أفكار وآراء

الصحاري الإخبارية وصحافة الأشباح

أ.د. حسني محمد نصر

(التفكير خارج صندوق الموارد التقليدية للصحف قد يكون هو الحل في هذا التوقيت الصعب الذي تعيشه الصحافة)

هل سمعت عن الصحاري الإخبارية؟ وهل تعرف ما هي صحافة الأشباح أو الصحافة الوهمية؟ إنهما التعبيران اللذان دخلا مؤخرا قاموس المصطلحات الصحفية للتعبير عما تمر به صناعة الصحافة من مشكلات قد تعجل باختفاء تام قريب للصحافة الورقية.

'الصحاري الإخبارية' تعبير نحته صحفيون وأساتذة صحافة أمريكيون للإشارة إلى المدن والمناطق التي خلت من صحف محلية أو أسبوعية ورقية فتحولت إلى ما يشبه الصحراء الإخبارية، نتيجة اختفاء الصحف التي لم تستطع التعافي حتى اليوم من تبعات الثورة الرقمية، وجاءت أزمة جائحة كورونا لتزيد أوضاعها سوءا.

أما تعبير 'صحافة الأشباح' فيشير إلى الصحف التي ما زالت تواصل الصدور، ولكن بعد أن قلصت طاقتها البشرية وخفضت نفقاتها، فأصبحت تحمل الأسماء القديمة، ولكنها لا تؤدي نفس الوظائف التي كانت تقوم بها من قبل وغدت كأشباح من الصحف الأصلية.

خلال الفترة من عام 2005 وحتى بداية جائحة كوفيد-19 أغلقت نحو 2100 صحيفة في الولايات المتحدة الأمريكية أبوابها، وانضمت إليها 80 صحيفة أخرى خلال جائحة كورونا، بعد أن فشلت كل الحلول في وقف خسائرها.

أما الصحف الصامدة في السوق فما زالت تواجه أزمات مالية دفعت بعضها إلى تسريح أعداد كبيرة من الصحفيين والمحررين، إذ فقدت صناعة الصحافة- وفقا لتقرير مركز بيو للبحوث- نحو 57 بالمائة من ثروتها البشرية بين عامي 2008 و2020. وهو ما حول الصحف الباقية- كما يقول المركز- إلى صحف أشباح تحمل نفس الأسماء القديمة الفاخرة ولكنها لا تقوم بنفس العمل الذي كان تقوم به في خدمة مجتمعاتها وتغطية الأحداث والقضايا التي تحقق الصالح العام. ويرتبط بذلك انخفاض كبير في توزيع الصحف اليومية في عام 2020 بنسبة 19 بالمائة، وانخفاض مماثل تقريبا في توزيع الصحف الأسبوعية (صحف الأحد) بنسبة 14 بالمائة. ويصل توزيع الصحف اليومية المطبوعة والرقمية إلى 24 مليون نسخة يوميا، بعد أن كان أكثر من 60 مليونا في منتصف ثمانينات القرن الماضي، بينما يبلغ توزيع الصحف الأسبوعية نحو 26 مليون نسخة بعد أن كان نحو 63 مليون نسخة في مطلع التسعينيات.

ورغم أن توقف الصحف الورقية بشكل عام أمر يدعو إلى الحزن، والقلق، فإن أكثر ما يحزن ويقلق في الأمر بالنسبة للأمريكيين، ونحن معهم من توالي إغلاق الصحف اليومية الورقية وتوقفها عن الصدور، هو أن المتضرر الأول في أزمة صناعة الصحافة كانت الصحف المحلية التي تشمل صحف المدن والأقاليم والولايات، وبالتالي غياب الأصوات الناقدة على المستوى المحلي بالنظر إلى الدور التاريخي الكبير الذي لعبته تلك الصحف في حراسة ودعم الديمقراطية والرقابة على المؤسسات. وبسبب ذلك أصبحت أقاليم عديدة تحيا بدون تغطية إخبارية محلية. ووفقا لأرقام نشرتها مجلة واشنطن بوست فإن 'نصف المقاطعات الأمريكية البالغ عددها 3000 لديها صحيفة مطبوعة واحدة فقط، وثلث هذه المقاطعات لديها صحيفة يومية فقط، بينما هناك أكثر من 200 مقاطعة ليس لديها أي صحيفة من أي نوع على الإطلاق. لذلك لم يشعر الأمريكيون بالحزن الشديد عندما توقفت صحيفة كريستيان ساينس مونيتور أو مجلة نيوزويك عن الصدور الورقي، كما يشعرون عندما تتوقف صحفهم المحلية. وهنا يروى دان كنيدي أستاذ الصحافة بجامعة نورث ايسترن قصة صحيفة 'فنديكيتور' الإقليمية اليومية التي كانت تصدر في مدينة يونجستون بولاية أوهايو والتي أعلنت توقفها عن الصدور في عام 2019 بعد أن تجاوز عمرها 150 سنة، باعتبارها قصة قاتمة ومكررة لما تشهده صناعة الصحافة في الولايات المتحدة. ويقول إن سكان المدينة تجمعوا بالآلاف بعد إعلان الخبر، وذرفوا الدموع على الصحيفة التي قرأها أجدادهم وآباؤهم، وأصبحت مدينتهم بعدها أكبر مدينة في الولايات المتحدة بدون صحيفة يومية.

