أفكار وآراء

التسلسل الهرمي في بعديه الأفقي والعمودي

shialoom@gmail.com -

ثمة تساؤل يمكن طرحه هنا، هل التسلسل الهرمي لأي مكون «اجتماعي، سياسي، إداري، أكاديمي، برلماني» يأتي من خلفية ثقافية، أو لضرورة ملحة، أو ظروف تتهيأ، فيصبح وجوده في حكم الواجب؟ أم أن المسألة ينظر إليها كتحصيل حاصل لواقع وجد ليبقى؟ والأهم من هذا، وفي كل هذه التموضعات، هل يمكن مراجعة هذا التسلسل وفقا لمتطلبات الحاضر، الذي يفرض أجندته على كل هذه المكونات، بلغة جديدة، وبأدوات جديدة، وبرؤى جديدة؟

تشكل التسلسلات الهرمية أحد المناخات المهمة في حيواتنا الاجتماعية، وينظر إليها بالكثير من الاهتمام، ومن التقدير، ومن التبجيل، وتحظى بعناية فائقة، وخاصة من كبار السن، ذلك لأنهم يرون فيها أنفسهم، وامتدادا لطفولتهم، ويرون في انقطاعها بترا لهذا الامتداد، وتشكلا جديدا لحياتهم الاجتماعية لم يكن معتادا عند من سبقهم، ولذلك تظل صورة الرجل الأول في القرية حاضرة في كل الممارسات المجتمعية، ولا يقبل إلى حد كبير ممارسة أي فعل مجتمعي إلا بحضوره، ومن ثم تتسلسل بقية الهرم تنازليا، حتى تصل إلى الأضعف (ماديا، واجتماعيا) في النظام الاجتماعي الذي يقرونه، وتبقى هذه الصورة مقبولة وممارسة إلى حد بعيد، على الرغم من إخفاقاتها في كثير من جوانب الحياة الممارسة بالقول والفعل، على الرغم من أن حركة الأحداث لا تشي إلى ضرورة هذا الحرص، وتعكس أن هناك ديناميكية حيوية لها القدرة على فرز الصالح من الطالح، والجيد من الرديء، والصالح والجيد هنا يشفع لكل منهما عمله، وهمته، وحيويته، وتقدمه، وممكناته المعنوية والمادية في الوسط الاجتماعي، وليس امتداده الأسري الذي، ربما، ساعدته ظروف ما، في زمن ما، في التميز، فالحياة -وهذا منطق الأحياء- «ولادة» والأرحام حبلى بالأنفس المتوهجة عطاء وتضحية.

شكلت الأسر الممتدة أحد المحاور المهمة في صورة التسلسلات الهرمية، وأصلت في المقابل، الصور النمطية لواقع هذا التسلسل منذ -كما أتصور- بدايات المعرفة بماهية الأسرة، ومن ثم المجتمع، حيث يأتي الـ»جد» الركيزة المحورية في الأسرة، وكل أفراد الأسرة يأتون في تسلسلهم الهرمي بعد الجد، ومن مقتضيات هذا التسلسل أن لا يحرك أحد أفراد الأسرة ساكنا إلا بأمر الجد، وأقلها المشورة، فإن حظي الأمر بموافقته فقد اكتمل، وإلا تبقى الأمور كما يراه الـ»جد» ولن يحل الأب في أي دور في وجود الأب، حتى في أمر زواج الأحفاد، على الرغم من وجود الأب والأم، فعند الجد ناصية الأمر ومنتهاه، ويبدو أن الالتزام هنا، التزام معنوي أكثر منه ماديا، ويسلم بأمره تسليما مطلقا، حفاظا على مجموعة من التعاقدات المجتمعية التي يقرها أبناء المجتمع الواحد، أو الأسرة الواحدة، وبناء على الفهم العام للمحافظة على اللحم الاجتماعية، خاصة عندما يكون هناك نوع من التنافس الأسري على مختلف الممارسات التي تحدث في القرية، أو في الحي، ومن فرط هذا الإيمان بهذا التسلسل الهرمي العمودي على وجه الخصوص، ربما لا يقبل فيه النقاش، وإلا واجه من يثير الكثير من المصاعب، وأقلها العتب، وربما القطيعة حتى يؤوب عما اقترفه فكره.

