المنطق الوضعي بين عباس العقاد وزكي نجيب محمود
الأربعاء / 20 / ربيع الأول / 1443 هـ - 21:33 - الأربعاء 27 أكتوبر 2021 21:33
عبد الله العليان
عُرف المفكر والفيلسوف المصري المعروف، د/ زكي نجيب محمود، أستاذ الفلسفة بجامعة القاهرة، باعتناقه للفلسفة (الوضعية المنطقية)، والتي نُسبت عند البعض بالفلسفة التجريبية، كما ظهرت على يد الفيلسوف الفرنسي «أوجست كونت»، وقد أشرنا إلى رأيه، وإلى وصفها بالفلسفة العلموية، ولم تكن وضعية «كونت» منهجا متكامل البنيان الفلسفي، أو مذهبا اجتماعيا معبرا عن نظرة جديدة في العلوم الاجتماعية أو التجريبية الحسية، بل كانت رؤية لحل أزمة إشكالية اجتماعية قائمة في فرنسا آنذاك، مع تأزم الأوضاع التي حصلت فيها بعد الثورات الفرنسية المتعاقبة، ثم جاءت رؤى فلسفية أخرى تحت مسمى الوضعية التجريبية أو المنطقية، وما نتج عنها من إضافات، سواء ما سمي بالتجريبية الحسية، أو التحليل الرياضي، وما برز عنهما من رؤى تفرعات أخرى من مفكرين آخرين، مثل:«ديفيد هيوم»، و«أرنست ماخ»، و«موريس شليك»، أو غيرهم من دول غربية عديدة، وأهمها ما عرف بـ(دائرة فيينا في النمسا).
وقد أشرنا في مقالنا الأسبوع المنصرم إلى الانتقادات التي وجهّت للوضعية المنطقية، سواء في مجال رؤيتها الحسية، أو الرؤية التحليلية الرياضية، وكان د/ زكي نجيب محمود في الأربعينات، يدرس في المملكة المتحدة، عندما تعرف على الوضعية المنطقية، خاصة تعبير (الوضعية التجريبية)، واعتبرها فلسفة العلمية التحليلية، معبرة عن ما يراه هو، أن هذه الفلسفة هي ما يجب أن تسير الأمم، بهدف النهضة والتقدم في هذا العصر وأن تتبناها،.. يقول د/ زكي نجيب عن هذا الشعور بمعرفة هذه الفلسفة التحليلية المنطقية:«كان الموضوع الذي أطالعه عندئذ هو عرض لموقف فلسفي لم يكن قد مضى على ولادته في صورته المعروضة أكثر من ربع قرن، وأسماه أصحابه يومئذ بـ«الوضعية المنطقية»، وهو نفسه الذي أطلق عليه فيما بعد بـ«الوضعية التجريبية»، وأما اللمعة الذهنية التي أحسست بها في تلك اللحظة، فهي شعوري بأنني أقبع هنا، دون سائر التيارات والمذاهب (..)، يتفق مع الموقف الفلسفي الجديد».
ويضيف د/ زكي نجيب عن قصة اعتناقه الفلسفة الوضعية في كتابه المشار إليه آنفا، حيث انتقده البعض جراء اعتناقه هذه الفلسفة، وهو أن الوضعية المنطقية تؤمن بالحس، وتتخذ من اللفظ وسيلة للتحليل، إن كانت هذه الألفاظ لها معنى أو بغير معنى فيقول:«لا أظنني مسرفا إذا في القول إذا زعمت بأنني منذ تلك اللحظة من ربيع سنة 1946 وحتى هذه الساعة ـ يونيو 1982 ـ ظللت داعيا إلى تلك الوقفة الفلسفية العلمية، في كل ما كتبته بطريق مباشر وبطريق غير مباشر مرات، فكانت الدعوة بالطريق المباشر كلما أخذت أتناول الموضوع بالشرح والتوضيح، وكانت بالطريق غير المباشر كلما كان موضوع الكتابة شيئا آخر غير الفلسفة، النقد الأدبي مثلاً، لكنني نظرت إليه بمنظار الوضعية المنطقية، وحاسبت نفسي حسابا عسيرا في دقة اللفظية كما تريد لنا تلك الوقفة الفلسفية أن تفعل تجاه اللغة، كتابة وقراءة».
