أفكار وآراء

يوم القوات المسلحة

kk
 
kk
الحادي عشر من ديسمبر يوم القوات المسلحة، يوم جنود عمان البواسل، وحين يحتفل البواسل بعيدهم المجيد فهم يحتفون بوطنهم الشامخ، يجددون الولاء في افتدائه بكل ما لديهم ليبقى في شموخ وعلو، فهو ليس انتصاراً عسكريا فحسب بل هو يومٌ استثنائي يجسد خلود الأوطان، وانتصارٌ تاريخي، وفتحٌ نهضوي للحفاظ على وحدة الوطن كيانا غائراً في عمق التاريخ، ونسيجا متكاملا لا مجال لشق صفه، ولا لتفرقة وحدته، ولا لزعزعة أمنه. وعندما يتعلق الأمر بعُمان فلا مجال للمساومة مطلقا، فكان فكر وهدف قائد الوطن وباني نهضته الحديثة منذ البداية واضحا، لذا كان جديرٌ بعام سبعين أن يخلد في التاريخ العماني عام نهضة عم خيرها ربوع عمان شمالها وجنوبها، سهولها وجبالها بمنجزات لا يمكن أن يشعر بها إلا من عايش الحقبتين واقعا، ونحن على ثقة أن مشهد الرخاء والأمن ممتد في ظل قيادة حضرة صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم، حفظه الله، وهيأ له سبل الخير.

ونهضة عمان متجددة على الدوام، فعين الله التي ترعى عمان سخرت لها السلطان قابوس بن سعيد، طيب الله ثراه، وجزاه عن الوطن والمواطن خير الجزاء ينتشلها من براثن الجهل، وطاحونة الحروب القبلية، وأهداف القوى الخارجية الطامعة في خيراتها، فآمن الشعب بإخلاصه، وتسوروا حوله، وأحاطوا به إحاطة السوار بالمعصم، تهتف قلوبهم قبل ألسنتهم 'بالروح والدم نفديك يا قابوس'، ولسان قلبه يلهج لهم وأنا لكم ولعمان الفداء.

هم جند الوطن فتراهم هنا، وتراهم هناك، تلمحهم من بعيد صامدين على الثغور، واقفين في الخنادق، يدافعون عن الحمى، ويبذلون الغالي والرخيص لأجل وطن يأويهم ويحتضنهم، وبكل أمل يرون فيه مستقبلاً مشرقا لأبنائهم، فلا كرامة إلا في الوطن، يتجلببون الوطن في زيهم العسكري، يلبسونه فخاراً ويتلبسهم زهواً، يعاهدونه الذود عن حياضه، ويعاهدهم صون كرامتهم، فأثناء خدمتنا العسكرية التي جاوزت ثلاثة عقود لمسنا في قلوب الكثير من أبناء الغبيراء عشقاً لعمان، ولمحنا فيهم استماتةً في الدفاع عنها، وتجلت التضحية فيهم بأعلى مستوياتها.

الحادي عشر من ديسمبر يوم استثنائي لي شخصيا، هكذا كان ولايزال، ولا أبالغ إن قلت إنه عيد وطني حقيقي محفور في الذاكرة، لا يمكن أن يمر دون أن يثير الكامن، ويحرك الساكن، يسترجع شريط عمر ابتدأته طالبا في مدرسة قوات السلطان المسلحة، بل وأبعد من ذلك بكثير، منذ كنت طفلا لم تمنحه الحياة فرصةً أبعد من الإطلالة من سور بهلا، ولكن تلك الإطلالة في أبسط مستوياتها كنت أمارس خلالها متعتي في مراقبة السيارات العسكرية وهي تعبر الشارع من داخلية عمان لظاهرتها، أتفرس الآليات، وألمح وجوه العساكر وهي تختزن الهيبة والصمود والكفاح، نلوح لهم، فيلوحون لنا وهم يبتسمون، وربما يتساءلون ماذا لمح هؤلاء الأطفال في موكبنا ليتسمرون على سورهم ساعات طويلة، وأتساءل أنا ماذا وجد ذلك الجندي في ابتسامتي ليصرف كل وجهه نحوي، أتراه توسم مشروعا لجندي قادم إلى صفوفهم أم أنه لمح في عيني عشقا للحياة العسكرية يتجاوز طفولتي بسنوات عديدة، يقرأ اندهاشنا المبالغ بدبابته ورشاشه، فيعدِل وقفته العسكرية، لا أعلم أيهما أضاف للآخر وقاراً، ويمر إلى طريقه مؤجِجا حلماً عظيماً كافياً أن يجعلني شارداً معه لأسابيع، هذا بالنسبة للمرور العسكري العابر، لكن ماذا لو كان الموكب موكب السلطان الراحل طيب الله ثراه!!

هنا يتغير كل شيء، ويخال لك أن الكل في عيد حقيقي، يعبر عن فرحه ببذخ، حتى السماء تظللنا سحبها ابتهاجا بالموكب الميمون، رائحة طين حاراتنا وكأن الماء لم يجف منها بعد، رائحة البل يعطر كل ما حولنا، نخرج من مدارسنا نصطف على جانبي الشارع، نتزاحم في الجهة المحيطة بقلعة بهلا، لاعتقادنا أنها عنصر جذب لمولانا، فهو إن لم يقف ليحيي شموخها الذي يفخر به، فهو حتما سيخفف السرعة، وهنا ربما سيسمع هتافنا المملوء حبا وولاء له، وبقناعاتي الطفولية أرفع سقف التوقعات بأن يخيل لي أن قلعة بهلا بتاريخها الضارب في عمق التاريخ، ولارتباط مولانا السلطان قابوس طيب الله ثراه به، كنت أظن أنه ربما يستجيب لنداءات الروح ويخيم في واحاتها.

