أعمدة

نوافذ : متى نعرف أنفسنا؟

 
معرفة النفس لم ولن تكون أمرا يسيرا، وهناك فاصل كبير؛ ومتسع بيننا، وبين أنفسنا، نستدرك بعض تفاصيله في مواقف معينة، أو مناسبات، ولكن الأغلب من امتداد هذا الفاصل لن يكون متاحا؛ خاصة في زحمة اشتغالاتنا في الحياة، حيث تأخذنا مناخات الشباب، والمال، والقوة، والفتوة، والجاه، والطموحات؛ وتجاذبات الأسرة، وكما يقال؛ أيضا: 'تكوين الحياة' كل ذلك وغيره؛ يوسع من دائرة المعرفة عن قرب، ويبعدنا عن مركزية النفس، فلا ندري وإلا ونحن على مشارف (حتى إذا بلغ من العمر عتيا) عندها فقط، نبدأ في لملمة ما يمكن لملمته في حالة؛ قد تكون؛ من الإرباك والخوف غير المنكورين، وفي حالة من الحيرة؛ أحيانا؛ ونتساءل: كيف مرت هذه السنون؛ دون أن نلتفت إليها بصدق؟ كيف مر تراكم العمر وخبرات السنين؛ دون أن تؤثر فينا لاسترجاع شيء من التأمل، والتقصي، والتحوط، من مطب الوقوع في مأزق الخسارات الكبرى التي تتساقط أوراقها من أعمارنا؟

وتأتي الاستفاقة بعد هذا الكم من سنوات العمر: (... حتى إذا بلغ أشده وبلغ أربعين سنة، قال رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي، وأن أعمل صالحا ترضاه، وأصلح لي في ذريتي إني تبت إليك، وإني من المسلمين) – الآية (15) من سورة الأحقاف – وبذلك يمثل سن الأربعين مفترق طرق بالنسبة لحياة كل منا، ومعنى ذلك أيضا إن لم يحسم بلوغ هذا السن الحالة الفارقة في حياة كل منا، فإن هناك أمرا ما غير طبيعي يتطلب العمل فيه؛ على وجه السرعة؛ حتى لا تنفرط حبات العقد من السنين المتبقية، فتتوالى الخسارات أكثر وأكثر، ويكون كل العمر الذي تم تقضيته هباء منثورا، ونفقد بذلك خسارتنا الكبرى في عدم معرفتنا لأنفسنا.

يقول الشاعر أبو الفتح البستي – علي بن محمد البستي؛ ولد في مدينة بست بأفغانستان؛ لشكر كاه حاليا -: 'أقبل على النفس واستعمل فضائلها؛ فأنت بالنفس لا بالجسم إنسان' ولكن هذا الإقبال لن يكون في الأزمان المبكرة من حياتنا، فتأتي المراجعة؛ غالبا؛ في أعمارنا المتأخرة، وهذه من المحاسن الطيبة لأنفسنا، لنلتفت على ما تبقى منها، ونوظفها لما يمكن أن يكون رصيدا نختم به خواتم أعمارنا، وأعمالنا، وهذا من فضل الله علينا، فكثير في هذه الحياة حتى هذه الاستفاقة حرموا منها، وودعوا الحياة الدنيا وهم على ضلالهم، وغفلتهم، لأن العبرة؛ كما يقال دائما؛ بـ 'خواتيم الأعمال'مع أنه لا زمن محدد لخواتيم الأعمال هذه، فهادم اللذات غير موقوت بزمن معروف، وهنا مصيبتنا الكبرى.

تظل النفس؛ كما أراد لها خالقها؛ أن تكون مهيأة لأي مشروع من مشاريع الحياة، صالحها وطالحها، وتبقى صلاحية توجيهها نحو الصلاح، أو الطلاح بيد الإنسان على امتداد مساحة العمر المتاحة لكل فرد في هذه الحياة، إلا من رفع عنهم القلم: (الصبي؛ النائم؛ المجنون) ولا عذر لمن كان خارج هذه المجموعة، وأما الاتكال على المبررات؛ وإن كانت واقعية، والظروف؛ وإن كانت حقيقية، يظل رهانا خاسرا بكل المقاييس، والسبب أن ليس هناك خط رجعة، أو العودة إلى المربع الأول لبدء عد خطوات جديدة 'والعاقل من دان نفسه'.