أفكار وآراء

لا يتم التسليم بنتائج صناديق الاقتراع!

تعكس الفترة التشريعية، بعدد دورات انعقادها، ملمحا مهما في شأن ما يثار عن أهمية الدور الذي تلعبه صناديق الاقتراع في كل تجربة برلمانية، وذلك من خلال ممارسات أعضاء المؤسسة التشريعية، فهذه الممارسات، في مجملها، تعتبر إحدى أدوات التقييم، للحكم على نزاهة هذه الصناديق من عدمها، صحيح أنه بعد أن تؤدي هذه الصناديق دورها الحيادي في تسليم المؤسسة التشريعية هؤلاء الأعضاء، تستجد مسائل أخرى، ليس للصناديق علاقة بها، لأن هناك مجموعات ضغط تلعب دورا آخر بعد ذلك في توجيه الدفة في كثير مما يصدر عن المؤسسة التشريعية من قرارات، وتصويبات، هذا جانب، أما الجانب الآخر، فهناك طموحات، وأحلام قد تستجد، وقد تكون مختمرة في نفوس أصحابها،

ويرون في فترتهم التشريعية الفرصة لتحقيقها، بغض النظر إن كان ذلك يتعارض مع مجموعة المهام والمسؤوليات التي يتبوؤونها، والأخرى التي تعهدوا بها أمام الناخبين بأنهم سيبذلون قصارى جهودهم لتحقيقها على أرض الواقع، من خلال الغوص العميق، والتحليل الدقيق لماهية التشريع في مناخاته المختلفة، ولأن هذا لن يحدث كثيرا بالصورة التي يروج لها تترسخ، في المقابل، قناعة الناخب من أن العضو التشريعي يعمل لمصالحه الخاصة، وينسى جمهوره العريض الذي أقسم أمامه بالأيمان الغليظة من أنه سوف يتبنى رسالته، ويقاتل من أجلها.

ينظر إلى عملية الاقتراع على أنها ممارسة معبرة بالضرورة عن دستور الأمة في محددها الجغرافي، لأنه منصوص عليها في الدستور، بل تعتبر مادتها، من أهم المواد فيه، لأنها تشكل السلطة الأولى في تسلسل تدرج السلطات (التشريعية، التنفيذية، القضائية) وهذا، كما يفترض، أنه عامل مهم في استقرار الرضا بنتائج الانتخابات، أي أنها أقرب إلى الحياد منه إلى الانحياز لأي أجندة كانت، إلا أجندة الوطن، وهي بذلك، إن صدق عليها هذا الحكم، نزيهة، ونزاهتها مستمدة من قوة الدستور، وهي بذلك مؤسسة تأسيسا أصيلا من حيث النشأة، ولكن مجمل المفارقات والتداعيات التي تحدث بعد ذلك في مرحلة التمكين، وهي المرحلة الخطيرة جدا في عمر الممارسة البرلمانية لأن نتائج الممارسة يظل توظيفها على امتداد مساحة الوطن: جغرافيا، وإنسانيا، وليس كما ينظر إليها البعض من أن عضو المؤسسة التشريعية يعمل لمصالحه الخاصة، ويحاول قدر الإمكان أن يحقق مكاسب في الفترة الزمنية المحدودة، لعدم ضمان ترشحه للفترة المقبلة الجديدة، ومن هنا تأتي أهمية أن يكون الدستور حاضرا في مخيلة عضو المؤسسة التشريعية، وهو يمارس عمله التشريعي، فكلما كان الدستور حاضرا، كلما كانت النزاهة حاضرة ومانعة ومحصنة، وحضور الدستور في مخيلة عضو المؤسسة التشريعية تؤصله المؤسسة نفسها من خلال إقامة حلقات العمل المستمرة للأعضاء، وربط عناوين واشتغالات هذه الحلقات بماهية الدستور وما يدعو إليه، ويذهب إليه من تأصيل في الممارسة، ومن نزاهة في اتخاذ القرار، ومن سمو في العلاقة بالوطن الكبير.

ولعل - كما يشير البعض - إلى أن «فقدان التوازن بين السلطات» له دور ما في شأن التوجه، أصلا، إلى صناديق الاقتراع من عدمه، فضلا عما هو معروف، ما سوف تسفر عنه نتائج التصويت، بمعنى لو أنه لو تم إقصاء اشتغالات السلطة التشريعية من قبل السلطة التنفيذية، ولم تدعمها السلطة القضائية، فإن لذلك انعكاسا خطيرا على العملية التشريعية برمتها، ومعنى ذلك أيضا تكريس أكبر للصورة النمطية التي نتحدث عنها، فالجمهور، كما هو معروف، يبقى على درجة كبيرة من الحساسية، فيما يتعلق بالعملية التشريعية برمتها، حيث يظل العضو البرلماني «متهما» بالتقصير على طول خط الممارسة التشريعية، ويساوى في ذلك المخلص والأمين بغيره.

