سعيد ابن معدّ البَهلوي (ت:1009هـ) خير شاهد لذلك.

وكذلك.. أسلوب الكتاب انعكس عليه أثر ذلك العهد، حيث كان عهد زهد ومواعظ، فجاء قريباً من النفس، يسيراً على الفهم، يحبب للناس اقتفاء آثار أسلافهم. ويمكن أن نستحضر في هذا المقام «الدلائل على اللوازم والوسائل» لدرويش بن جمعة المحروقي(ت:1086هـ). وهذا عائد إلى ما شهدته الدولة من توحّد داخلي وتوسّع خارجي، فزادت عوائدها المالية، وانتعش المجتمع بالاستقرار، فكثرت بأيدي الناس الأموال، وتنعّمت نفوسهم بالرخاء، فخشي العلماء أن يطغى الجانب المادي على أرواح الناس، فنهجوا فيهم نهج الوعظ، وحبّبوا لهم التعفف عن المباهج، وحذّروهم من مطامع الدنيا، وقرّبوا إليهم مطامح الأخرى، فكانت مؤلفاتهم مرآة لهذه الحركة الزهدية.

إن ما يلفت النظر في «منهاج السلامة» ويحيّر الفِكَر؛ عدم اعتماده على المراجع القريبة منه زمناً، مثل: «منهاج العدل» لابن معدّ، الذي حوى بابين على الأقل يخصان قضايا الإمامة. و«منهج الطالبين» للشقصي، الذي لا تخفى مرجعيته منذ تأليفه، ليس بكون مؤلفه أحد مراجع عمان المعدودين فحسب، وإنما انتشر الكتاب في حياته خارج عمان، فوصل إلى جزيرة جربة بتونس، واعتمد عليه المحشي محمد بن عمر ابن أبي ستة(ت:1088هـ) في حواشيه، وقد عاصر الحمسعيدي الشيخ الشقصي، ولم يورد له مسألة واحدة في «منهاجه».

بالإضافة إلى هذا.. لم يذكر الكتاب شيئاً عن الأئمة اليعاربة، ولم يُشِر إلى دولتهم الباذخة، أو انتصاراتهم القاهرة وفتوحاتهم الباهرة، رغم أن هذا من صميم ما تطرق إليه من الإمامة وأحكامها. ربما هدف الحمسعيدي إلى وضع منهج للإمامة الجديدة، فأراد أن يبعد عنها أي مطعن، فلا يزعم الزاعم أنه عمل كتاباً للدولة، فكأنه يقول إن كتابه ليس تسويغاً لنظام الإمامة لأنها قائمة، وإنما لأن «سيرة المسلمين» منذ صدر الإسلام قائمة على هذا النظام. فسعى بذلك أن يمنحها مشروعية أقوى فيما لو كتب باسمها، لاسيما.. أنها في بدايتها، ومن عادة البدايات أنها لا تسلم من المعارضة، وهذا يجعلني أفترض بأن تأليف «المنهاج» كان في بداية عهد الدولة اليعربية؛ زمن الإمام ناصر بن مرشد.

هذا التعليل.. بالنظر إلى الجانب الموافق للدولة، ولكن قد يكون العكس، فلربما عند تأليف الكتاب؛ كان الحمسعيدي من معارضي تنصيب الإمام ناصر، أو على أقل تقدير لم يكن من المؤيدين، لاسيما.. أنه اختير من بيت ملك كان قائماً في الرستاق، فيجوز الافتراض بأن الحمسعيدي كان غير مطمئن لهذه الدولة في أول عهدها، فضرب صفحاً عن ذكرها.

جاء في مقدمة المحققَين: (إن المؤلف لم يدَّعِ أنه يضيف شيئاً في الموضوع، ولعله من أجل قناعته هذه اختار أن يقول في العنوان: «كتبه لنفسه وألّفه من آثار المسلمين»، وكان المؤلف صادقاً مع نفسه، حيث يشير عند كل فصل أو باب إلى المصدر الذي نقل عنه)، وأجدني.. أختلف مع هذه النتيجة، فعبارة الحمسعيدي لا تدل على أنه لم يضف شيئاً، وإنما جرت مجرى عادة العلماء الذين تكتسي نفوسهم بالتواضع. والكتاب أضاف شيئاً مهماً، فهو خصّص منهاجاً مستقلاً للإمامة؛ لاسيما.. مع بداية عهد اليعاربة، ولم يُخصَّص قبله كتاب للإمامة وأحكامها، إلا القليل؛ ومع ذلك لم يصل إلينا، ككتاب «الإمامة» لنجاد بن موسى المنحي(ت:513هـ)، بل لعله لم يصل إلى الحمسعيدي، لأني وجدته ينقل عنه بالواسطة من الزيادة على «الإيضاح» لأبي زكريا يحيى بن سعيد(ت:472هـ)، ولم يصرّح بكتاب الشيخ نجاد المأخوذ منه، فلعله من كتاب آخر غير «الإمامة». وككتاب «الإمامة» المنسوب إلى خميس الشقصي. فأقدم كتاب وصل إلينا حتى الآن مخصص للإمامة وأحكامها هو «منهاج السلامة» فقط.

• باحث عماني مهتم بالقضايا الفكرية والتاريخية ومؤلف كتاب 'السياسة بالدين'.