أعمدة

"شاعر الرقة العاطفية"

 
قبل سنوات وبينما كنا نهبُ للخروج من معرض مسقط الدولي للكتاب في يومه الأخير، وقعت عينا نوف السعيدي صديقتي الكاتبة والمترجمة على الأعمال الكاملة للشاعر المصري إبراهيم ناجي، ولم تكن في تلك الدورة قد اشترت أي كتب، أومئتُ برأسي منقادة لرغبة نوف في اقتناء الأعمال الكاملة التي ما إن عرفتْ سعرها حتى أحجمت عن رغبتها في الشراء. ألححتُ عليها بأن تأخذه وبأننا يمكن أن نتحمل ثمنه في ذلك الوقت، مع أنني لا أعرف من هو إبراهيم ناجي هذا الذي كسر قاعدة نوف في عدم ابتياع أي كتاب والاكتفاء بالاستعارة من مكتبتي الشخصية آنذاك. دعوني أقول إن هذا المشهد هو القطعة الأولى من فسيفساء طويلة ستشكل مع مرور الوقت طبيعة علاقتي بشاعر الأطلال، ومن خلالها أخوض رحلتي الشخصية الحميمة مع إبراهيم ناجي بالتوازي مع رحلة حفيدته سامية محرز في كتابها الصادر حديثاً عن دار الشروق: 'إبراهيم ناجي: زيارة حميمة تأخرت كثيراً'.

لم أكن من محبي أم كلثوم، بل إنني كثيراً ما شعرتُ بالنفور من صوتها القوي، وملتُ للأصوات الأكثر حدة ورخامة، لكنني مع مرور الوقت بدأتُ أخجل من قول ذلك علناً، لذا كلما سألني أحد عن علاقتي بأغانيها، قاطعته بغناء مقطع مفضل بالنسبة لي وهو 'أعطني حريتي، أطلق يديّ/ إنني أعطيتُ ما استبقيتُ شيء/ آه من قيدك أدمى معصمي....' ولم أكن أعرف حتى ذلك الحين أنه مقطع من الأطلال، وقد كتبه إبراهيم ناجي. اذ بدا متفقاً مع طبيعتي التي تميل للتمرد، وكسر القوالب، وقد شعرتُ بأنه شعرٌ حماسي، في نشدان الحرية، وهكذا كنتُ في نظر نفسي النجيبة التي لم يفتها التورط بمحبة كوكب الشرق. حتى أنني في سنتي الجامعية الثانية خصصتُ كراسة للاستماع لأغاني أم كلثوم وكتابة ملاحظات ألمعية عنها، وكان ذلك أمراً شاقاً.

لكن علاقتي بأم كلثوم تجددت مع مرور الوقت، لا شك أن نوف التي عندما تعرفتُ عليها لم تكن تستمع لغيرها قد ساهمت في ذلك. لكن عالم أم كلثوم بدا لي مثل الكتب التي لا تنفتح لك بمجرد رغبتك فيها، بل هنالك نوع من الظروف والسياقات التي تجعلك مستعداً للقاء بها والاستغراق المطول فيها، وهكذا بدأتُ أسمع كل أغانيها مستعذبة غير الفصيح منها، مثل بعيد عنك، وحيرت قلبي معاك.

أشبه إلى حد كبير علاقة سامية محرز بجدها الشاعر إبراهيم ناجي الذي اضطرت لحفظ قصيدته 'العودة' في المدرسة لتستهجن شعره، وتبتعد عنه، حتى لحظة بكائها في الليلة التي غنت فيها أم كلثوم الأطلال لأول مرة، اذا بدت لها الأغنية كئيبة وغير مفهومة، لكن محرز، تعيدني مجدداً للنظر في سيرتي الشخصية، عندما تستعيد مقطعي المفضل الذي كتبتُ عنه فوق، فتكتب عن الدور السياسي الذي لعبته هذه الأبيات تحديداً، إذا يحكى أن مصطفى أمين، وكان قد سُجن في أيام جمال عبدالناصر وتربطه علاقة صداقة متينة بأم كلثوم، ولم تستطع التوسط لإخراجه، قد بعثت له رسولاً في السجن ليبلغه بسماع الأطلال في ليلة بثها الأولى وأن له فيها أبياتاً عنته بها، وقد غمر ذلك فؤاده وعزاه في موقفه ذاك. هذا المقطع اذن من قصيدة الأطلال، التي وبالمناسبة لم يغنى منها سوى بضعة أبيات، جُمعت مع أبيات أخرى من قصيدة أخرى لناجي بعنوان 'الوداع' كان قد وفق بينها الشاعر أحمد رامي الذي اعتبرَ ناجي تؤام روحه وأهداه هذا العمل بعد رحيله بـ ١٣ عاماً. فقصيدة الأطلال الأصلية مكونة من ١٣٠ بيتاً، ومقطع قيد المعصم من الوداع.