هناك من يُقيّم مدى أهمية صناديق الاقتراع في تجربة النظم الديمقراطية المتأصلة بالممارسة على أنها الأقرب مودة في قدرتها على تحقق رضا الناخب لما تأتي به من نتائج، لأن طول الممارسة أرّخت قيما وسلوكيات على قدر كبير من الأهمية، ومعنى ذلك أنها تنجز، أو أنها استطاعت التحرر من الصورة النمطية، وحقنت الناخب بالكثير من الثقة والاطمئنان، وجعلت منه أكثر مبادرة، للمشاركة في التصويت، وأكثر انحيازا في اتخاذ صناديق الاقتراع منهجا لتحقيق الكثير من المشروعات المتعلقة بإعلاء سقف الوطن، بخلاف صناديق الاقتراع في التجارب الديمقراطية الحديثة، التي لا تزال تعيش تجربة الخطأ والصواب، ولكن حتى هذه القناعة لا تزال متأرجحة إلى حد كبير، وذلك بناء على المحدد الأسمى، وهو النتائج النهائية التي تفرزها بعد الانتخابات، ولعل استحضار اقتحام مجلس الشيوخ الأمريكي من قبل مناصري الرئيس الأمريكي السابق «ترمب» بتوجيه غير مباشر منه في سباق الانتخابات الأمريكية الأخيرة، أربك هذه القناعة، إلى حد بعيد، وأعاد الممارسة برمتها إلى مربعها الأول، ولذلك لم يكن هناك فرق بين التجربة القديمة، والتجربة الحديثة في نفس السياق، وظل الإنسان هو الإنسان تسيره أهواؤه، سواء في تحييد المواقف، أو الانحياز، ولم تشفع التجربة التشاورية، وهي التجربة المتسلسلة منذ زمن بعيد، يوم أن وجدت المجالس، ومضارب القوم، للتشاور والتحاور، في البدايات الأولى لعمر تجربة الاقتراع، ومع أن ديننا الإسلامي الحنيف أصل هذه الممارسة بالنص، والفعل، إلا أن الصورة تراوح ذاتها في الدول المنتمية إلى الإسلام، وظلت قناعات الإنسان هي المتسيدة على المشهد، لا تروضها نصوص دينية، ولا أعراف قيمية، ولا تجارب تنموية، وظل الإنسان «حمال أوجه» ينتصر للمصلحة الخاصة، ومتى تحقق له ذلك تحدث عن المصلحة العامة من باب جبر الخواطر لا أكثر.

لا يزال السؤال يراوح مكانه: لماذا لم تؤرخ التجربة الطويلة في ممارسة الاقتراع، شيئا من الاقتناع، بأن هناك نسبة معقولة من صدق النتائج، حتى تعطي للناخب شيئا من الاطمئنان بأن صوته كان له دور في تحييد أي تأثير ممكن أن يؤثر في النتائج النهائية للتصويت؟ هذا السؤال يذهب بنا إلى إشكالية تموضع الفكرة النمطية عن نتائج الاقتراعات بشكل عام، وهنا يطرح تساؤل مكمل، عن سر هذا التموضع، فهل هي حالة مرضية أو أنها فكرة نمطية، من أن كل ما يأتي عن طريق الصندوق مشكوك فيه إلى درجة كبيرة؟ شخصيا، أميل إلى السبب الثاني، وهو «َتسيّد الفكرة النمطية» وهذا الاستحواذ التي تشغله الـ «فكرة النمطية» لم يأت من فراغ، وإنما من ممارسات تاريخية طويلة تعيشها الممارسة التشريعية في معظم، إن لم يكن كل، التجارب التشريعية، في مختلف بلدان العالم، ولذلك ما نراه، أحيانا، من مشاهد مرئية تعكس حالة الهياج تحت القبة البرلمانية، وصولا إلى مراحل العراك بالأيدي، وإسالة الدماء، في بعض الأحيان، يؤصل القناعات بصورة أكثر وأكبر من أن صناديق الاقتراع لم تكن حيادية بما فيه الكفاية، ولم تكن أمينة بالصورة التي يروج لها، ويبدو أن «حراسة البوابة» فيها - حسب التعبير الإعلامي - لم تكن يقظة إلى درجة الاطمئنان بأن ما تقدمه من فرز هو محل تقدير، وتبجيل، ويستطيع في الوقت نفسه أن يربك الـ «فكرة النمطية» ويقول للجمهور العريض أنت مخطئ، وأن واقع الإنتاج لهذه الصناديق غير ذلك تماما، إنما ظلت الممارسات نفسها، وظل اختزال الدور الكبير المؤمل من عضو المؤسسة البرلمانية يراوح مكانه في عدم تبني قضايا الساعة التي تشغل بال الجمهور بالصورة المأمولة، في واقع يكرس أكثر الصورة النمطية المرتسمة في الذاكرة الجمعية.

في أحد تقارير الأفلام الوثائقية - التي استمعت إليها - عن إحدى الدول في انتخابات الرئاسة، أن الرئيس المنتخب حصل على ما نسبته (97%) فذكر التقرير أن الرئيس لم يهتم بالنسبة الفارقة لهذه النتيجة، بقدر ما اهتم بـ (3%) المتبقية، لأن هذه الفئة في تقديره هي الفئة الخارجة أو المنشقة عن عصى الطاعة، مع أن الرواية لا تخلو من مبالغة واضحة، وفي حالة صحة هذه الرواية، فإن ذلك يؤكد على أن صناديق الاقتراع لم تكن حرة، وأن ممارسة الاقتراع لم تكن ممارسة حيادية، وتؤمن بالنتائج التي تحتويها، وهذا مما يكرس النظرة النمطية، أو التقييم تجاه ما تفرزه صناديق الاقتراع.