أفكار وآراء

القضاء الإداري مساحة للتقاضي.. فسحة للوعي

لا بد لكل مرحلة من مراحل إنشاء الدولة ومؤسساتها المدنية من معطياتها التي تناسب عناصرها، وتخدم متطلباتها المستمرة، ومتغيراتها المتسارعة.

وفي ضوء مواكبة تسارع الحركة التنموية في سلطنة عمان، وزيادة المؤسسات الحكومية والخاصة، وتطور العلاقات بين هذه المؤسسات من جهة وبينها وبين الأفراد من جهة أخرى، كان لا بد من تعزيز وتأكيد على مبادئ هي مبعث على الطمأنينة والاستقرار وزيادة الإنتاجية؛ ومن هذه المبادئ - يقينا - سيادة القانون.

وليس أمر سيادة القانون بالأمر الهين، ولا يستهان بهيبته، ولنا في موقف رئيس وزراء بريطانيا أثناء الحرب العالمية الثانية مثال تاريخي؛ حيث أن لندن كانت تحت القصف حين أقامت ناظرة مدرسة دعوى أمام القضاء البريطاني تطالب بنقل مطار حربي قريب من المدرسة التي تعمل بها، نظرا للضجيج الذي تحدثه الطائرات الحربية عند إقلاعها وهبوطها وهو ما يؤثر على التحصيل الدراسي للطلاب بالإضافة إلى أن المدرسة بحكم موقعها المجاور للمطار الحربي قد تكون هدفاً لقصف طائرات العدو، فقضت المحكمة بنقل المطار الحربي بعيداً عن العمران، حاولت السلطات الحربية حينها تعطيل تنفيذ الحكم باللجوء إلى رئيس الوزراء 'تشرشل' لتجميد قرار الحكم حتى تنتهي الحرب، فجاء رفضه لطلبهم حازماً وقاطعاً بقوله: 'خير لنا أن تخسر بريطانيا الحرب ولا أوقف تنفيذ حكم قضائي'.

وفي سبيل تمكين هذا المبدأ من التفعيل وتمكين أدواته من التطوير والمراجعة المستمرة كان التخصيص ضرورة انتبهت السلطنة لأهميتها منذ عقود، عبر العمل بنظام القضاء المزدوج بفرعيه القضاء العادي والقضاء الإداري.

أما بادرة الفصل والتخصيص ونشأة القضاء الإداري عالميا فقد بدأتها فرنسا في عام 1790م، ثم في مصر بوصفه أهم بلد عربي أخذ بهذا النظام وأسهم في إقامته ونشره في سائر البلاد العربية ومنه العراق، وسوريا، وعُمان كذلك حيث كان الرئيس الأول لمحكمة القضاء الإداري مصريا استنادا إلى تاريخ مصر الطويل في القضاء الإداري تنفيذا و تشريعا وخبرة.

بدأت نشأة القضاء الإداري في السلطنة من قانون النظام الأساسي للدولة الصادر بالمرسوم السلطاني رقم 101/96 حيث أقرت المادة (25) من ذلك النظام أن التقاضي حق مصون ومكفول للناس كافة، ثم أكدت المادة (59) على أن 'سيادة القانون أساس الحكم في الدولة'، وانتهت المادة (67) إلى إنشاء جهة قضائية تختص بالفصل في الخصومات الإدارية إما بواسطة دائرة أو محكمة خاصة يبين القانون نظامها وكيفية ممارستها للقضاء الإداري'، ثم انتهت بإنشاء محكمة القضاء الإداري وإصدار قانونها بالمرسوم السلطاني رقم 91/99، كجهة قضائية مستقلة تختص بالفصل في الخصومات الإدارية التي حددها قانونها، والمتعلقة بشؤون الموظفين العموميين، والقرارات الإدارية، ودعاوى التعويض والعقود الإدارية، وغيرها من المسائل الإدارية.

وما كانت تلك الخطوات إلا انعكاسا لإيمان الحكومة بأن استقلال القضاء الإداري عن القضاء العادي هو أمر يعكس عناية خاصة بتحقيق التنمية في أعلى مستوياتها انطلاقا من تمكين الاختصاص من الممارسة والتفعيل، خصوصا في مجال التقاضي، وتشجيعا لظهور جيل من القضاة والقانونيين العمانيين الساعين لتشريع قوانين إدارية انطلاقا من خبراتهم وتجاربهم الفاحصة المتأنية المتخصصة بكل ما يعنى بالإدارة، عقودا وقرارات وتظلمات ودعاوى.

وإن كنا نتحدث في هذه المقالة العجلى عن القضاء الإداري، فإن هذا المساحة تسعى لتعريف القارئ بهذه المساحة المدنية للتقاضي العادل إداريا، إذ أن كثيرا من الموظفين قد لا يدركون دورها وإن أدركوا نشأتها، ولا أوضح في إثبات نجاحها وأهميتها من تزايد أعداد المتقاضين عاما بعد آخر، فلو أنهم لمسوا لا جدواها لما توافدوا عليها طلبا للتقاضي.

فضلا عن ما منحهم الفصل بين القضاء الإداري والقضاء العادي من سرعة في التقاضي ثم الإنجاز، ولعلّ من نافلة القول كذلك الإشادة بتفعيل منصة الخدمات الإلكترونية ناجز التي تمكن المراجعين من خدماتهم إلكترونيا دون الحاجة للتواجد في أحد أفرع المحكمة الثلاثة في كل من مسقط، صلالة، أو صحار.

لا يمكن إلا أن نسعد بكل خطوة في سبيل إرساء قواعد سيادة القضاء واحترام القانون في بلد له تاريخ ممتد في ذلك.

وقد حرص القضاء الإداري في السلطنة على تحقيق طمأنينة الموظف في تأمينه على وظيفته وعدالة تقدير عمله ليؤدي عمله دون مراعاة لغير أحكام القانون. ثم حمايته وكل فرد من أي ضرر أو تعسف ناتج عن قرارات إدارية غير صحيحة أو مخالفة للقانون، وأخيرا لتوثيق علاقته المتوازنة مع جهة الإدارة التي يعمل بها، هذا التوازن لا يقتصر على إنصافه من جهة الإدارة وحسب إن ثبت حقه، وإنما يشمل إنصاف الإدارة منه إن ثبت لها حق لديه أو تقصير من قبله، وتحصيل حقها منه إن لزم الأمر، كما يشمل رفض الدعاوى إن لم تتضمن من الوثائق ما يثبت صلاحيتها ومشروعيتها، مما يعزز مكانة المؤسسة ويؤكد ضرورة احترامها عبر القانون المنظم للعلاقة بينها وبين موظفيها.

المحكمة الإدارية التي أرسى دعائمها وأسس بنيانها السلطان قابوس بن سعيد 'طيب الله ثراه' ثم أكمل نهجه وسار على خطاه السلطان هيثم بن طارق المعظم، حفظه الله ورعاه، وجودها ونجاحها تأصيل وتأكيد لدولة المؤسسات والقانون، حيث لا أحد فوق القانون، إدارة كانت أو أفرادا، الجميع تحت مظلته متساوون في الحقوق والواجبات.

مساحة قصيرة عبر هذه المقالة أردت لها أن تكون فسحة لوعي المتلقي بممكنات القضاء الإداري وضرورة معرفتها، فخورة بكل ما من شأنه تعزيز ثقة المتلقي - مواطنا كان أو مقيما - بسيادة القانون وإعلاء شأنه في وطن هو نحن.