في الفصل الخاص بقصيدة الأطلال والمعنون بـ'إبراهيم ناجي سوبر ستار' تكشف محرز عن التحولات الكثيرة التي شهدتها هذه القصيدة، وعن منطق نظم إبراهيم ناجي لشعره، لكنها في الوقت نفسه، تعتبرها قيداً لناجي الذي عُرفَ حصراً بكونه شاعر الأطلال.

وعودة للدور السياسي لشعر ناجي ذاك فيهمني وعلى صعيد شخصي أيضاً اجترار تلك الحادثة المهمة في تاريخ هذا الشاعر وهو النقد الذي وجهه كل من عباس محمود العقاد وطه حسين لناجي بعد إصدار ديوانه الشعري الأول، إذ اعتبروه 'شاعر الرقة العاطفية' حتى انطوى على نفسه وقرر ترك الشعر والالتفات للترجمة والكتابة الأدبية في أجناسها الأخرى، أفكرُ أنا في التهمة التي وجد ناجي نفسه غارقاً فيها 'عاطفي' وأسترجع سجالات كثيرة ليس أولها الصراع بين الموضوعية والذاتية في الكتابة، ولا آخرها الاستسلام لكتابة هستيرية كما في حالة سيلفيا بلاث، التي ستنقدُ لذلك دون أي شيء آخر، هذا عندما يتم كشف الغطاء عن تجربتها دون ستار من موتها منتحرة. هل كانوا يقصدون بأنه 'صبياني' لا يبدو لي ذلك على الإطلاق، وحتى أن ردة فعل سامية على شعره بينما كانت طالبة في المدرسة في الستينيات أي بعد عقد ونصف تقريباً من رحيل ناجي، وصعوبة فهم القصيدة، يجعلني أفكر في أنها لم تلبس طابعا شعبويا يجعلها صبيانية على نحو يجعلها رائجا ومستساغا. أتوقف عن الكتابة هنا وأستمع للأطلال.

تعرض سامية محرز في الكتاب المآزق التي وجد إبراهيم ناجي نفسه فيها ليس أولها اقصاؤه في عمله وانزال مرتبته فيه مستعيرة بذلك تحليلات بورديو حول العنف الرمزي لشرح الحال التي وصل اليها جدها، وكان من ضمن ما أُخذ عليه أنه طبيب وشاعر! لكن سامية لا تستعرض السياق السياسي الذي حدثت فيه هذه التغييرات الكثيرة، ومنها علاقة ناجي بالمقربين من سلطة الملك فاروق آنذاك، والذين لاقوا ما لاقوه بعد الثورة، علماً أنها تكتب أن إبراهيم ناجي لم يكن له أي انتماء سياسي آنذاك، ومع ذلك هنالك من أحسن إليه من حاشية الملك فاروق، وقد وجدتُ غياب هذا عن الكتاب محيرا وشكل لي فجوة كنتُ بحاجة لقطعها على الفور وأن أكون سجلاً تاريخياً عن مرحلة في مصر من خلال سير ذاتية لشاعر أقصي وأهمل ولم يجني لا المال ولا الاحتفاء بتجربته.

ولأنني ذكرتُ كيف تشكل سردية هذا الكتاب، تاريخا عاما لمصر، فإن سامية محرز تعي ذلك، فتتفسر من خلال التفاصيل الصغيرة، صورة ما بدا عليه المجال العام في مصر آنذاك، لكنها تكرر ذلك كثيراً، وكأنها تبرر ضرورة استعادة تفاصيل كثيرة قد لا تبدو مهمة، مما بدا لي اعتذاريا بعض الشيء وناجم عن خوف من قارئ غير صبور وغير معتاد على هذا النوع من الكتابة السيرية. ولا يمكن أن ألومها على ذلك طبعا.

مع ذلك يثبت لنا أهمية الكتابة السيرية في أنها تستطيع أن تقدم لنا الهامش الذي لا يقال في التاريخ الرسمي، كما أنها يمكنُ أن تصبح كما يقول لنا التاريخ مصادر لمطابقة الحقائق التاريخية، ففي متنها يتسلل وقع الحياة اليومية بكل ما يشكلها، وفيها يمكن تخيل سردية كامل عما يحدث في ذلك الزمان، إنها اذن كتابة تضرب لنا عصفورين بحجر واحد فهي عن تاريخ مضى، عبر سرد قصة ماضية، وهي عن موقع المتلقي اليوم، وكيف يتفاعل مع هذه القصة عبر كاتب هذه السيرة. عدا عن متعتها بالطبع. صدرت هذه السيرة الشهر الماضي، عن دار الشروق المصرية. ونجد أن هذا النوع من الكتابة أخذ بالتوسع في مصر مؤخراً، من خلال أعمال مثل 'في أثر عنايات الزيات' للكاتبة ايمان مرسال، وجبل الرمل، لرندا شعث، أولاد حارتنا سيرة الرواية المحرمة لمحمد شعير. وجميعها كتب قيمة للغاية وقد استفدتُ من قراءتها، وكتبتُ عنها هنا في وقت سابق.