أفكار وآراء

الذكاء الاصطناعي والبشري بمنظور ثقافي مختلف

تعد ظاهرة انفجار العلوم والمعارف ميزة القرن العشرين وما بعده. فالرصيد الكبير للبحوث والتجارب في ميدان ما يسمى 'الذكاء الاصطناعي'، هو أحد ملامح ذلك الانفجار العلمي المعرفي الهائل. ولموضوع الذكاء الاصطناعي جانبان رئيسان ينبغي التوقف عندهما: الجانب العملي والجانب المعرفي. فمن جهة، يستفيد الإنسان من اختراع الكمبيوتر والإنسان الآلي (الروبوت) مثلا، وذلك في القيام ببعض الأنشطة بسرعة كبرى. كما أنهما يقللان من حجم الأعمال الروتينية التي كان يقوم بها الإنسان. ومن جهة أخرى، فبحوث العلماء في الذكاء الاصطناعي تفتح الطريق واسعا أمام الكائن البشري العاقل كي يعرف نفسه ويتعمق فيها أكثر.

ربما يفوق هذا البعد في الأهمية الجانب الآخر/ التطبيقي للبحوث في الذكاء الاصطناعي. ذلك أن عجز جهود العلماء والباحثين في ميدان الذكاء الاصطناعي عن صناعة آلة قادرة على التفكير مثل الإنسان يطرح تساؤلا مشروعا للغاية: ما الذي يجعل الإنسان يتمتع بقدرة فائقة على التفكير يتميز بها عن باقي الكائنات على وجه الأرض؟ ولماذا يعجز المختصون في الذكاء الاصطناعي عن صنع آلة تضاهي قدرتها في استعمال اللغة قدرة الكائن البشري؟ بينما لا يكاد يجد الإنسان العادي صعوبة تذكر في استعمال اللغة. ومن ثم، أقر الباحثون في الذكاء الاصطناعي أن الظاهرة اللغوية لدى الجنس البشري، هي في حقيقة الأمر ظاهرة معقدة الأبعاد، وإن كانت تبدو بسيطة في نظر كثير من عامة الناس.

عالم الرموز الثقافية

أصبح جليا اليوم لدى العلوم الإنسانية والاجتماعية وعند الباحثين في ميدان الذكاء الاصطناعي أن ما يميز الجنس البشري عن غيره من الأجناس على الكوكب الأرضي هو، من جهة، ما نسميه عالم الرموز الثقافية (اللغة، التفكير، الدين، العلم/ المعرفة، القيم والأعراف الثقافية...)، ومن جهة ثانية، مخترعات الذكاء الاصطناعي. وبعبارة أخرى، يتمثل عالم الرموز الثقافية في رصيد اللغة البشرية والمقدرة التفكيرية واحتضان العقائد بكل أصنافها وأنساق العلوم والمعارف ومنظومات التقاليد والقيم والأعراف الثقافية التي تنتشر في المجتمعات والثقافات والحضارات الإنسانية في الشرق والغرب وفي الشمال والجنوب على بساط هذا الكوكب الشاسع الأطراف.

وبتعبير علمي الاجتماع والأنثروبولوجيا، فتلك الرموز الثقافية، هي الفاصل الحاسم المميز للجنس البشري عن غيره من الأجناس التي يعرفها الإنسان. ومن ثم، يجوز القول بكل مشروعية إن الإنسان كائن ثقافي بالطبع، أي أن منظومة الرموز الثقافية هي الروح الثقافية للإنسان. لقد تقوقعت دراسة الرموز الثقافية في هذا العصر داخل سياج رؤية الحداثة التي تتعامل مع منظومة الرموز الثقافية في إطارها الفكري المادي المقتصر على المقاييس المادية في فهمه ودراسته للأشياء والظواهر، ما أدى إلى سحب اللمسات الخفية غير المادية من عالم الرموز الثقافية الذي يتميز به الإنسان. فالعلوم الإنسانية والاجتماعية المعاصرة لا تكاد تعطي أهمية إلى الجوانب الخفية غير المادية في طيات الرموز الثقافية. وهو ما يقوم بنقده منظور فكر ما بعد الحداثة منذ عقود.

