أفكار وآراء

الشفافية وامتياز أسرار الدولة

أ.د. حسني محمد نصر

كانت السرية، على مر التاريخ، إحدى الدعائم الأساسية للسياسة وأدواتها، إذ أعلت الأنظمة باختلاف أنواعها من شأن السرية، وسعت من أجل إضفاء طابع مؤسسي عليها، باعتبارها 'سلطةً غامضةً يختصمن خلالها الحاكم وحده دون سواه بإصدار القرارات السياسية، وما يعلن وما لا يعلن منها، دون أي التزام بتبرير ذلك أمام رعاياه.

وقد كان عصر التنوير في أوروبا نقطة تحول في فهم دور السرية والشفافية في المجال السياسي. فالسرية صارت محط تساؤل وانتقاد، وأخذت صلاحيات الملك التي تخول له التفتيش في حياة الأفراد وممتلكاتهم تتقلص باستمرار.

ومع التوسع في ترسيخ مفهوم 'حقوق الإنسان والمواطن'، التي رفعت الثورة الفرنسية رايته، أخذت الشرعية التقليدية لسرية أمور الحكم تتلاشى، وحلت محلها شرعية الشفافية العقلانية.

ورغم كل الجهود التي بذلتها البشرية خاصة في القرن العشرين على المستويات الأممية والإقليمية والوطنية لتعزيز مبادئ الشفافية والانفتاح وعدم حجب المعلومات عن الشعوب، لا تزال المشاكل تحيط بقضايا أسرار الدولة، في كل دول العالم تقريبًا بما فيها بعض الديمقراطيات العريقة، التي فشلت في تحقيق التوازن بين حرية الحصول على المعلومات وبين السرية وأسرار الدولة، فما بالنا بغيرها من الدول التي تفتقر للبني الديمقراطية والتي تتحول فيها 'أسرار الدولة' إلى 'أسرار الحاكم' الدائرة المقربة منه.

إنَّ أول خطوة في تقديري لتحقيق شفافية الحكم التي يمكن أن تشكل منطلقًا للتنمية السياسية، تتمثل في ضرورة الموازنة الدقيقة بين حرية تدفق المعلومات في دولنا العربية وبين الحفاظ على المصلحة العامة. فالمؤكد أن الجميع يريد حماية أسرار الدولة وهي حماية مشروعة بقدر مشروعية مسوغاتها، ولكن الشفافية وحرية تداول المعلومات لا تحتاج إلى أية مسوغات لحمايتها.

واقع الأمر أن هذه الموازنة أبعد ما تكون عن الواقع في العديد من الدول، حيث يسير الحق في المعرفة وحماية أسرار الدولة في اتجاهين متعارضين. ولا يزال الاعتقاد سائدًا لدى الكثيرين أن الأمن الوطني والدفاع الوطني يجب أن يظل خارج نطاق عمل القانون والتدقيق الديمقراطي.

ومع ذلك، يتزايد عدد المقتنعين بأن أفضل طريقة لحماية الأمن الوطني والدفاع هي إخضاعهما لرقابة عامة الجمهور والمراجعة القضائية.

وقد أعيد إحياء الممارسات القديمة للسلطة الغامضة من خلال مأسسة أسرار الدولة في جميع الدول تقريبا. وتطورت هذه التركيبة إلى ما يسمى' امتياز أسرار الدولة' في إنجلترا، والتي يتمتع بموجبها الملك بامتياز خاص عرف بـ'امتياز التاج'، أي الحق المطلق في رفض الإفصاح عن المعلومات أمام البرلمان أو المحاكم.

وفي الولايات المتحدة، أيدت المحكمة العليا مزاعم الحكومة بشأن امتياز أسرار الدولة أو 'امتياز الرئيس' أو ما يسمى 'الامتياز التنفيذي'، بشكل شبه كامل في قضية نظرتها المحكمة خلال فترة الحرب الباردة. ولاستخدام امتياز أسرار الدولة، تقدم الحكومة إفادة خطية تنص على أن أي إجراءات قضائية قد تنطوي على خطر الكشف عن أسرار قد يترتب على كشفها تهديد الأمن الوطني، ثم تطلب من المحكمة رفض الدعوى استنادًا إلى تلك الأسباب حصرًا.

ويمكن القول: إن الثقافة السياسية الديمقراطية السائدة اليوم تُعلي الانفتاح والشفافية باعتبارهما من الفضائل الحميدة، بينما تُصنّف السرية والتكتم في عداد الآثام. وفي هذا السياق، فإن امتياز الدولة الذي يمنحها الحق التقديري في تصنيف المعلومات على أنها سرية صار محط انتقادات ومراجعات كثيرة، ربما لأنه امتياز شابه سوء الاستغلال على أوسع نطاق.

واليوم، يرى الكثيرون أن المصلحة العامة، وبالتالي المصلحة الوطنية، تصان على أفضل وجه من خلال الشفافية، وليس السرية، التي باتت في نظرهم تستغل لخدمة المصالح والأجندات الشخصية لأصحاب السلطة السياسية والبيروقراطية، ولا تخدم المصلحة العامة للأمّة.