وعندما عاد د/ زكي نجيب محمود إلى مصر، بعد إنهاء الدكتوراه من المملكة المتحدة في الفلسفة، أصدر العديد من المؤلفات الفلسفية والفكرية، منها: (المنطق الوضعي)،(نظرية المعرفة)،(موقف من الميتافيزيقيا)، (نحو فلسفة علمية)،(حياة الفكر في العالم الجديد)، لكن الكتاب الذي لاقي التفاتا من المفكرين والمهتمين بالفلسفة، كان كتاب (المنطق الوضعي)، ومن هؤلاء الذين ردوا على د/ زكي نجيب محمود في هذا الكتاب، المفكر الكاتب المعروف الأستاذ/عباس محمود العقاد في فلسفة المنطقية الوضعية، يقول العقاد في كتابه:(بين الكتب والناس)، إن:«خلاصة المذهب الوضعي الحديث في بضعة سطور أن المعنى لا يكون إلا لأحد شيئين: واقعة محسوسة أو عبارة من قبيل تحصيل حاصل كإعادة المعنى الواحد بعبارتين مختلفتين، أو كقولنا إن 5+ 5= 25، فإن الخمسة في خمسة بعينها خمسة وعشرين مكررة بعبارة أخرى، ولم يكن المعنى واقعة محسوسة أو تحصيلا للحاصل على هذا الأسلوب فهو «لا معنى» أو هو مقابل لعبارة كلام فارغ باللغة الإنجليزية». يضيف عباس العقاد في نقده للوضعية المنطقية: إن ما قاله د. زكي نجيب من أن:«العبارة التي لا ترسم لنا صورة نستعين بها في المطابقة بين تزعمه وبين ما هو في الطبيعة لا يكون لها معنى على الإطلاق، هي جلبة أصوات كاتب يحدثها سير العجلات في الطريق، لأن معنى الكلام هو طريقة تحقيقه.. وأن معنى وكيفية إثبات صدقها شيء واحد». ـ مضيفا في فقرة أخرى مما كتبه صاحب كتاب ـ [المنطق الوضعي] ـ «وقد سبق الدكتور هذا الكلام بقوله:«إننا إذا أردنا من علم الأخلاق أن يبحث فيما يجب أن يكون» فما يجب أن يكون ليس كائنا». هذه الفقرات المأخوذة من زكي نجيب محمود، اقتباسا من كتابه المشار إليه، يعلق عليها الأستاذ عباس العقاد، ناقدا رؤية المنطقية الوضعية، فيقول:«نعم وكذلك الدائرة كما يجب أن تكون غير كائنة في مناظر الطبيعة، فهل نحذف قياسها لأجل هذا من حساب العلوم ؟.
لسنا نرى في الواقع فرقًا بين حقيقة تقول: إن العدل جميل وإن الحبر أسود، فإذا سألتني: ما هو الجمال ؟ سألتك: ما هو السواد في وصف المداد ؟ هل هو لون ؟ هل هو نقيض البياض ؟هل نفهم من مناقضته للبياض أن السواد حاصل بذاته بمجرد زوال البياض ؟ وإذا اتفقنا على تعريف معنى الأسود فقال لنا قائل: إن المداد قد يكون أحمر أو أزرق أو على لون غير هذين اللونين».
