أفكار وآراء

بين المراجعة الفكرية والمرحلية التكتيكية

في كل العصور الإنسانية تتم عند الكثيرين من العلماء والمفكرين والفلاسفة، مراجعات لفكرهم لسبب من الأسباب، إما بعضهم بسبب النضج الفكري عند أصحابها، أو التحول الذي يحصل للأفكار عندما تضعف وتفشل في تحقيق أهدافها، وإما لكونها أضعف عند التطبيق العملي، أو عندما تستبد بها الأخطاء النظرية بعد المراجعة الجدية لرؤيتها عامة، وهذا حصل كما قلت آنفاً، للكثير من المفكرين والعلماء، أو السياسيين عند المراجعة مع حصول الخبرة الفكرية لهم مع مرور الزمن، ولا شك أن المراجعة الفكرية، في كل ميادين الفكر، ضرورة فكرية وحاجة إنسانية، لتفادي السلبيات والعقبات، واختيار الفكرة الإيجابية الثاقبة، ونتذكر في عصرنا الراهن، المراجعة الفكرية الفلسفية للمفكر والفيلسوف المصري د. زكي نجيب محمود عندما اعتنق الوضعية المنطقية في مرحلة من مراحل حياته الفكرية المعروفة، وكتب عنها في بعض مؤلفاته، أيضا المفكر د. عبد الوهاب المسيري، الذي بدأ حياته باعتناق الفلسفة الماركسية في الخمسينات، وكتب عنها في مؤلفه «رحلتي الفكرية.. في البذور والجذور والثمر»، ثم تخلى عنها واقترب من الفكر الإسلامي كما عُرف عنه، أيضاً المفكر والباحث الفلسطيني المعروف الأستاذ منير شفيق المسيحي وعضو الحزب الشيوعي الفلسطيني، وأصبح مفكراً إسلامياً في كتاباته ومؤلفاته الكثيرة، أيضاَ المفكر الإسلامي البارز د. محمد عمارة، كان ماركسياً ملتزماً، وسجن 6 سنوات بعد اعتقال الماركسيين في منتصف الخمسينات في مصر الناصرية، ود. أحمد الربعي أيضاً كان ماركسياً في شبابه، وسجن في الجلالي بسبب انتمائه للثورة العمانية وأصبح بعد ذلك ليبرالياً، وهناك الكثير أيضاً من الأشخاص، عُرف عنهم المراجعات الفكرية في مراحل مختلفة من حياتهم الفكرية.

لكن هناك فرق بين المراجعة الفكرية الواضحة، التي تتم بشكل منبثق من إعادة النظر في أفكار أعتنقها الشخص في مرحلة معينة، وتراجع عنها بعد ذلك بقناعة ذاتية، وبين من يخفي فكره الأيديولوجي، لإتاحة الفرصة لها للتحرك في وقت مناسب، لأن الظروف لم تكن مواتية لها لكشف رؤيته الفكرية، واستخدام ما يسمى بـ بالمداراة أو التقّية، فقبل عدة أيام مضت أعدت قراءة مذكرات المفكر والبرلماني الكويتي المخضرم د. أحمد الخطيب والتي حملت عنوان «ذكريات العمل الوطني»، وكما نعرف أن د. أحمد الخطيب، أحد مؤسسي «حركة القوميين العرب» في لبنان في فترة دراسته العالية، مع جورج حبش، ووديع حداد، وهاني الهندي، وحامد الجبوري، فيقول د. الخطيب في هذا الكتاب: «بعد هزيمة يونيو 1967 التي أحدثت زلزالاً عنيفاً في المنطقة. هذه الهزيمة المذلة أفقدت الكثيرين صوابهم، واعتبرها البعض هزيمة للخط الناصري والقومي، وبالتالي تبرأ عدد كبير من المناضلين من هذا التوجه ولجأوا إلى العقائد الأخرى المطروحة في الساحة، أي إلى الأحزاب الدينية أو الماركسية اللينينية من دون الانتباه إلى أن هذه الأحزاب كانت موجودة منذ عشرات السنين من غير أن تستطيع تحقيق أي اختراق سياسي كبير». وعزى د. أحمد الخطيب ما جرى من خروج على حركة القوميين العرب، إلى نايف حواتمة: «الذي انتدبته الحركة إلى العراق بعد تعرض حركة القوميين العرب في العراق لحملة مطاردة شرسة من البعث العراقي، وقد انبهر كما يبدو بالحزب الشيوعي العراقي وبكوادره المناضلة والمثقفة وتاريخه البطولي في النضال لمصلحة الطبقات المهمّشة في المجتمع العراقي، فتحوّل إلى مركسي لينيني وعدو الفكر القومي».