وتتمثل إحدى أهم مشاكل التعامل مع أسرار الدولة في أنها تهدف إلى 'حماية الأمن الوطني' أو 'الدفاع عن البلاد'، وغير ذلك من المفاهيم غير المحددة بدقة. بل إن التشريعات الوطنية كثيرًا ما تخلط بين مصطلحات مثل الأمن الوطني، وأمن الدولة، والأمن العام، والسلامة العامة، والدفاع الوطني، والمصلحة الوطنية، وأسرار الدولة، وأمن المملكة أو الجمهورية، وغيرها من الأمور الشبيهة.

وتستخدم الحكومات القوانين المنظمة لحق الحصول على المعلومات، أو القوانين المعنية بحماية أسرار الدولة الرسمية، من أجل إقامة تعارض بين هذه المفاهيم الضبابية، المفتقرة إلى تعريف قانوني دقيق وواضح، وبين مساعي الإعلاميين والمواطنين للحصول على المعلومات. وبهذه الطريقة، تتحول هذه القوانين إلى عراقيل أمام الوصول الحر إلى المعلومات، وتصبح قيدًا لا يلبي أي معيار مستقر لليقين القانوني. ومن هنا ينبع ذلك المنزلق السهل الذي تتحول عبره تلك المفاهيم المبهمة إلى خطر تعسف السلطات التنفيذية أو أجهزة المخابرات في إخفاء المعلومات عن أعين الجمهور.

وقد كشف مسح علمي شمل عشرين بلدًا في العالم أن الغالبية العظمى من هذه البلدان ينحو فيها القانون إلى السرية والتكتم في حالة تعذر الجزم بأن كشف المعلومات لن يضر بالأمن الوطني. والبلدان الوحيدة التي تفضل الإفصاح في هذه الحالة، هي بلجيكا (إلى أن يتم تصنيف المعلومات في فئة السرية) والنرويج والسويد. ومع ذلك، فإن المعلومات التي تنتجها بعض الجهات السيادية في النرويج يتم تصنيفها تلقائيًا كمعلومات سرية، كما أن الإفصاح عن المعلومات من جانب تلك السلطات يعد مسألةً تقديريةً.

وتتبع التشريعات المعنية بالأسرار الرسمية في الدول الأوروبية نهجين مختلفين عندما يتعلق الأمر بكشف معلومات سرية متعلقة بالأمن الوطني أو الدفاع الوطني. النهج الأول وهو المطبق في ألمانيا وفنلندا وفرنسا والبرتغال وإيطاليا وليتوانيا وبولندا وهولندا وسلوفينيا، يفرض استيفاء عدة متطلبات قبل الإفصاح عن المعلومات، ومنها إخضاع الإفصاح لاختبارات ضرر متنوعة لإثبات أنه لن يمس الأمن الوطني. وتعتمد السويد نهجًا شبيهًا يقتضي تقييم الأضرار التي قد تلحق بالأمن الوطني وموازنتها بالمنافع التي يعود بها الإفصاح على المصلحة العامة.

وتطبق النهج الثاني بلغاريا وجمهورية التشيك وإيرلندا وكرواتيا ورومانيا وتركيا وبريطانيا، ويقضي بأنه عندما تتعلق المعلومات بالأمن الوطني فمن غير الجائز الاعتماد على أي اختبار للأضرار المحتملة، ولا أي تقييم للفوائد التي قد تعود على المصلحة العامة من الإفصاح عن المعلومات. وتعتمد بريطانيا أداة اسمها 'استثناء فئوي مشروط' للتعامل مع بعض الحالات، حيث يُطبق اختبار الإضرار بالمصلحة العامة وتتحمل السلطات صاحبة المعلومات المعنية عبء إثبات هذا الضرر.

وتسمح جميع دول الاتحاد الأوروبي، باستثناء فرنسا، بالمراجعة القضائية لقرارات حظر الحصول على المعلومات السرية لدواعي الأمن الوطني. وبينما لا يؤذن في فرنسا لأي قاضٍ بالاطلاع على وثائق سرية، فإن حق الاطلاع على المعلومات السرية ممنوح لسلطة إدارية مستقلة اسمها 'اللجنة الاستشارية المعنية بأسرار الدفاع الوطني'، وينحصر دورها في تقديم المشورة بشأن الإفصاح، ولا تملك صلاحية إصدار الأوامر برفع السرية عن أي وثيقة.

وفي الغالبية العظمى من دول منظمة التعاون والتنمية في الميدان الاقتصادي ودول الاتحاد الأوروبي، بخلاف فرنسا، يمكن لقاض أن يأمر بالإفراج عن المعلومات إذا تكونت لديه القناعة بانتفاء مسوغات الحفاظ على سريتها، حتى لو قدمت هيئة من هيئات الإدارة العامة تأكيدات بضرورة حجب المعلومات مراعاة لاعتبارات الأمن الوطني. وتعتمد إسبانيا نظامًا ينزع من القاضي الفردي اختصاص إلغاء تصنيف سرية المعلومات ويحصره في المحكمة العليا دون سواها.