وللحق أن الدكتور زكي نجيب، ليس من الباحثين الذين يتشبثون بالرأي الفكري دون اقتناع ومراجعة، ولذلك فإنه بعد عدة عقود كانت له رؤية مخالفة للوضعية المنطقية وللفكر الغربي عموما، فبعدما تمت إعارته لجامعة الكويت كأستاذ للفلسفة، أعاد النظر في التراث العربي/ الإسلامي، فقد كان ـ كما قال ـ مغرما بالفكر الغربي إلى حد الهيام، فقرأ للعديد من المفكرين الكبار في القرون الماضية، مثل الفيلسوف العربي المعروف ابن رشد، والإمام أبو حامد الغزالي، لكنه أعجب كثيرا بالغزالي، واعتبره من العقول الإسلامية الفذة، ويرى أنه غاب عنها كثيرا بسبب تركيزه على الإنتاج الفلسفي الغربي ونظرياته الفكرية، ومعايشته في الغرب لعقود طويلة، سواء دراساته العالية، وأعماله الثقافية في السفارة المصرية، لكنه عاد يستنطق التراث العربي ويستخرج كنوزه، وأصدر العديد من المؤلفات التي اعتنت بالتراث العربي، وأصدر بعد ذلك المراجعة الفكرية للعديد من الكتب منها: «تجديد الفكر العربي» و«المعقول واللامعقول في تراثنا الفكري» و«ثقافتنا في مواجهة العصر»و«قيم من التراث»و«أفكار ومواقف» و«ثقافتنا في مواجهة التراث»و«عربي بين ثقافتين»، وأخيراً كتابه (حصاد السنين)، الذي يعتبر جزءا من مذكراته، إلى جانب كتاب «قصة عقل» و«قصة نفس».
تعرض دكتور زكي نجيب لحملة كبيرة من بعض الكتاب والباحثين، الذين فرحوا برؤيته ونظرته الفلسفية السابقة التي اعتنقها في بداية حياته الفكرية والفلسفية وانتقدوا مراجعته، ومن هؤلاء د/ فؤاد زكريا، د/ نصر حامد أو زيد، ووصفوه : (بالعقل المراوغ)، وقد أشرت في كتابات سابقة إلى قصة المراجعة والحملة التي تعرض لها بسبب العودة للتراث والاعتزاز به وضرورته الفكرية والثقافية، وتخليه عن الرؤية الفلسفية السابقة، دون التخلي عن التراث مع الاستجابة للعصر وليس التقليد دون الإبداع.. فماذا قال د/ زكي عن المراجعة يقول في كتابه [أفكار ومواقف]، شارحا قصة مراجعاته عن الفكر والرؤية التي كان يحملها تجاه الفكر والتراث العربي عموما، وبسبب انبهاره الذي جعله يتمنى أن نكون جزءا من هذا الغرب:«مضيت أقلب أوراقي أقرأ سطرا هنا وفقرة هناك وصفحة كاملة حينا بعد حين، لكني هذه المرة أخذت طريقي مع الأيام متجها بها من ماض إلى حاضر، فإذا ببوادر القلق تأخذ في الظهور، وإذا بالحيرة تزداد حدة وبالتساؤل يعلو صوتا ليقول : وماذا تكون قد صنعت يا أخانا إذا أنت اكتفيت بأن تسلك نفسك أوروبيا مع الأوروبيين ؟ ماذا تكون إضافتك للدنيا إذا ما جعلت من نفسك واحدا يضاف إلى كذا مليون من أهل أوروبا ؟ نعم، رأيت في أوراقي شكوكا تتقد جمراتها بين الأسطر كلما اقتربت مع تلك الأوراق من يومي هذا، ووجدتني في موضع ما اتجه إلى نفسي بلائمة كأني أعاتبها فأقول: أتكونين يا نفسي في أمسك على رأي، ثم تصبحين في يومك على رأي آخر ؟ ألم تريدي بالأمس ألا يختلط مصريتك بشيء من عروبة ؟ ولكني وجدت تلك النفس المتشككة تسارع إلى الجواب بنفسها فتقول: وماذا في أن ازداد تفكيرا فأتغير؟ إن إيمان المرء ليزداد بفكرته إذا ما جاءت بعد شك فاحص متعمق ؟». ولذلك مضى زكي حياته بهذا التوجه الجديد، وكانت تعبيرا عن عودة للذات بعيدا عن الانبهار والإتباع.
