أفكار وآراء

التويتر.. والفوضى الخلّاقة

«الفوضى الخلّاقة».. مصطلح شاع كثيراً منذ عام 2005م، عندما استعملته كوندوليزا رايس وزيرة الخارجية الأمريكية، في حديث لها مع جريدة «واشنطن بوست» الأميركية، عن محاولة نشر الديمقراطية في الشرق الأوسط بهذه الفوضى؛ وهي.. (نظرية ترى أن وصول المجتمع إلى أقصى درجات الفوضى متمثلة بالعنف والرعب والدم، يخلق إمكانية إعادة بنائه بهوية جديدة)، بحسب موقع «RT» الإلكتروني الروسي، وقد كَتَب العديد من المؤمنين بنظرية المؤامرة خلال 16 عاماً الماضية حول هذه النظرية، التي انتزعوا لها أصولاً من الماسونية، بل مدّوا جذورها إلى «الإنجيل». لقد بذلت جَهدي في قراءة ما كتب عنها، فلم أجد فيه مقنعاً بأن هناك نظرية للفوضى اصطنعتها الولايات المتحدة الأمريكية للوصول إلى غاية محددة تبتغيها، رغم أن أمريكا جاهدة في استعمال العنف، وقد سعت لنشر الديمقراطية بوسائل فشلت فيها. لكن لا يمكن تحميل الفوضى الخلاقة أوزار ما ارتكبته أمريكا. وما كان استعمال رايس لهذا المصطلح -إن كانت استعملته- إلا للتعبير عن الحالة التي وقعت فيها أمريكا، عندما وجدت المنطقة التي تحاول أن تهيمن عليها أصابها مسٌّ من الفوضى.

إن لم أجد أدلة تثبت بأن الفوضى الخلّاقة نظرية مع سبق التنظير والترصد؛ فإنه لا يمكن القطع بنفي أن تتحول إلى (عقيدة سياسية معولمة تتبناها أمريكا لخلق فرص تمكنها من مواصلة الهيمنة العالمية) كما وصّفتها في كتابي «السياسة بالدين»، فهناك.. مصطلحات عقدية تُتبنى اضطراراً لغايات محددة، كما فعل جورج بوش الابن، عندما حاول أن يستميل عواطف الغربيين باستعمال مصطلح «الحروب الصليبية»، لمعرفته أن لهذا المصطلح العقدي القديم تأثيره السحري. إذاً.. الفوضى الخلّاقة ليست نظرية سياسية تسير أمريكا على هداها في تغيير المنطقة، حتى لا نلهث وراء سراب، فهي ذاتها اكتشفت بأنها وقعت في براثنها، وحاولت أن تستغلها كعقيدة سياسية آنية، والواقع.. يقول: إن هذه الفوضى قد أضعفت أمريكا نفسها.

لقد قدمت بهذا لأنفذ إلى أن الفوضى الخلّاقة ظاهرة بشرية تفرضها الحياة كلما ازداد صراع الأفراق عليها، بل المصطلح ذاته استعير من حقل الفيزياء، ولم يُطرق تحت لهيب السياسة المتصاعد. وهنا أستعير مصطلح الفوضى الخلّاقة للعالم الرقمي؛ وبالذات لسماء الطائر الأزرق.

التويتر.. من أهم أدوات تواصل البشر، وعدّ هو والفيسبوك من عوامل اندلاع الربيع العربي 2010م، كما نُسب إلى الكاسيت تأثيره في قيام الثورة الإيرانية عام 1979م، ومن قبله.. للمنشورات المطبوعة إشعالها الثورة البلشفية عام 1917م. أطرق التويتر بكونه أكثر الأدوات الرقمية عصفاً بالذهن، ولا يمكن نكران تأثير الفيسبوك، إلا أنه ينتمي إلى «عالم البناء». في حين.. أن التويتر يجوس بمعوله في «عالم الهدم». و«البناء» و«الهدم».. مصطلحان لا يحملان أحكاماً بالسلب أو الإيجاب، وإنما هما توصيف حالة، فالفيسبوك وإن كان يدفع إلى التحول من الوضع القديم لوضع جديد، بيد أنه يفعل ذلك وهو يقدم فكرة متماسكة نوعاً ما، لتكون لبنة في صرح الفكر. أما التويتر فهو أداة حادة لتفتيت الأفكار، فلا تتمكن من الاصطفاف في هيكل قويم، لأن التغريدة الواحدة لمحدودية كلماتها ليس بمقدورها بناء وحدة فكرية متماسكة، بالإضافة إلى أن معظم الردود عليها تعمل على تمزيقها، فضلاً عن كون التغريدة الأم جاءت لنقد فكرة قائمة في الذهن. وهكذا عندما تنظر لهذا النهر الأزرق الهادر تجده يحطم كل الصخور التي في مجراه الجارف.

