أفكار وآراء

الدولة.. أسس النشأة وعوامل الاستمرار

عُمان.. مسار الدولة بها موغل في القدم ومتطور؛ مداً وجزراً، ولربما تعود جذورها إلى ما قبل التاريخ، وقد استمرت إلى اليوم، ورغم ذلك لم تدرس إلا دراسة فوقية، حيث جرى البحث في نشأتها وتطورها وأنواعها من الناحية التاريخية فحسب، ومع ذلك ما تم رصده لا يشكّل إلا نسبة قليلة من هذا المسار، ولا يزال الباقي في بطن الغيب. في حين.. لم تتعرض الدولة إلى دراسة بنيتها التحتية؛ وأقصد قراءة الأسس النفسية لنشأتها واستمرارها. المقال.. لا يتمكن من تتبع ذلك تفصيلاً، لكنه يطمح أن يلفت النظر إليه، رجاء أن يفتح الباب لفهم صيرورة التاريخ الذي يحكم حركتنا الحاضرة ويرسم خارطة سيرنا نحو المستقبل.

إن دراسة الدولة بسيرورتها التاريخية وطبيعة نظمها السياسية والقانونية، وعوامل نشأتها وازدهارها وانهيارها، ورصد الحالة النفسية لأفرادها والعلاقات الاجتماعية لقطّانها، ليس تكراراً لما قيل، ولا ترفاً لا يعود بمفيد، بل إسهام في تقديم رؤية للحظة التحوّل التي نعيشها. وهذه ثلاثة عناصر قائمة على أسس نفسية، يلزم الدولة الأخذ بها في استئناف مسيرتها وتجدد نهضتها؛ وهي: الإيمان والعقل والعمل.

أولاً: الإيمان.. وهو لا يقتصر على المعتقد، فالمعتقد على أهميته هو تمظهر اجتماعي للإيمان، ومن الأهمية الحفر في عمق النفس الإنسانية لرؤية الوقود الكامن في لبِّها والمحرك لجوارحها، وعندما أقول النفس الإنسانية؛ فلا يبعد مقصدي عن هيكل الدولة، فما الدولة إلا نظام سياسي ضام لجنس الإنسان. والدولة.. تقوم على عقيدة، وبدونها لا تقوم لها قائمة ولا يقرّ لها قرار، وإيمان الدولة هو الإيمان المستقر في نفوس سكانها. ولأن التمظهر الاجتماعي بين البشر لا تُحصى طرائقه، ومتباين لدرجة الحدّية، فإن على الدولة أن تخرج من هذه الحالة المربكة واللانهائية، بأن تنتصر للإيمان أولاً، ثم للمشترك من المعتقدات بما لا يتعارض مع ديناميكية الدولة.

ولأن الإيمان في النفس الإنسانية أصله تجلٍ إلهي؛ فإن الدولة ينبغي لها أن تَرِدَ هذا المعين الذي لا ينضب مدده، والبشرية؛ أفراداً ودولاً ومجتمعات تعاني ما تعانيه من ويلات الصراع وانحدار القيم وتدهور السلوك بسبب تراكم مفرزات الحياة، فرانت على قلب الإنسان، وأعمته عن التبصّر بالإيمان الموصول بالله، فاتخذ من جشعه طريقاً كؤوداً حاد به عن نهج الإيمان.

والإيمان.. لا ينظّر له الفيلسوف، ولا يقرره الفقيه، ولا يكشف عنه عالم النفس، وإنما يدركه الأخلاقي؛ الذي جعل من الأخلاق ضميره وسلوكه، وغاص في سبر أغوارها وفهم تأثيرها، وهو مَن بمقدوره الربط بين الإيمان والأخلاق، لأن مصدرهما اللطف الرباني قبل اختلاطهما بعوارض الاجتماع البشري. وهو مَن يستطيع نقد هذه العوارض بمختلف أوجهها: السياسية والاقتصادية والاجتماعية، ونحوها.

الحاجة ملحة لكيان أخلاقي ينظِّر للدولة، فيقرّ وفق مقتضى الإيمان بالله المتصف بصفات الكمال؛ وفي مقدمتها العدلُ والرحمةُ والحكمةُ، الأخلاقَ الصالحة لبنية الدولة، والمقتدرة على معالجة الأمراض الاجتماعية بأسبابها وآثارها. وما تأسس في الدولة الحديثة من فلسفة التسامح والسلم والمساواة قاعدة سوية للكيان المنشود، لكي يفكر للدولة بما هو صالح لحركتها وضامن لبقائها.

ثانياً: العقل.. صنو الإيمان والأخلاق، فكلها تستقي من الروح الإلهي، وهو ثالثة القواعد التي لا تستقر الحياة بدونها، بل غير العاقل لا يعي الإيمان والخُلُق، والعقل مثل صنويه؛ تصيبه عوارض الاجتماع البشري بتشابك المنافع وتضاد المصالح، لكن هذه هي طبيعة التدافع الإنساني لبناء الحياة واستمرارها.

