أفكار وآراء

خارج صندوق التقليد والنمطية

الاختلاف وحده لا يمكنه صنع إبداع ، لكن الإبداع نتيجة حتمية للخروج عن النمطية والمألوف، وهذا لا يعني بالضرورة طرح أفكار جديدة مبتكرة، بل قد يكتفي بابتكار أفكار رائعة لتطوير فكرة سابقة مطروحة .

عبر متابعة فاحصة متأملة للفترة الماضية بداية من تصميم شعار العيد الوطني الحادي والخمسين المجيد، مرورا بأعمال العيد الوطني التي ظهرت خلال الأيام الماضية لا يمكن إنكار دهشتنا مع تلمس إبداعات عمانية في مجالات مختلفة .

والمشترك بين هذه الأعمال قدرتها على صنع الدهشة الجمالية ببصمات عمانية لا تخفى . ظهر شعار العيد الوطني مختلفا عن نمطية التقليد، ودائرة الافتراضات والطرح السابق ، فجاء شعارا شبابيا معاصرا مختلفا، والأهم من ذلك كله أنه تصميم عماني مبدع عبر المصممة سارة المخيني، وليس ذلك بالأمر الهين على مبدع يحاول تجاوز إبداعه نفسه إلى خلق إبداع جديد كل مرة ، وليس بالمستحيل على من تمكن من أدواته فاستطاع منافسة نفسه كل مرة ليبدع ويمتع .

تمكين الشباب المبدعين ضرورة لا بد منها، لكن ذلك التمكين يتطلب مساحات من الحرية الإبداعية المحفزة على التخيل والابتكار بعيدا عن التقليد والتقييد والسجن في صناديق من الأعراف التقليدية والفرضيات المستهلكة وتحجيم الإمكانات .

وإن كان تصميم شعار الوطني لهذا العام يحمل ابتكار فكرة جديدة خارج الصندوق، فإن أعمالا فنية انطلقت من فنون شعبية عمانية خرجت عن ذات الصندوق إلى رحابة الإبداع وأفق التجديد .

أغنيات وطنية مطرّزة بأصوات عمانية شابّة، و متضمنة فنونا شعبية نعرفها جميعا، وثقتها هذه الأعمال ببصمة احتفائية معاصرة تناسب ما بلغه شبابنا من خبرات وإبداعات و رؤى .

لا عجب معها أن نجد فن 'الميدان' و فن' اللال' و فن ' بو الزلف ' ، كما وجدنا ' العازي ' و ' الرزحة ' وغيرها من الفنون الشعبية العمانية التي تدل على أنه يمكن لقديمنا أن يكون بحرا سخيا لإبداعات رائعة إن أعدنا اكتشافه واكتشافها بروح متجددة خلّاقة .

ومع كل تلك الدهشة و تلك التجليات لإبداعات متتابعة نعيش حالة من الترقب للقادم الأجمل، إذ يخلق هذا الحراك الشبابي النشط حالة من التنافسية الدائمة لابتكار الجديد، و لاكتشاف الروائع و تجديدها وإعادة صياغتها .

هذه التنافسية ليست للمبدعين من الأفراد وحدهم، بل للمؤسسات الحاضنة والراعية لهذا الإبداع خارج الصندوق، و المهيئة لأسباب الظهور، ومحفزات الإبداع، والميسرة لأسباب الانتشار وآفاق التوزيع، سواء كانت حكومية أو خاصة .

وهنا لا بد من الإشارة إلى أن أهم تحديات الخروج عن النمطية و التقليد إلى رحابة الابتكار والتجديد هي الإمكانات . وهنا تحديدا يختبر الإبداع الحقيقي بممكناته من أبسط المتاح، ومن المغامرة بالقليل لبلوغ الكثير، وفي انطلاق الفكرة من الضيق للسعة، و من الفردية للجماعية، ومن حكايات القرى اليومية والفنون الشعبية والأزياء والحرف التقليدية إلى توثيق ذاكرة مكانية لا تبلى .

لابد من التفكير خارج كل الصناديق المقيّدة للإبداع، والمقولبة للأفكار؛ ولبلوغ ذلك لا بد من جرأة في الطرح بعيدا عن خوف الرفض وعدم التقبل، لا بد من التجريب و المغامرة بعيدا عن أولئك المثبطين للإبداع والمسخفين للجديد من باب ' الناس أعداء ما جهلوا ' .

الصندوق هو الأفكار السلبية التي تمنعك من الإبداع، و تحد من قدرتك على الابتكار والتجديد ، و تزرع فيك التردد و الثبات السلبي غير المنتج، وخروجك منه ضرورة حتمية تسلمك لتلمّسِ نجاحاتك واحدا تلو الآخر، و مساهمتك في خلق بيئة تنافسية محفزة ترقى بها لأفكار أجمل و رؤى أرحب .وهذه التنافسية الإيجابية تفتح الآفاق لشراكات إبداعية خلّاقة و مشاريع متجددة تسهم في رفد الواقع بكثير من الشغف في الانتظار والترقب، ورفد المبدعين بوقود من الاستمرارية والرغبة في التميز والاختلاف ، و رفد المؤسسات بأمان و ضمانات تكاملية بينها ومبدعيها . كيف لا و هي الداعمة والراعية، والمحفزة، والشريكة في الفكرة والتنفيذ ؟!

ضمن كل ذلك أحببت ما ذكره الشاعر حميد البلوشي حينما سئل عن عمله ' شطفة فوادي ' فقال : بأنه حلقة من سلسلة متصلة يعمل عليها ؛ خروجا عن انقطاع الأعمال الفنية عن بعض إلى فكرة اتصال الأعمال عاما بعد عام عبر تشكيلها سلسلة من الأعمال المبنية على فكرة استلهام التراث العماني و تطويره و إعاده تقديمه .

نماذج رائعة من إبداعات عمانية لا تنتهي، ولن تنتهي ما وجدت مناخها المناسب للإبداع و التجديد، و الثقة بإمكاناتها و قدراتها على الإبداع و المشاركة و التكامل. نماذج من أفكار غادرت صندوق الفكرة الرئيسة و الإطار العام و المعايير الجاهزة غير الديناميكية إلى آفاق الغد، و ممكنات المستقبل في مختلف مجالاته و بكل سبله .