قد يقول قائل حسنا، فلتتوقف الصحف الورقية المحلية وتتحول إلى النشر الإلكتروني الرقمي على الإنترنت وتطبيقات الهواتف الذكية. والواقع أن هذا الحل لم يكن ناجحا، فالمواقع الإخبارية الرقمية ذات الطابع المحلي تحتاج إلى تعيين صحفيين ومحررين وكتاب ومتخصصين في وسائل التواصل الاجتماعي وتقنيين وموظفي اشتراكات ومبيعات، وتحتاج إلى توفير رواتب لكل هؤلاء ونفقات تشغيل، ولا تكفي الاشتراكات الرقمية المخفضة أو الإعلانات المحدودة في تغطية هذه النفقات، وهو ما يجعل هذه المواقع تواجه نفس مصير الصحف الورقية تقريبا خاصة في ظل استمرار أزمة كورونا. وقد أغلقت بالفعل مواقع إخبارية كثيرة خلال الأزمة. صحيح أن الاشتراكات في النسخ الرقمية من الصحف زادت بنسبة 27 بالمائة للصحف اليومية، و26 بالمائة للصحف الأسبوعية، ولكن هذه الزيادة تقتصر على الصحف الكبرى خاصة نيويورك تايمز، وول ستريت جورنال، والواشنطن بوست.

ما الحل إذن لوقف ظاهرة تمدد الصحاري الإخبارية التي لا تواجه الصحافة المطبوعة في الولايات المتحدة الأمريكية وحدها بل في العالم كله؟ دعونا نعترف أن الصحف الورقية التي تصدر في العالم العربي لم تعد تعتمد اعتمادا كبيرا على عائدات التوزيع التي انخفضت بشكل كبير في غالبية الدول، وأن مصادر الدخل الحالية أصبحت تنحصر في الدعم الحكومي وعائدات الإعلان. والمعروف أن الدعم الحكومي تستأثر به الصحف التي تصدرها الحكومات في المقام الأول، وهو دعم يتوقف على الحالة الاقتصادية للدولة. ولا يخفى على أحد أن تبعات أزمة كورونا ألقت بظلالها على موارد الدول العربية حتى النفطية منها، وهو ما يهدد بتقليص الدعم الحكومي الموجه للصحف ولصناعة الصحافة بوجه عام. يضاف إلى ذلك أن هذا الدعم في حال وجوده لا تستفيد منه كل الصحف، خاصة الصحافة المحلية التي يكاد ينعدم وجودها في غالبية الدول العربية. أما عائدات الإعلان فقد تأثرت هي الأخرى سواء بالتحول الرقمي أو بالتباطؤ الاقتصادي الذي تعاني منه الدول العربية، بالإضافة إلى منافسة وسائل الإعلام الجديدة للصحافة على هذه العائدات، وهو ما أدى إلى انخفاض حاد في حصص الصحافة من الإعلان في كل العالم تقريبا.

التفكير خارج صندوق الموارد التقليدية للصحف كالدعم الحكومي والإعلان قد يكون هو الحل في هذا التوقيت الصعب الذي تعيشه الصحافة. وقد تولد عن هذا التفكير إنشاء منظمات مجتمع مدني مثل 'مشروع الصحافة الأمريكية' الذي يجمع الأموال والتبرعات لتمويل الصحف وغرف الأخبار غير الربحية وغير الحزبية، وإطلاق مبادرات مثل 'مبادرة أوهايو للأخبار المحلية' التي تهدف إلى تعزيز التقارير الإقليمية في الولاية، من خلال غرفة أخبار مشتركة. والأهم من ذلك إقرار قوانين لدعم الصحافة المحلية، مثل قانون استدامة الصحافة المحلية الذي من المتوقع أن يناقشه الكونجرس الأمريكي قريبا، ويهدف إلى منح الصحف المحلية والصحف الرقمية ومؤسسات الأخبار المحلية الأخرى فرصة للتعافي المالي، وذلك من خلال تقديم حزم إعفاءات ضريبية لها. وتتوقف قيمة الإعفاءات على عدد الصحفيين العاملين بالصحيفة أو المؤسسة الإخبارية.

ما أحوجنا نحن أيضا إلى مثل هذه الحلول المبتكرة، حتى لا تُضاف صحاري إخبارية أخرى إلى ما لدينا بالفعل من صحاري إخبارية شاسعة نعاني منها منذ زمن طويل.

وقبل كل ذلك وبعده يجب أن يتفهم الجمهور والمؤسسات العامة والخاصة أهمية الصحافة بالنسبة لحياة المجتمعات والدول، إذ بدونها يعم الظلام وتختفي الحقيقة، وأن يدرك أيضا أن تقديم التبرعات والدعم المالي للصحافة المحلية لا يقل أهمية عن التبرع لبناء دور العبادة والمستشفيات، لتأمين مستقبل المجتمع واستمراره خاليا إلى حد كبير من الفساد الذي لا يزدهر إلا في غياب الصحافة.