عُرف المفكر والفيلسوف المصري المعروف، د/ زكي نجيب محمود، أستاذ الفلسفة بجامعة القاهرة، باعتناقه للفلسفة (الوضعية المنطقية)، والتي نُسبت عند البعض بالفلسفة التجريبية، كما ظهرت على يد الفيلسوف الفرنسي «أوجست كونت»، وقد أشرنا إلى رأيه، وإلى وصفها بالفلسفة العلموية، ولم تكن وضعية «كونت» منهجا متكامل البنيان الفلسفي، أو مذهبا اجتماعيا معبرا عن نظرة جديدة في العلوم الاجتماعية أو التجريبية الحسية، بل كانت رؤية لحل أزمة إشكالية اجتماعية قائمة في فرنسا آنذاك، مع تأزم الأوضاع التي حصلت فيها بعد الثورات الفرنسية المتعاقبة، ثم جاءت رؤى فلسفية أخرى تحت مسمى الوضعية التجريبية أو المنطقية، وما نتج عنها من إضافات، سواء ما سمي بالتجريبية الحسية، أو التحليل الرياضي، وما برز عنهما من رؤى تفرعات أخرى من مفكرين آخرين، مثل:«ديفيد هيوم»، و«أرنست ماخ»، و«موريس شليك»، أو غيرهم من دول غربية عديدة، وأهمها ما عرف بـ(دائرة فيينا في النمسا).
وقد أشرنا في مقالنا الأسبوع المنصرم إلى الانتقادات التي وجهّت للوضعية المنطقية، سواء في مجال رؤيتها الحسية، أو الرؤية التحليلية الرياضية، وكان د/ زكي نجيب محمود في الأربعينات، يدرس في المملكة المتحدة، عندما تعرف على الوضعية المنطقية، خاصة تعبير (الوضعية التجريبية)، واعتبرها فلسفة العلمية التحليلية، معبرة عن ما يراه هو، أن هذه الفلسفة هي ما يجب أن تسير الأمم، بهدف النهضة والتقدم في هذا العصر وأن تتبناها،.. يقول د/ زكي نجيب عن هذا الشعور بمعرفة هذه الفلسفة التحليلية المنطقية:«كان الموضوع الذي أطالعه عندئذ هو عرض لموقف فلسفي لم يكن قد مضى على ولادته في صورته المعروضة أكثر من ربع قرن، وأسماه أصحابه يومئذ بـ«الوضعية المنطقية»، وهو نفسه الذي أطلق عليه فيما بعد بـ«الوضعية التجريبية»، وأما اللمعة الذهنية التي أحسست بها في تلك اللحظة، فهي شعوري بأنني أقبع هنا، دون سائر التيارات والمذاهب (..)، يتفق مع الموقف الفلسفي الجديد».
ويضيف د/ زكي نجيب عن قصة اعتناقه الفلسفة الوضعية في كتابه المشار إليه آنفا، حيث انتقده البعض جراء اعتناقه هذه الفلسفة، وهو أن الوضعية المنطقية تؤمن بالحس، وتتخذ من اللفظ وسيلة للتحليل، إن كانت هذه الألفاظ لها معنى أو بغير معنى فيقول:«لا أظنني مسرفا إذا في القول إذا زعمت بأنني منذ تلك اللحظة من ربيع سنة 1946 وحتى هذه الساعة ـ يونيو 1982 ـ ظللت داعيا إلى تلك الوقفة الفلسفية العلمية، في كل ما كتبته بطريق مباشر وبطريق غير مباشر مرات، فكانت الدعوة بالطريق المباشر كلما أخذت أتناول الموضوع بالشرح والتوضيح، وكانت بالطريق غير المباشر كلما كان موضوع الكتابة شيئا آخر غير الفلسفة، النقد الأدبي مثلاً، لكنني نظرت إليه بمنظار الوضعية المنطقية، وحاسبت نفسي حسابا عسيرا في دقة اللفظية كما تريد لنا تلك الوقفة الفلسفية أن تفعل تجاه اللغة، كتابة وقراءة».