عام 2013م.. أول تحليق لي في فضاء التويتر، ظننت حينها بأني سأجد محاولات بناء كما كان في مواقع الحوار، إلا أنني وجدت شهباً ثاقبة تتعقب الأفكار، فلا يكاد تجد شخصاً يتفق معك في تغريدات متوالية لا تتجاوز أصابع اليد الواحدة، وهذا لا ينفي وجود تغريدات بنائية؛ أي.. أفكار تعمل على وضع لبنات في جدار فكرك الذي تحاول بناءه، كما لا ينفي كذلك أن للأدوات التواصلية الأخرى فؤوس هدم لهيكل الأفكار القائم، فطبيعة المعرفة ذاتها تقوم بالنقيضين. بيد أن التويتر يهدم بعنف، فلا يكاد تقبض على فكرة حتى تسيل من بين أصابعك، وقد يتمكن الذهن من الحفاظ على بعض التماسك في أفكاره، إلا أنه لن يصمد كثيراً، وحتى ما يبدو متماسكاً فما ذلك إلا غلالة شفافة، تستر انجراف جوهره.

التويتر.. النموذج الأقوى لفلسفة النظام العالمي الجديد الذي أنطلق منذ حوالي قرن، لمواجهة النظام الشمولي، وهي فلسفة تقوم على الحرية التي تسعى لتحطيم أقانيم: المعتقد والتقليد والاستبداد، هذا الثالوث الذي يتحكم في كل جوانب حياة البشر؛ السياسية والاجتماعية والدينية والاقتصادية، ربما الشيء الذي لجأ إليه النظام العالمي الجديد ليبقيه على قوته هو المصلحة، والتي أعاد بناءها عبر القانون، ولذلك.. فهذا النظام في صراع مرير مع القانون، فهما كهِرَين قابضَين بخناق بعضهما، يقول أحدهما لأخيه: اطلقني لكي أطلقك. ولا أظن أن أحدهما سيطلق الآخر، لأنه بدون هذا القبض ستنحل عرى الحياة، والحياة لا تقبل الانفلات، إنه قانون صارم فيها. وعلى هذا.. فإن التويتر الذي يشكّل بؤرة فوضى عتيدة سيؤدي وفقاً لهذا القانون إلى حالة من التخلّق الجديد، ولذلك.. يصدق عليه بأنه فوضى خلّاقة.

وحتى يتسق الموضوع في الذهن فلأرتبه في الخطوات الآتية:

- التويتر.. أحد أدوات التواصل التي انبثقت من بوتقة العصر الرقمي، وهو عصر جاء نتاج فلسفة النظام الأممي التي تقوم على مبدأ الحرية الفردية والملكية الخاصة.

- وهو أداة فورية لتفتيت الأفكار.. ذاتياً؛ أي أن الإنسان ذاته يتفتت أفكاره بطرحه المستديم لها، وخارجياً؛ بالردود الفورية والكثيفة والمختلفة عليه من قِبَل الآخرين.

- هذا التفتت المستمر يحدث تشظياً في التفكير، وفوضى في الأفكار، ثم تتحول إلى الواقع العملي في الاجتماع البشري، الذي يصبح عرضة للثورة على ما حوله في أية لحظة انفلات اجتماعي.

- الثورة.. بجنون فوضاها ستقوّض المنظومات المعرفية القائمة، ويصحبها تغيّر عميق في عقل الاجتماع البشري، مما يفضي إلى التحول عن هذه المنظومات، وما قام عليها من أنظمة عملية.

- إن لم يحصل التحول؛ فستظل الفوضى قائمة، وهي ما يمكن تسميتها بـ«فوضى ما بعد الثورة»، قد تُدخِل المجتمع إلى تخلّف مدني وحضاري، وتهتزّ أركان الدولة، وقد تؤدي بها إلى التفكك، وربما يتصاعد الأمر إلى الصراع بين المكونات الاجتماعية والتدخلات الخارجية.

إن كانت الفوضى لابد حاصلة من الطَرْق المستديم للتويتر، فأين المتجه؟ ليس من السهولة التنبؤ بالمآلات، والسؤال: هل يمكن رسم «استراتيجية مستقبلية» للاستفادة من هذه الفوضى وجعلها خلّاقة؟ أولاً.. علينا أن نستحضر بأن حياة الاجتماع البشري لها دورة متعاقبة: بناء ثم هدم ثم بناء... وهكذا، وهذا يعني أن البناء حاصل بالضرورة، ولكنه لن يجري وفق أماني الناس، بما فيهم قيادات المجتمع؛ لا أرباب السياسة ولا أهل الدين ولا شيوخ المجتمع. فالفوضى.. عندما تحل ستقتلع كل الأنظمة القديمة بقياداتها وأتباعها. إلا أن هذا لا يمنع الإنسان من أن يستفيد من التحولات القادمة، وأن يخلق من الفوضى العارمة أنظمة جديدة، فقد آتى الله الإنسان قدرة على إعادة بناء اجتماعه بناءً نافعاً، وهذا ما أثبته التاريخ، لأنه لا اجتماع خارج الإنسان؛ وبالتالي.. لا هدم ولا بناء بدونه، فهو مادة الأمرين.

إن الاستحقاق المرجو للخروج من الفوضى القادمة من التويتر -ومن سائر أنظمة التشظي الفكري- والتي بدأنا نلمس بوادرها؛ هو أن يفكر القائمون على المجتمع عملياً بالتحول نحو أنظمة جديدة، قادرة على تسيير حياة الناس وفق معطيات عصر قادم، لن يرحم مَن لا يواكبه، وستدوسه عجلاته، (وَلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ).