أفكار وآراء

الوصول لليقين بين الإمام الغزالي وديكارت

عبد الله العليان

في العصور الحديثة ترى غالبية الباحثين والمهتمين بالأفكار الجديدة التي بدأت مع الاكتشافات والنهضة العلمية، التي برزت بقوة في أوروبا، في مجال العلوم الطبيعية والفلسفية، والتي برزت مع حركة للإصلاح الديني وبروز رؤية ما يسمى بـ «عصر الأنوار» والتي فتحت حرية التعبير والنقد ونقد النقد، خاصة بعد تجريد الكنيسة من تدخلاتها في قضايا فكرية كثيرة، اعتبروا أن أوروبا سبقت الأمم المعاصرة في الاكتشاف، بل ويرون أنها سبقت حتى العقول القديمة التي سبقتها، في إرساء هذه الأفكار التي لم يتطرق إليها أحد، وطرائق تأسيسها في العقل الإنساني، ومن هؤلاء الفيلسوف الفرنسي«رينيه ديكارت» (١٥٩٦-١٦٥٠م)، الذي اعتبر المؤسس للعقلية الفلسفية الحديثة، والمجسد الأفضل للوجود الإنساني المتطلع للنهوض العلمي والمعرفي واليقين الاعتقادي من خلال المنهج الذي وضعه والتأملات التي فكّر فيها، بما أرساه من رؤى غير مسبوقة كان لها أثرها الأهم في تقدم أوروبا، وأسست للعلوم الحديثة فيما بعد في الغرب وانتقالها للأمم الأخرى.

والأمر في فلسفة «ديكارت» ـ كما يرى هؤلاء ـ أنه أسس المنهج الشهير في مبدأ الشك (الكوجيتو)، وهو المبدأ الذي سار عليه، وهو ما ظهر في كتابه الشهير (التأملات) وبعض مؤلفاته الأخرى، وما عبر عنه بالشك الديكارتي (أنا أفكر إذن أنا موجود)، فديكارت، كما عرف عنه أنه جرد وجوده النفسي والعقلي من كل رؤية مسبقة، ليصل لليقين الذي يقنعه بحقيقة وجوده كإنسان، فشك في نفسه حتى يتأكد من حقيقته الذاتية في داخل وجوده، من خلال المراجعة العقلية التي تقنعه باليقين، وهذا مبدأه بالتفكير كما يجب أن يرى وجوده، فيقول ديكارت في إثبات نفسه من خلال الشك من أجل الوصول للحقيقة الوجودية: «إن الأشياء التي ندركها إدراكا واضحا ومتميزا كلها حقيقة» مضيفا في فقرة أخرى:«ولما انتبهت إلى هذه الحقيقة: (أنا أفكر إذن أنا موجود)، هي من الرسوخ بحيث لا يستطيع الارتيابيون أن يزعموها مهما يكن في فروضهم من شطط حكمت بأنني أستطيع ـ مطمئنا ـ أن اتخذها أصلا للفلسفة التي أطلبها». وهو ما اعتبره اليقين الذي جعله يتحقق من إيمانه بيقين اطمئنانه أولاً، ثم بالله الذي خلق الكون والوجود كله، ويعلق د. محمد عبد الرحيم الزيني في كتابه (وقفة مع الفلسفة الغربية)، على فكرة الشك الديكارتي بديكارت فيقول:«ولأجل التثبت من وضوح هذه الفكرة، يعود ديكارت إلى فكرة الخالق عز وجل يعتمد عليها ضامنا أسياسيا لوضوح أفكارنا، إذ أن الله من صفاته الجمال، وهو صادق لا يخدعنا إذ الخداع من صفات النقض وعلى ذلك فأنا واثق أن الله صنع كفئاً لإدراك الحق، وصدق هو الضامن لوضوحنا».