والحقيقة أن ما قاله د.الخطيب يناقض العديد من المواقف التي- في هذا الأمر- تخالف هذا الرأي سواء ما قاله بعض المؤسسين للحركة، أو ما ذكره بعض الباحثين عن حركة القوميين العرب ورؤيتها المتذبذبة، وهو أن حركة القوميين العرب، لم تكن بعيدة عن الفكر الماركسي، لكن الظروف لم تكن مواتية للإعلان عن فكر الحركة الحقيقي، خاصة مع بروز الفكر الناصري الأكثر شعبية في الوطن العربي، خاصة منذ أواخر الخمسينيات وبداية الستينيات، وطرحت فكرة (الالتحام بالناصرية) مرحلياً، وهذا ما قاله الحكيم د. جورج حبش في مذكراته، (صفحات من مسيرتي النضالية)، إذ يقول في صفحة 98: «لم نكن ذلك الوقت نطرح شعار الاشتراكية، لأن هذا الموضوع كان يثير الجدل بين كوادرنا ورفاقنا في القاعدة الحزبية، وكان جوابنا عنه أننا نمر بمرحلة تحرر وطني، وأن هذه المرحلة تتطلب تجميع كل الطبقات من أجل تحقيق التحرر، وأن من الخطأ إثارة موضوع الصراع الطبقي في هذه المرحلة».

وفي كتاب: «المسيرة التاريخية للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين»، وصدر ذلك في الاجتماع أول وثيقة رسمية «عرفت باسم تقرير تموز 1967» تتضمن تحليلاً طبقياً للنكسة، حمل عنوان «الثورة العربية أمام معركة المصير» وعرفت إشكالياته باسم «موضوعات 5 حزيران»، وقد قام بصياغتها د. جورج حبش، وقد فسّرت الوثيقة: «عجز قيادة الثورة العربية بسبب تكوينها الطبقي والأيديولوجي والسياسي البرجوازي الصغير، واستنتجت نظرياً في ضوء تحليلها الطبقي للنكسة، «أنه إذا كانت لم تُعد مؤهلة لممارسة دور القيادة على رأس الحركة الثورية العربية في هذه المرحلة الجديدة من نضالها». وقد يتطلب ذلك ـ كما تقول الوثيقة ـ «ضرورة انتقال مقاليد القيادة إلى الطبقات والفئات الاجتماعية الكادحة الأكثر جذرية والملتزمة بـ الاشتراكية العلمية، واتباع أسلوب الكفاح الشعبي المسلح والعنف الثوري المنظم وتحقيق وحدة القوى الثورية العربية قطرياً وقومياً». لكن هذا الرأي الواضح تجاه الصراع الطبقي، وتبني النظرية العلمية ـ الماركسية ـ ومقولة فشل الدولة البرجوازية الصغيرة- يقصد بها المرحلة الناصرية، وأن حركة القوميين العرب، لم تكن قومية فكراً ثابتاً عند أصحابها، لكنها أخفت رؤيتها الماركسية/ اللينينية، لكون الفكر القومي العربي بارزاّ، وبالأخص الفكر الناصري كان هو الطاغي جماهيرياً، في أواخر الخمسينات وبداية الستينات، لكن نكسة 1967، أعطت المجال ـ بحسب الوثيقة (التغيير التجذيري)ـ وهو أن المشروع الناصري فشل وسقط بعد هزيمة يونيو 1967، والفرصة سانحة، لتبني الرؤية الماركسية، وقد حان وقتها الظهور، حتى أن الأكاديمي الماركسي د.عبد الله العروي، قال معلقاً في كتابه (خواطر الصباح) على خطاب الرئيس عبد الناصر في 9 يونيو:«سياسة عبد الناصر، في آخر تحليل، سياسة برجوازي صغير(!) حانق ومتحيز رغم البلاغة المصطنعة». وفي فقرة تالية من خواطره يقول العروي عن خطاب عبد الناصر حين استقال من رئاسة الجمهورية في مصر في ذلك اليوم: «خطاب.. مؤثر وصريح. يدعو إلى الرثاء. لاعب خانه الحظ، لم تتوفر لديه الورقة الرابحة.. أول انطباع: كلام برجوازي صغير في مبناه ومعناه».!