لقد تعرض العقل كثيراً لنقد الفلاسفة ورجال الدين ومنظّري العلم؛ بيد أن أداتهم في النقد هي العقل نفسه، فميزة العقل أنه قادر على نقد ذاته، ومن هنا.. تأتي قدرته على تجاوز أخطائه والسير بالمجتمع نحو الأمام. لا جدال في أهمية العقل بأنه حتمية الاجتماع البشري، وبالتالي.. هو ضروري لقيام الدولة، بل هي توصف بالقوة عندما يدير شأنها الحكماء. والسؤال: أين يكمن عقلها؟

قديماً.. الحكماء هم عقل الدولة؛ الدينية وغير دينية، فعقل الأولى رجال دينها، وعقل الثانية فلاسفتها، وقد يجتمعا لها. أما الدولة الحديثة فيأتي الفيلسوف في درجة تالية، في حين تقهقر رجل الدين، لتحل محلهما مراكز البحث وأقسام الفلسفة، فلم يعد الفيلسوف قادراً أن يفكر وحده للدولة، فقد كثرت أنظمتها، وتشابكت علاقاتها، وتعاظمت مهامها، فوجب أن تتآصر العقول مع بعضها، وتوجد لها أداوت مساعدة لفهم الحياة، ولا يكون ذلك إلا بمراكز البحوث والدراسات في مختلف الجوانب الحيوية. فدولة.. لا توجد بها مراكز للبحث هي فاقدة للعقل، راكدة الفعل، خاملة الذكر، أقرب للفناء منها للاستقرار والازدهار والبقاء، بل حتى الدول التي توجد بها مراكز للبحوث، ولا تعمل على تمكينها وتعزيزها، فإنها تتحجر عن مسارات التقدم. وعقل الدولة ذو فصين: مراكز البحوث وحلقات الفلسفة، والحلقة الفلسفية لها غرفتان: قسم الفلسفة في الجامعات لبلورة الأفكار وإنضاجها، ومجلس الفلاسفة للحوار حول الأفكار ونقدها.

والعقل.. يحدد للدولة منهجها العملي، ويضعها أمام حقيقة التحول الاجتماعي، ويقدّم بين يديها الفلسفة التي تدير بها استراتيجياتها الكبرى وخططها السنوية وحركتها اليومية، بل يصنع لها إنسانها الواثق بالله والمتسلّح بالأخلاق والمقتدر على العمل الصالح. ومن هنا.. تأتي أهمية أن تولي الدول عنانها صوب هذه المراكز، لكي تنمو مداركها، فتسلس لها الحياة قيادها، وتتمكن بجدارة من صعود مدارج التقدم المدني، والسبق في مراتب المنافسة الحضارية، ولا تكتفي بأن تقلد غيرها وتستجلب تجاربهم وتستجدي مناهجهم، وأي يوم تتأخر فيه عن ذلك فهو التراجع المحقق، يعقبه الموت الزؤام.

ثالثاً: العمل.. ينبع من الحاجة البيولوجية، وثمرة للتفكير، وطالما أننا نفكر فسنعمل، فالعمل قبل أن يكون حركة جوارح هو شعلة في النفس. وكل إنسان له نهجه في العمل وفقاً لنوع حاجته، وبما أن الدولة بالأساس هي تنظيم للاجتماع البشري فإن العمل هو دافعها ومهمتها ومقصدها، وكل الدول في قوتها هي «ورشة عمل»، وقودها الإيمان وحارسها الأخلاق، وبحفاظها على ديناميكية هذه الورشة؛ فهي في تمكّن وتقدّم، ويزداد ازدهارها بتسارع العمل، كما يصيبها الركود بتباطئه. ولتحقيق الاستدامة في العمل.. فعلى الدولة أن تجعله سجية في شعبها، ورسالة يؤمن بها، وأن تتبنى فلسفة ربطه بالإيمان والتعقل، فيكون الإيمان هو ضمير العاملين وميزان ألبابهم في صنائعهم وسائر وظائفهم.

على الدولة أن تصمم جهازها الإداري على هذه الفلسفة، وأن تعيد بناءه وفق قيمها الإيمانية الأخلاقية وأسسها العقلية العلمية، وتحقيق هذا يقتضي أن تبدأ الدولة مهمتها هذه بمرحلة التأسيس، أي.. من مناهج التعليم؛ التي تغرس في الطالب الخُلُق الموصول بالله، متجاوزةً الأطروحات العقدية التي اصطنعها التاريخ، فالخُلُق.. ينميه الإيمان؛ ذلك الحضور الروحي في النفس البشرية، وليست المعتقدات التي سيكتشف الطالب يوماً ما أن كثيراً منها يتعارض مع حقيقة الإيمان، فالربط يجب أن يكون بالله وحضوره المتحقق في النفس، وليس بالبشر ومقولاتهم.

وعلى هذه المناهج.. كذلك أن تصنع عقولاً مفكرة، تؤمن بالعلم وليس بالأماني، وأن تعلّم المنطق لا الأوهام، وألا تتناقض مقرراتها، فأحدها -مثلاً- يقرر المنهجية الموضوعية في التاريخ، والآخر يتغنى به؛ غاضاً الطرف عمّا يوجد فيه من مثالب، وكأن أحداث التاريخ لم تجرِ إلا على يد المعصومين. وألا يركّز في مقرر على أهمية التجربة ليأتي مقرر آخر فينسفها بتصورات قد فرغ العلم من نقضها منذ قرون.

إن الالتفات إلى هذه الأسس الكبرى؛ والسعي إلى بنائها في النفس بما يكون مثمراً للمجتمع هو السبيل لنجاح الدول.