الطبيعة الثقافية للإنسان

ولدت مقولتنا عن عمق الطبيعة الثقافية في صلب صميم جوهر الكائن البشري, كنتيجة لملاحظاتنا الرئيسة حول خمسة معالم ينفرد بها الإنسان عن غيره من الأجناس الحية الأخرى:

1 - يتصف النمو الجسمي لأفراد الجنس البشري ببطء شديد مقارنة بسرعة النمو الجسدي الذي نجده، مثلا،عند معظم بقية الحيوانات.

2 - يتمتع أفراد الجنس البشري عموما بأمد حياة (سن) أطول من عمر معظم أفراد عالم الحيوانات، على سبيل المثال.

3 - ينفرد الجنس البشري بلعب دور السيادة/ الخلافة على وجه الأرض.

4 - يتميز الجنس البشري بطريقة فاصلة وحاسمة عن الأجناس الأخرى بمنظومة الرموز الثقافية المشار إليها سابقا.

5 - يختص أفراد الجنس البشري بهوية مزدوجة تتكون من الجانب الجسدي، من ناحية، وجانب الرموز الثقافية المشار إليه أعلاه، من ناحية ثانية.

إن التساؤل المشروع الآن هو: هل من علاقة بين تلك المعالم الخمسة التي يتميز بها الإنسان؟

أولا: ثمة علاقة مباشرة بين المعلمين 1 و 2. إذ إن النمو الجسمي البطيء عند أفراد الجنس البشري يؤدي بالضرورة إلى حاجتهم إلى معدل سن أطول يمكنهم من تحقيق مراحل النمو والنضج المختلفة والمتعددة المستويات. فالعلاقة بين الإثنين هي إذن من نوع العلاقة السببية.

ثانيا: أما الهوية المزدوجة التي يتصف بها الإنسان، فإنها أيضا ذات علاقة مباشرة بالعنصر الجسدي (المعلم 1) للإنسان، من جهة، وعنصر الرموز الثقافية (المعلم 4)، من جهة أخرى.

ثالثا: عند البحث عن علاقة سيادة الجنس البشري على وجه الأرض بالصفات الأربع الأخرى، فإن المعلمين 1 و 2 لا يؤهلانه، على مستوى القوة المادية، لكسب رهان السيادة على باقي الأجناس الحية، إذ إن الإنسان أضعف جسديا من العديد من الكائنات الأخرى. ومن ثم، يمكن الاستنتاج أن سيادة الجنس البشري ذات علاقة قوية ومباشرة بالمعلمين 5 و4: الهوية المزدوجة والرموز الثقافية. والعنصر المشترك بين هذين المعلمين هو منظومة الرموز الثقافية. ومنه، يتجلى الدور المركزي والحاسم لمنظومة الرموز الثقافية في تمكين الإنسان وحده من السيادة/ الخلافة في هذه الأرض.

رابعا: إن الرموز الثقافية تسمح أيضا بتفسير المعلمين 1 و 2. فالنمو الجسمي البطيء عند الإنسان يمكن إرجاعه إلى أن عملية النمو عنده تشمل جبهتين: الجبهة الجسمية وجبهة الرموز الثقافية. وهذا خلافا للنمو الجسدي السريع عند الكائنات الأخرى، بسبب فقدانها منظومة الرموز الثقافية بمعناها البشري الواسع ذي الأبعاد العظيمة والسامية المختلفة.

خامسا: الرموز الثقافية مركزية في ذات الإنسان، ما يعطي بذلك مشروعية قوية لفكرتنا المنادية بصوت عال: الإنسان كائن ثقافي بالطبع.