وهذه النقلة الكبيرة لم تأت من مثقفين ومفكرين علمانيين من أمثال عبد الله العروي، من خارج قيادات هذه الحركة، بل إن بعض القيادات نفسها، كانت تتحدث عن إنهاء المرحلتين، ويقصدون في ذلك، إلغاء الاتحاد أو الالتحام بالناصرية، أو المرحلة كما يقولها البعض معالجة القضايا الاجتماعية، ومنها الصراع الطبقي وتطبيق النظرية الماركسية، وهذا قيل بعد انفصال الوحدة المصرية/ السورية 1962، بصورة شبه واضحة، وهو ما عبر عنه محسن إبراهيم القيادي في حركة القوميين، والأقرب للفكر الماركسي التجذيري، ورئيس تحرير مجلة «الحرية» الناطقة باسم الحركة في كتابه «في الديمقراطية والثورة والتنظيم الشعبي» 1962 أهمية اعتراف الحركة بالصراع الطبقي الذي يراه سبباً في الانفصال في سوريا، فيرى أنه كان من الواجب تمكين الاشتراكيين في الدفاع عن المصالح المكتسبة ضد البرجوازيين: «فلا اشتراكية بغير اشتراكيين يحوّلون الجماهير بالوعي والتنظيم من قوى مبعثرة إلى قوى فاعلة» ـ في ـ «أحزاب تعمل ضمن الخط الاشتراكي». إذن الفكر الماركسي في قيادة الحركة لم يكن غائباً منذ النشأة، إنما الفارق، هو من، يريد القفز على الواقع، وتطبيق النظرية الماركسية والصراع الطبقي، وهذا الفريق يمثله محسن إبراهيم، ومحمد كشلي، ونايف حواتمة، ومن يفضل التأني وعدم حرق المراحل، وهذه يمثله الفريق المؤسس جورج حبش، ووديع حداد، وأحمد الخطيب، ولذلك لم تقف الحركة في ثبات فكري، بل حصل تحّول بعد نكسة 67، وأصبح الأمر من الالتحام بالناصرية، إلى زعامة برجوازية صغيرة ويقصد بها عبدالناصر، وهذا ما جاء في التقرير لحركة القوميين العرب الصادر في يوليو 1967، إذ يرى د. سعد مهدي شلاش أن الرؤية الجديد للحركة ترى أن: «مرحلة التحول الاشتراكي والتخندق مع عبد الناصر لم تكن إلا خطوة انتقالية نحو الماركسية وتبني مقولة الصراع الطبقي، وأن معركة فلسطين لن يكتب لها النجاح إلا إذا انتصر العرب في معركتهم الاجتماعية والسياسية ضد الأنظمة الرجعية والطبقات المتحالفة معها».

إذن ما قاله البرلماني والسياسي المخضرم د.أحمد الخطيب، لم يكن صحيحاً، إن لم يكن خانته الذاكرة، فالفكر الماركسي كما نعلم، لم يفرضه نايف حواتمة على الحركة بعد عودته من العراق والالتقاء بقيادات الحزب الشيوعي العراقي، بحسب ما قاله د. الخطيب، وتسبب في ذلك الانقلاب الفكري للحركة، بل إن الفكر متأصل لديها، وهذا ما برز في التقارير والمؤلفات والدراسات التي أوضحت رؤية الحركة المرحلية، وهو ما قاله المناضل جورج نفسه في مذكراته: «إن من الخطأ إثارة موضوع الصراع الطبقي في هذه المرحلة»، وهذه خطوة مرحلية كما يراها المؤسس الأول للحركة واعتبرت نكسة 67، فرصتها المناسبة، وهو ما كتبه أيضاً السياسي البحريني، في مذكراته التي نشرها في جريدة الوسط البحرينية، والقيادي في الحركة والتي انشقت عن رئاسة الإقليم في الكويت مع آخرين م. عبد الرحمن النعيمي فيقول: «وعندما قررت حركة القوميين العرب التحول إلى حركة ماركسية لينينية، وتحويل اسمها إلى (الحركة الثورية الشعبية)، لم يكن ذلك يعني الكثير بالنسبة إلى هؤلاء التجار، ويبدو أن المشروع الذي كان لديهم أكبر بكثير من المشروع الذي كانت تملكه الحركة الثورية الشعبية أو حزب العمل العربي، وبالتالي كنا جزءا من المشروع التغييري بالنسبة إليهم، في الوقت الذي كنا نرى أنهم جزء من القوى التي يمكن الاستفادة منها مرحليّا، على غرار التجارب الثورية التي قادتها الأحزاب الشيوعية في عدد من بلدان العالم، وخاصة الصين وفيتنام، قبل أن نتعرف على التجربة الملموسة العربية ممثلة في اليمن الجنوبي».

صحيح أن قيادة الإقليم في الكويت والتي يرأسها د.أحمد الخطيب، وهو سياسي واقعي في تلك الظروف، ولا يريد الاتفاق مع بعض الأعضاء في الحركة الثورية الشعبية التي خرجت على قيادة الإقليم، فلم يكن يتفق على مسألة استخدام العنف الثوري وإدخال الكويت ضمن دول المنطقة، الذي أصر عليه بعض الأعضاء، وأتخذ وسيلة الإصلاح السلمي، من خلال البرلمان والكتابة النقد، وهذا ما جعله يسمى حركته التي انبثقت من حركة القوميين العرب باسم «حركة التقدميين الديمقراطيين»..أما كيف تأسست حركة القوميين؟ وكيف بدأ عملها السياسي والعسكري وتحولاته؟ فلها حديث آخر.