ومن هذه المنطلقات ونفس الخواطر كان قد طرحها أبو حامد الغزالي، في سعيه للحقيقة استخدم هذا المنهج منذ ستة قرون أو يزيد، كما طرحه رينيه ديكارت بعده، ففي كتابه (المنقذ من الضلال)، أنه شكك في قدرة العقل وفي الحسيّات بصورة تامة، ليصل لليقين فيقول:«لم تسمح نفسي بتسليم الأمان في المحسوسات أيضاً، فأخذت تتسع للشك فيها وتقول، من أين الثقة بالمحسوسات، وأقواها حاسة البصر، وهي تنظر إلى الظل فتراه واقفاً غير متحرك، وتحكم بنفي الحركة، ثم بالتجربة والمشاهدة، بعد ساعة، تعرف أنه متحرك، وأنه لم يتحرك دفعة واحدة بغتةً، بل على التدريج ذرة ذرة حتى أنه لم تكن له حالة وقوف. وتنظر إلى الكوكب فتراه صغيراً في مقدار دينار، ثم الأدلة الهندسية تدلّ إلى أنه أكبر من الأرض في المقدار».

هذا وأمثاله من المحسوسات يحكم فيها حاكم الحس بأحكامه، ويكذبه حاكم العقل ويخونه تكذيباً لا سبيل إلى مدافعته. (ص 62 ـ 63) فالدكتور، محمد أبو ليلة في كتابه (الأمام الغزالي والقضايا المعاصرة) تحدث عن قضية التي انتهجها الغزالي للاقتناع بذاته للوصول الحق بعيدا عن التقليد والمحاكاة، يرى أن الغزالي اتخذ نفس المبدأ، وسبق فيه ديكارت، وهو أن الشك واليقين، مبعثه الوصول للحق، باعتباره البرهان الذي يسعى إليه:«فالحق والحقيقة ـ عند أبي حامد ـ وحدهما الجديران بالبحث الخالص، والتسليم لما يبديه الحق بالبرهان والعيان لطلاب الحقيقة، والراحة والسكينة» وقبل ذلك أجاب الأمام الغزالي،عندما سئل عن فكرة الشك، ولماذا الشك، وهذا جاء من بعض تلاميذه ومحبيه، باعتباره من العلماء البارزين في الفكر الإسلامي، ومن المنافحين عنه، ضد بعض الأفكار والفلسفات، والتيارات المناقضة لبعض الأسس الدينية، فرد عليهم رداً يبرز قيمة العقل والبحث للوصول للحق، فهو يؤكد أهمية النظر والتفكر والتدبر في طلب الحق، فيقول في كتابه (ميزان العمل)، أهمية الفكر المستقل فالحقيقة المطلوبة : « هي الموصلة إلى الحق، فمن لم يشك لم ينظر، ومن لم ينظر لم يبصر، ومن لم يبصر بقي في العمى والضلال» فالكثير من الباحثين ـ ومنهم بعض الغربيين ـ يرون أن ما أورده رينيه ديكارت، جاء مطابقا لما كتبه الأمام أبو حامد الغزالي، وهي نفسها المرحلة الشكية التي سار عليها أبو حامد للوصول إلى اليقين، فماذا يعني هذا التطابق في المنهجية، وفي طريقة الوصول لهذه المعرفة الوجودية ؟ خاصة التطابق التام في طريقة المعرفة.

فالغزالي سبق ديكارت في طرح فكرة الشك المنهجي للوصول إلى الحقيقة التي رآها الطريق الموصلة إلى الفكرة التي يبحث عنها بهدف الاقتناع واليقين، ولذلك قال الغزالي في فكرة للوصول لما سعى إليه طرح مبدأ انطلاقته للاقتناع باليقين فجاء بالفكرة الشهيرة وهي الإرادة:(أنا أريد إذن أنا موجود).

