أفكار وآراء

كولن باول وأكثر من كذبة

إذا كان حبل الكذب قصيرًا، فإنّ كذب كولن باول وزير الخارجية الأمريكي الذي توفي يوم الاثنين 18 أكتوبر 2021، حول أسلحة الدمار الشامل العراقية، لم يكن يحتاج له حبلٌ أساسًا لإثباته، إذ كان كذبًا صريحًا وواضحًا. ففي الخامس من فبراير 2003، قدّم باول أمام مجلس الأمن الدولي ملفًا ركّز فيه على وجود أسلحة دمار شامل في العراق، وكان من بين ما قدّمه تسجيلات لمحادثات هاتفية بين مسؤولين عراقيين قال عنها إنها تدل على قيام العراق بتضليل وخداع مفتشي الأمم المتحدة، وعرض صورًا التقطتها الأقمار الصناعية قال إنها تدل على أنّ العراقيين كانوا يمتلكون معلومات عن بعض زيارات المفتشين لبعض المواقع، وأنهم قاموا بإجراء تغييرات أو تحركات استباقًا للزيارة، واتهم العراق بامتلاك وحدات متنقلة قادرة على صنع الأسلحة البيولوجية، وتمادى في كذبه عندما قال إنّ الأدلة التي قدّمها لا يمكن دحضها، وكذلك عندما اتهم العراق بعلاقة مع تنظيم القاعدة، وأنه يؤوي بعض منتسبيها، وأنّ الطرفين يشتركان في الدوافع وهي «الحقد والطموح».

أدى خطاب كولن باول وادعاءاتُه الكاذبة بامتلاك العراق لأسلحة الدمار الشامل، وزعمُه بصلات الرئيس صدام حسين بتنظيم القاعدة، في رفع التأييد الدولي لغزو العراق عام 2003، وساعد في التأثير على كلّ مَن كان متحفظًا بشأن شنّ الحرب على العراق داخل وخارج أمريكا، وكانت الدول العربية أكثر تحمسًا من إسرائيل ودول العالم الأخرى لغزو العراق، ويُستثنى من ذلك العقيد معمر القذافي الذي رفض التدخل الأمريكي بشدة، كما فعلها من قبل عندما قرر القادة العرب الاستعانة بالقوات الأمريكية لتحرير الكويت.

ما حدث للعراق بعد الغزو الأمريكي معروفٌ للكل، وأهمّه أنه ترتب على ذلك، سنوات من الفوضى والدمار وإراقة الدماء؛ وهي الفوضى التي غرق فيها العراق إلى يومنا هذا، وتحوّل من دولة حقيقية مستقرة وقوية إلى مجموعات متناحرة وإلى شبه كيان، لا يُعرف له شكلٌ ولا طعمٌ ولا رائحة، وتباكى العرب بأنّ العراق يُحكم الآن من طهران، فيما كانوا هم من سلموا لها العراق في طبق من ذهب؛ وكانت من نتائج كذبة باول إزهاق عشرات الآلاف من الأرواح ظلمًا، وتشريد مئات الآلاف، وذهاب مثلهم إلى المنفى، ودمرت أمريكا العراق وتركت فيه بنية تحتية منهارة، مع عشرات القنوات الفضائية والإذاعية، مهمتُها تسطيح عقول العراقيين، وإشغالهم بأمور تافهة، انتشر على إثرها العنف الطائفي بين الشيعة والسنة. وتقدّر بعض المصادر عدد ضحايا كذبة باول المباشرين بنحو 200 ألف شخص على أقل تقدير. وفي ظني أنّ أكبر ما فعله كولن باول هو إنقاذ الكيان الصهيوني من التهديد الذي كان يشكّله العراق ضده، ولم تكن المسألة تتعلق بشخص صدام حسين، أو بحرية الشعب العراقي، فهذه من النكات التي لا تضحّك أحدًا.

ورغم تنصّل كولن باول من خطابه الشهير ذلك، ووصفه له بأنه «وصمة عار في حياته المهنية»، إلا أنه واصل كذبه؛ ففي الثامن من سبتمبر 2005، - بعدما وقع الفأس على الرأس - حاول باول أن يتنصل من مسؤوليته عندما قال «إنّ رئيس الاستخبارات آنذاك جورج تينت كان يعتقد أنه يقدّم لي معلومات صحيحة، قبل أن يعترف بأنّ نظام الاستخبارات لم يكن يعمل بشكل صحيح». وفي جرأة لا يخجل منها قال باول إنه لم يعقد أيّ صلة بين العراق وأحداث 11 سبتمبر 2001، لأنه ببساطة لم ير أيّ دليل على وجود مثل تلك الصلة، قبل أن يعترف بأنه «كان مقاتلا رغم أنفه»، مبررًا انسياقه خلف الرئيس بوش في حربه على العراق، بأنّ الرئيس بوش أقنعه بأنه ليس من الممكن ترك العراق يخالف قرارات مجلس الأمن.