وعندما عاد د/ زكي نجيب محمود إلى مصر، بعد إنهاء الدكتوراه من المملكة المتحدة في الفلسفة، أصدر العديد من المؤلفات الفلسفية والفكرية، منها: (المنطق الوضعي)،(نظرية المعرفة)،(موقف من الميتافيزيقيا)، (نحو فلسفة علمية)،(حياة الفكر في العالم الجديد)، لكن الكتاب الذي لاقي التفاتا من المفكرين والمهتمين بالفلسفة، كان كتاب (المنطق الوضعي)، ومن هؤلاء الذين ردوا على د/ زكي نجيب محمود في هذا الكتاب، المفكر الكاتب المعروف الأستاذ/عباس محمود العقاد في فلسفة المنطقية الوضعية، يقول العقاد في كتابه:(بين الكتب والناس)، إن:«خلاصة المذهب الوضعي الحديث في بضعة سطور أن المعنى لا يكون إلا لأحد شيئين: واقعة محسوسة أو عبارة من قبيل تحصيل حاصل كإعادة المعنى الواحد بعبارتين مختلفتين، أو كقولنا إن 5+ 5= 25، فإن الخمسة في خمسة بعينها خمسة وعشرين مكررة بعبارة أخرى، ولم يكن المعنى واقعة محسوسة أو تحصيلا للحاصل على هذا الأسلوب فهو «لا معنى» أو هو مقابل لعبارة كلام فارغ باللغة الإنجليزية». يضيف عباس العقاد في نقده للوضعية المنطقية: إن ما قاله د. زكي نجيب من أن:«العبارة التي لا ترسم لنا صورة نستعين بها في المطابقة بين تزعمه وبين ما هو في الطبيعة لا يكون لها معنى على الإطلاق، هي جلبة أصوات كاتب يحدثها سير العجلات في الطريق، لأن معنى الكلام هو طريقة تحقيقه.. وأن معنى وكيفية إثبات صدقها شيء واحد». ـ مضيفا في فقرة أخرى مما كتبه صاحب كتاب ـ [المنطق الوضعي] ـ «وقد سبق الدكتور هذا الكلام بقوله:«إننا إذا أردنا من علم الأخلاق أن يبحث فيما يجب أن يكون» فما يجب أن يكون ليس كائنا». هذه الفقرات المأخوذة من زكي نجيب محمود، اقتباسا من كتابه المشار إليه، يعلق عليها الأستاذ عباس العقاد، ناقدا رؤية المنطقية الوضعية، فيقول:«نعم وكذلك الدائرة كما يجب أن تكون غير كائنة في مناظر الطبيعة، فهل نحذف قياسها لأجل هذا من حساب العلوم ؟.
لسنا نرى في الواقع فرقًا بين حقيقة تقول: إن العدل جميل وإن الحبر أسود، فإذا سألتني: ما هو الجمال ؟ سألتك: ما هو السواد في وصف المداد ؟ هل هو لون ؟ هل هو نقيض البياض ؟هل نفهم من مناقضته للبياض أن السواد حاصل بذاته بمجرد زوال البياض ؟ وإذا اتفقنا على تعريف معنى الأسود فقال لنا قائل: إن المداد قد يكون أحمر أو أزرق أو على لون غير هذين اللونين».