عشقي للعسكرية أولاً والطيران ثانياً كانا عاملين أساسيين شكلا أنزيما جينيا في أعماقي، دفعا بي إلى التحليق في السماء، رغم أني لم أكن أفقه من أبجديات العمل في جيش السلطان شيئا غير أنه عمل عظيم لخدمة الوطن، ولا شيء يعلو على مصلحته، وهذا كان كافيا ليشكل هدير المحرك النفاث الذي كان رفيقي في مسيرة الكفاح والنجاح إن جاز لي ذلك بلا كلل ولا ملل، وكيف للكلل أن ينال منا ونحن تسكننا عمان حبا وولاء، وقائدها يلهمنا دروس التضحية، يصنعنا قادة يفاخر بهم ويجابه بهم الأعداء، فكلما ارتديت بدلتي العسكرية توشحت معها مسؤولية تليق بمن ارتديت بدلتي لأجلهم (الله – الوطن - السلطان)، وكلما تقلدت نجمة تقلدت الوطن معها، متدرجا في الرتب إلى أن أضفت التاج إلى كتفي، فكان هنا شعوري بالتكليف أكثر من التشريف الذي لاشك أن أحدهما لا يتحقق إلا إذا استشعرت قيمة الآخر، فمع كل رتبة في الكتف يزداد حجم العطاء الذي يجب أن يليق بها، فالعمل العسكري ليس رتبا فالرتب تفنى، بل واجب وطني وحب أبدي فلا شيء قبل ولا بعد عُمان، وبرغم انقضاء مدة عملي العسكري وفي مسيرة زاخرة بالمواقف التي تمنحني الفخر، ويشدني الحنين إليها، لكن لم أفخر بشيء في حياتي العلمية والعملية بل وحتى الاجتماعية قدر اعتزازي بالمثول العظيم أمام مقام سلطان القلوب مولاي طيب الله ثراه، فهيبة اللحظة، ومصافحتي له بعد ما قلدني جناح الطيران، بكل تفاصيلها تملأُني شموخا، وبرغم أنه لم يكن لقاء طويلاً، ولكنه كان كافيا أن يصلني تكريمه لي ليبقى وسام عز وفخر، يمنحني الطمأنينة والسكينة.

والآن حين ألمح دبابة أو طائرة أو فرقاطة لا أراها بعيني آلية عسكرية فحسب، إنما أرى بورتريه لرجال مخلصين يمتطون صهواتها ليذعروا بها الأعداء والحاقدين على الوطن، كأنهم نسور تحلق في الجو، تبحث عن فريسة تهدد أمن الوطن لينقضوا عليها بطائراتهم الحربية بركان غضب يحرق أطماعهم، ربما هذا المشهد لا يمكن أن يتخيله إلا من عايشه حقيقة، ولا يمكن أن يتخيله إلا من امتطى طائرة حربية متدربا تارة، يحاول بكل ما أوتي من تركيز أن يمتثل أوامر مدربه لأنه يعلم أنه يعده لأمر عظيم، ويثق أن خطأ بسيطا قد يكلف مؤسسة عمله الشيء الكثير بشريا وماديا، وتارة مدربا بأكثر تركيز لحرصه أن يجمع كل معرفته العلمية وخبرته العملية ليقدمها درسا ماتعا ومفيدا لتلميذه لأنه يعده رقما صعبا في صفوف قوات السلطان المسلحة الباسلة، وفي كلا الحالتين عين نحو الأرض وعين نحو السماء وبينهما نحن نحلق بعمان وطنا من فخار.

والآن وبعد مضي واحد وخمسين عاما من العطاء والتضحيات لبناء قوة عسكرية بمختلف أجهزتها أتت ثمارها بقوة متكاملة على مختلف الأصعدة، وفي يوم الوطن العسكري: يوم قوات السلطان المسلحة، كيف لنا أن نحتفي به ولا يكون قائده وصانعه حاضراً في القلوب والأذهان؟ وكيف لقائد الطابور أن يقود طابوره دون أن يمر به طيف صانع الطابور؟

ولكن عزاؤنا في ذلك أن الراية تسلمها من توسم فيه هو خيرا، وكلنا ثقة بقيادتنا الحكيمة وأنه أهل للخير الذي به تستكمل المسيرة، وبه تتجدد النهضة، فاللهم اجزهما عن الوطن والمواطن خير الجزاء ولبواسل قوات السلطان المسلحة نقول: هنيئاً لكم يومكم العظيم الذي تسطرون فيه أمجاد آباء وأجداد ورفاق سبقوكم لخدمة الوطن الجميل الذي بني ويبنى بسواعد أبنائه المخلصين الأوفياء فقط دون غيرهم، فاعطوا عمان الخير كل طاقاتكم، وثقوا بأن ما خاب من أخلص لوطنه، وما هان من حمى بني وطنه، فبالوطن لا بغيره تصان كرامة الإنسان، وهو مع الدين لا غير من يستحق أن يضحي الإنسان بأغلى ما لديه لحفظه، ويحق لكم أن تفخروا وتفاخروا أنكم جنود عمان وحراس عرينها الأمناء، ونسأل الله العلي القدير أن يحفظ عمان وقائد عمان هيثم الهمام وأبناء عمان من شر الفتن، وعبث العابثين، وكيد الطامعين، ونوايا الأعداء المتربصين.

• عقيد ركن طيار متقاعد من سلاح الجو السلطاني العماني