والسؤال الذي يجب أن يُطرح وبقوة هو ماذا يفيد مثل هذا الاعتراف بعد تدمير العراق وإرجاعه إلى القرون الوسطى، ومن الذي سيعيد للعراقيين أرواحهم ووطنهم وأموالهم واستقراراهم ودولتهم؟ والأهم من ذلك هل تعلّم العرب الدرس؟!

لقد تراجعت كلّ التصريحات الأمريكية التي قالت إنّ أمريكا جاءت لتحرّر الشعب العراقي، ولتقيم الديمقراطية على غرار الديمقراطيات الغربية، فبعدما حصل للعراق ما حصل، قال كولن باول في مقابلة مع وكالة أسوشيتيد برس عام 2012، إنّ أمريكا «حققت الكثير من النجاحات لأنّ دكتاتور العراق الرهيب قد رحل»، وكأنّ ذهاب صدام حسين كان يحتاج إلى كلّ تلك التضحيات.

كم هو محقٌ الفيلسوف الألماني فريدريش نيتشه عندما قال «المُنحطّون في حاجة إلى الكذب.. إنه إحدى شروط بقائهم»؛ فإذا كانت كذبة كولن باول حول العراق هي الأشهر عالميًا، إلا أنها لم تكن الأولى؛ فقد كان واحدًا من آلاف المستشارين الذين أرسلهم الرئيس جون كينيدي إلى جنوب فيتنام لدعم الجيش المحلي ضد تهديد «الشمال الشيوعي»، وكُلف بالتحقيق في رسالة من جندي في الخدمة، تدعم مزاعم وقوع مذبحة في قرية «ماي لاي» في فيتنام في مارس 1968، قَتل خلالها جنود أمريكيون مئات المدنيين بمن فيهم أطفال؛ لكن النتيجة التي خلص إليها بأول بعد التحقيق هي أنّ «العلاقات بين الجنود الأمريكيين والشعب الفيتنامي ممتازة»، وجاءت النتيجة مخالفة للأدلة المتزايدة على المعاملة الوحشية للمدنيين من قبل القوات الأمريكية؛ واتُهم باول فيما بعد بـ»تبييض» أنباء المذبحة، التي لم تُنشر تفاصيلها على الملأ حتى عام 1970، وبعدها بات يُنظر إلى باول على أنه نجم صاعد، وهو ما تحقق له فيما بعد.

ذهب كولن باول إلى قاضي السماء، وسيلقى جزاء ما اقترفته يداه؛ ولكن المدهش أن تنشغل بعض وسائل الإعلام بوفاته بسبب كورونا أكثر من انشغالها بجرائمه وأكاذيبه؛ فوفقًا لما نقلته شبكة CNN الأمريكية، فإنّ وفاة باول، فتحت أبواب القلق أمام مسؤولي الصحة في أمريكا، رغم تطعيمه بالكامل باللقاح المضاد للمرض، وهو ما طرح تساؤلات عديدة عن فعالية اللقاحات، خصوصًا من قبل النشطاء المشككين بالتطعيم. وأشارت المعلومات إلى إمكانية أن يستغل هؤلاء خبر وفاة باول للترويج لفكرة أنّ اللقاحات لا تعمل، ومدى تأثير مثل هذه الحملات على مجرى الوباء وإجراءات التطعيم. وهذا يدل دلالة واضحة أنّ بإمكان وسائل الإعلام أن توجه تفكير الناس إلى الوجهة التي تريدها؛ فماذا يهم الناس إن كان باول توفي بكورونا أو غيره من الأمراض؟ وهل هو الوحيد الذي توفي بهذا المرض؟ هذه النقطة لم تفت الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب الذي انتقد وسائل إعلام بلاده بسبب «تغطيتها الإيجابية جدًا» لوفاة باول. وقال «من الرائع أن أرى كولن باول، الذي ارتكب أخطاء كبيرة في العراق والملف الذي أطلق عليه اسم أسلحة الدمار الشامل، يُعامَل خلال وفاته بشكل جميل من قبل وسائل الإعلام التي تنشر أخبارًا زائفة».

رحل كولن باول، ولم يشاهد الملايينُ من ضحاياه في فيتنام والعراق وفي كلّ مكان تطبيق العدالة فيه، لكن ستظل سمعته السيئة ترافق اسمه إلى الأبد؛ ومن هنا نعرف حكمة الموت؛ فمهما عاش الإنسان وقد ارتكب من الجرائم ما ارتكب فإنّ الحياة الدنيا لن تكفيه من الجزاء، لكن حكمة الله قضت أن يكون هناك حسابٌ عادل في الآخرة.