فهل هذا التقارب بين أبو حامد الغزالي وديكارت، والذي كتب عنه العديد من الباحثين ومن الفلاسفة، حول هذا الاقتراب في منهجية الشك بينهما ـ فالشك نقيض اليقين ـ، فهل هو توارد خواطر؟ أم هناك صلة معرفة للفكرة استقاها الثاني من الأول؟ هناك العديد من الكتابات التي تحدث عن هذه الصلة، فالبعض مما درس الفلسفة وعلم الكلام، تابع هذا التقارب، ورآه أنه ليس توراد خواطر، بل أن التوقع الذي يقترب من الحقيقة، أن ديكارت عرف عن منهج الشك الذي توصل إليه الغزالي للوصول لليقين، ومن ثم بحث البعض من هؤلاء قضية التشابه أو التطابق، بين الغزالي وديكارت، وهذا ما جاء في رسالة د. محمود حمدي زقزوق، في رسالته للدكتوراه في ألمانيا، والتي حملت عنوان (المنهج الفلسفي بين الغزالي وديكارت، والتي اعتبر فيها أن هناك تطابقاً بين رؤية الأول والثاني، وقد أشرت إلى هذه القضية في بعض ما كتبت، وينقل الأستاذ زكي الميلاد في كتابه:(مدخل إلى المسألة الفلسفية)، عن د. محمود زقزوق في هذه الرسالة عن قضية التطابق أو التشابه أن د. زقزوق: «أثبت بالنصوص القاطعة، التطابق الواضح بين المنهج الفلسفي لدى كل من الغزالي وديكارت، وهو المنهج المعروف بالشك المنهجي، التطابق الذي فاجأ الأستاذ المشرف على الرسالة راينهارد لاوت، الذي يعد حسب قول زقزوق، من أشد المعجبين بفلسفة ديكارت، وكان يعلن في محاضراته أن الفلسفة الحقيقية بدأت مع ديكارت». وهذا يؤكد أسبقية الإمام الغزالي في طرح منهج الشك الذي قاده إلى اليقين، بما يجعله هو الذي بدأ بهذا المنهج القويم.

ويذكر الباحث العراقي عماد الدين الجبوري عن مسألة تقارب الفكر بين الغزالي وديكارت، حول صلة الثاني بفكر الأول ومؤلفه فيقو:(المنقذ من الضلال)، أنه مع انعقاد:«المؤتمر العاشر للفكر الإسلامي، الذي انعقد في عنابة في الجزائر عام 1971، كشف عثمان الكعاك (1903-1976) عن حقيقة أذهلت جميع المؤتمرين، ذكر أن محمد عبد الهادي أبو ريدة (1909-1991)، الذي كانت تربطه بالكعاك علاقة وثيقة، طلب إليه أن يعاونه في عمل بحثي يتوفر عليه أبو ريدة بخصوص تأثير الغزالي في الفكر الغربي، وبما أن الكعاك كان يعمل أمينا عاما للمكتبة الوطنية، فإنه استطاع أن يصل إلى مكتبة ديكارت، فوصل إليها وبدأ يطالع، وفُجئ الكعاك بنسخة من كتاب الغزالي «المنقذ من الضلال» مترجمة إلى اللاتينية في مقتنيات ديكارت، وبقلم ديكارت خطوط حمراء تحت أكثر من فكرة من أفكار الغزالي، منها قول الغزالي : «الشك أولى مراتب اليقين»، ومكتوب عليها «ينقل هذا إلى منهجنا»، أي إلى كتاب «مقال في المنهج». هناك آراء تقاطعت بين الباحثين حول التقارب بين الأول والثاني، لكن يظل الإمام الغزالي في عصر يختلف عن العصور الحديثة، لكن يعد بلا شك أول من أرسى فكرة الاستقلال الفكري في رؤيته التقليدية، وتكفي قولته الشهيرة:«فمن لم يشك لم ينظر، ومن لم ينظر لم يبصر، ومن لم يبصر بقي في العمى والضلال».. ولكن هل انتهج محاربة العقل والعقلانية في مسيرته الفكرية ؟ وللحديث بقية...