الرموز الثقافية وتميز ذكاء الإنسان

يعرف عالم النفس هوورد غاردنرHoward Gardner الذكاء كالتالي ' الذكاء هو المقدرة على حل مشكلات أو صناعة أشياء محمودة في محيط ثقافي ما أو محيطات ثقافية معينة'. فكما ذكرنا من قبل, فلا كائنات الأجناس الأخرى ولا حتى المخترعات المتقدمة للذكاء الاصطناعي الحديث تملك منظومة الرموز الثقافية التي يتمتع بها الإنسان. وهي ملاحظة تطرح فرضية قوية حبلى بروح الصدقية تلوح إلى وجود علاقة متينة بين شيئين يتميز بهما الجنس البشري: 1- منظومة الرموز الثقافية و2- الذكاء الإنساني المتفوق المشار إليه في سطور هذا المقال. ومنه، يجوز القول بإمكانية حضور علاقة سببية بين الإثنين تكون منظومة الرموز الثقافية سببا قويا لتأهل الكائن البشري وحده لكسب رهان الذكاء الإنساني الذي سمح للجنس البشري بالسيادة/ بالخلافة في الأرض. وبتعبير آخر، يعود تميز الذكاء الإنساني عن غيره إلى نفخة الروح الثقافية في آدم التي تسميها العلوم الاجتماعية والإنسانية المعاصرة منظومة الرموز الثقافية. لا تتردد هذه الحقيقة في أن تعلن بصوت عال وبحروف كبيرة أن الإنسان كائن ثقافي بالطبع. أي أن الذكاء البشري المتفوق على أنواع الذكاء الأخرى منح الجنس البشري وحده السيادة/ الخلافة على باقي الأجناس ومعالم الطبيعة المتعددة، لأنه ذكاء حمال لنصيب الأسد من الذكاء الأكبر في معالم الكون المترامية الأطراف. فالبحوث والمؤلفات المعاصرة حول ظاهرة الذكاء خالية من مقولة تحليلنا الفكري هنا. تقتصر عموما تلك البحوث والكتب على قياس الذكاء كما فعل عالم النفس الشهير جان بياجي Jean Piaget أو تصنيف الذكاء إلى أنواع مختلفة، كما جاء في كتاب 'The Theory of Multiples Intelligences' العائد لهاورد غاردنر . Howard E Gardner وبعبارة أخرى، فإن طرح الأسئلة الكبرى حول سبب/ أسباب تميز الذكاء الإنساني وتفوقه على أصناف الذكاء الأخرى لدى الكائنات الحية المختلفة ظاهرة مفقودة في الكتابات الحديثة حول الذكاء في علم النفس وغيره. تفسر هذا الصمت طبيعة الرؤية المعرفية للعلوم الحديثة التي تكتفي في فهمها وتفسيرها، بالاستناد إلى العناصر المادية للمخ البشري مثل النظر إلى المخ كمجرد هندسة معمارية وما شابه. فالمخ عند المختص في الذكاء الاصطناعي رجاء شاتيلا ليس مكينة. فالفكر البشري، هو أكبر ميزة للإنسان عند ابن خلدون كما يعبر عن ذلك في السطور الأولى من الباب السادس للمقدمة: ' وذلك أن 'الإنسان قد شاركته جميع الحيوانات في حيوانيته من الحس والحركة والغذاء والكن وغير ذلك. وإنما تميز عنها بالفكر (... ) فهو مفكر في ذلك كله دائما، لا يفتر عن الفكر فيه طرفة عين..'.

يرى غير ابن خلدون من المفكرين أن الفكر ليس نتيجة للمخ المكينة. فذلك التصور يسحب عن الإنسان كرامته وسيادته. إذن، فالمسألة هنا ليست سؤالا علميا جافا فقط، وإنما هي جدل حول صلب إنسانية الإنسان نفسها. فهذه الأخيرة لا يكسب رهانها في تصورنا من دون النظر إلى تميز مخ/ عقل الإنسان بمنظومة الرموز الثقافية أو نفخة الروح الثقافية التي أهلت الإنسان وحده لذكاء أسمى ولمشروعية تبوئه وحده الخلافة/ السيادة في الأرض. إن تميز الإنسان بمنظومة الرموز الثقافية، هو نتيجة ميزة أخرى ينفرد بها الإنسان، ألا وهي اللغة في شكليها المنطوق والمكتوب. يرى الكثير من المفكرين في العلوم الاجتماعية أن اللغة البشرية هي مصدر نشأة الثقافات لدى الأجناس البشرية. وهذا ما جعلنا نؤكد أن اللغة هي أم الرموز الثقافية جميعا (الثقافة). ومنه يتجلى أن تميز الذكاء البشري عن غيره، هو حصيلة لميزتين مترابطتين يتمتع بهما الكائن البشري: اللغة المنطوقة والمكتوبة التي ولدت منها المنظومة الثقافية لدى بني البشر.