تحل أحداث الحياة على واقع الناس، فتربك المفاهيم المعتادة، وتكسر القناعات المؤمن بها منذ عهد مضى، وهذا الإرباك هو الذي يجبر على صانع القرار في أي موقع يكون أن يعيد ترتيب حسابات المسؤولية والتكليف، والعودة دائما إلى مراجعة التسلسل الهرمي في بعديه الأفقي والعمودي، وذلك لمراجعة كل ما من شأنه أن يعيق أي مستوى للتقدم، أو لتحقيق إنجاز نوعي، خاصة في ظل وجود أدوات قادرة على تحقيق نسب كبيرة من الإنجاز، وفي أوقات قياسية، وبتكلفة أقل، ولكن المهم أيضا أن يكون فريق العمل مدركا لهذه الحقيقة، حتى يتم الانسجام والتعاون، فالمسألة من منظور آخر أن التسلسل الهرمي ليس صورا مقدسة لا يجوز المساس بها، وإنما هي ضرورة ملحة، ومتى اقتضت الضرورة أن يتم التغيير، يجب أن يتم دون تردد، أو النظر إلى حسابات شعور الرضا والاختلاف، ولعل ما معمول به في كثير من الجامعات -كما أعرف- وهو عمليات التدوير المستمرة، ففلان من الأكاديميين اليوم محاضر، وبعد فترة رئيس قسم، وفي فترة هو عميد الكلية، وقد يصل إلى رئيس الجامعة، ومن ثم قد يعود إلى قاعات الدراسة محاضرا من جديد، بعد أن مر بهذه الدورة العملية، ليربط التنظير بالممارسة الفعلية، يحدث هذا دون أن يربك سير العملية التعليمية، ويحدث هذا دون أن يوجد ذرة شعور بـ»الغبن» أو «الانتقاص» أو «الظلم» فالمناصب ليست وراثة في أية مؤسسة تكون، وإنما هي عملية ديناميكية «برغماتية» لا تخضع إطلاقا لأي فكر «راديكالي» معيق، فالتجذر، على الرغم من أهميته في مجالات أخرى في الحياة، إلا أنه يظل مشكلة كبيرة، عندما يتوغل في الذاكرة، ويرى استحقاقاته في كل شيء، ولا يراهن على أهمية الزمن في التغيير، وهذا التجذر تخلقه الثقافة التي تؤمن كثيرا بأهمية تكرار الصور النمطية في الحياة اليومية، سواء على المستوى الخاص، أو المستوى العام، وقصة الغلام مع الخليفة عمر بن عبدالعزيز معروفة فـ»المرء بأصغريه قلبه ولسانه (...) ولو أن الأمور تقاس بالسن، لكان من بيننا من هو أحق بمجلسك هذا منك» – حسب المصدر -.

هناك من يرى اليوم، بعد هذا العمر من خبرات السنين، والتجربة الإنسانية، والفعل المعرفي في النفوس، أن التسلسل الهرمي الأفقي، هو المحرك الديناميكي للحياة، فهو الذي يحررها من كثير من المعوقات الإدارية والفنية، ومن الصور النمطية التي تعاني منها الذاكرة الإنسانية انعكاسا لمكوثها الطويل في الذاكرة دون تغيير، بينما التسلسل الهرمي العمودي، معيق إلى حد كبير لتفاعلات الحياة، يقيسون ذلك بناء على مجموعة الموازنات التي تحدث بين الراديكالية والبرغماتية، فالتجربة الإنسانية في جانبها الراديكالي لا تزال تعاني كثيرا من التسلسل الهرمي العمودي، ولذلك فتجربتها الإنسانية متعثرة إلى حد كبيرة، ولا تزال تعاني على الرغم من الإنجاز الملموس الذي حققته البشرية في عهودها المتأخرة، حيث نمو المعرفة، وتقلص المسافات بين البشر، بفضل وسائل التواصل الحديثة، وانتقال الأفراد بين مدن العالم بقاراته بكل يسر وسهولة، أما التجربة الإنسانية في جانبها البرغماتي، فإن حظوظها أكبر من الإنجاز الإنساني في كثير من مجالات الحياة اليومية، ولذلك فـ»البرغماتية» تسجل سبقا حضاريا أكثر اتساعا من أختها الـ»راديكالية» بسبب معوقات بعدها الرأسي في التسلسل الهرمي، وهذا التسلسل الهرمي العمودي يمكن قياسه على كل الأنشطة التي يمارسها الإنسان في هذه الحياة، ولا تقتصر على شيء دون آخر، وإن كانت الإدارة تحتكرها بشكل واضح أكثر من أي نشاط آخر، وقياسا على هذه المسألة تسعى الإدارات الحديث في التنمية إلى استحسان التسلسل الهرمي الأفقي لحيويته، وديناميكيته، ولذلك لا تشكل الإدارات العليا هاجسا شعوريا بالتميز، بقدر ما ينظر إليها على أنها المؤثر التنظيري في المشروع التنموي، ولذلك تشهد الإدارات من هذا النوع تحققا مقدرا في شأن إنجازاتها في مشروعها الذي تعمل عليه، وهذه الصورة هي المعتمدة في مؤسسات القطاع الخاص (المؤسسات القائمة على الربح والخسارة) وليس المؤسسات القائمة على مبدأ العقد الاجتماعي، والذي غالبا ما يكون متموضعا في مؤسسات القطاع العام، الذي لا ينظر إلى مبدأ الربح والخسارة كأولوية أولى لاستدامته، بقدر ما يكون الأم الحنون الراعية لأبنائها، ولذلك يعاب اليوم كثيرا على بقاء هذه الصورة الراديكالية في المؤسسات العامة، لأنه لم يعد اليوم، في ظل التحديات الكثيرة، مقبولا أو مستحسنا البقاء على أي معوق إداري من شأنه أن يؤخر أي إنجاز مستحق للوطن، ويمكن النظر أيضا إلى أن بعض الممارسات السياسية الناجحة، يقاس نجاحها على اعتمادها في تشكيل تسلسل هرمي أفقي، وهذا، يحسب، لنجاح صناديق الاقتراع، وقدرتها على ممارسة تحييد المواقف، والنظر إلى المصلحة العليا للأوطان.