وللحق أن الدكتور زكي نجيب، ليس من الباحثين الذين يتشبثون بالرأي الفكري دون اقتناع ومراجعة، ولذلك فإنه بعد عدة عقود كانت له رؤية مخالفة للوضعية المنطقية وللفكر الغربي عموما، فبعدما تمت إعارته لجامعة الكويت كأستاذ للفلسفة، أعاد النظر في التراث العربي/ الإسلامي، فقد كان ـ كما قال ـ مغرما بالفكر الغربي إلى حد الهيام، فقرأ للعديد من المفكرين الكبار في القرون الماضية، مثل الفيلسوف العربي المعروف ابن رشد، والإمام أبو حامد الغزالي، لكنه أعجب كثيرا بالغزالي، واعتبره من العقول الإسلامية الفذة، ويرى أنه غاب عنها كثيرا بسبب تركيزه على الإنتاج الفلسفي الغربي ونظرياته الفكرية، ومعايشته في الغرب لعقود طويلة، سواء دراساته العالية، وأعماله الثقافية في السفارة المصرية، لكنه عاد يستنطق التراث العربي ويستخرج كنوزه، وأصدر العديد من المؤلفات التي اعتنت بالتراث العربي، وأصدر بعد ذلك المراجعة الفكرية للعديد من الكتب منها: «تجديد الفكر العربي» و«المعقول واللامعقول في تراثنا الفكري» و«ثقافتنا في مواجهة العصر»و«قيم من التراث»و«أفكار ومواقف» و«ثقافتنا في مواجهة التراث»و«عربي بين ثقافتين»، وأخيراً كتابه (حصاد السنين)، الذي يعتبر جزءا من مذكراته، إلى جانب كتاب «قصة عقل» و«قصة نفس».
تعرض دكتور زكي نجيب لحملة كبيرة من بعض الكتاب والباحثين، الذين فرحوا برؤيته ونظرته الفلسفية السابقة التي اعتنقها في بداية حياته الفكرية والفلسفية وانتقدوا مراجعته، ومن هؤلاء د/ فؤاد زكريا، د/ نصر حامد أو زيد، ووصفوه : (بالعقل المراوغ)، وقد أشرت في كتابات سابقة إلى قصة المراجعة والحملة التي تعرض لها بسبب العودة للتراث والاعتزاز به وضرورته الفكرية والثقافية، وتخليه عن الرؤية الفلسفية السابقة، دون التخلي عن التراث مع الاستجابة للعصر وليس التقليد دون الإبداع.. فماذا قال د/ زكي عن المراجعة يقول في كتابه [أفكار ومواقف]، شارحا قصة مراجعاته عن الفكر والرؤية التي كان يحملها تجاه الفكر والتراث العربي عموما، وبسبب انبهاره الذي جعله يتمنى أن نكون جزءا من هذا الغرب:«مضيت أقلب أوراقي أقرأ سطرا هنا وفقرة هناك وصفحة كاملة حينا بعد حين، لكني هذه المرة أخذت طريقي مع الأيام متجها بها من ماض إلى حاضر، فإذا ببوادر القلق تأخذ في الظهور، وإذا بالحيرة تزداد حدة وبالتساؤل يعلو صوتا ليقول : وماذا تكون قد صنعت يا أخانا إذا أنت اكتفيت بأن تسلك نفسك أوروبيا مع الأوروبيين ؟ ماذا تكون إضافتك للدنيا إذا ما جعلت من نفسك واحدا يضاف إلى كذا مليون من أهل أوروبا ؟ نعم، رأيت في أوراقي شكوكا تتقد جمراتها بين الأسطر كلما اقتربت مع تلك الأوراق من يومي هذا، ووجدتني في موضع ما اتجه إلى نفسي بلائمة كأني أعاتبها فأقول: أتكونين يا نفسي في أمسك على رأي، ثم تصبحين في يومك على رأي آخر ؟ ألم تريدي بالأمس ألا يختلط مصريتك بشيء من عروبة ؟ ولكني وجدت تلك النفس المتشككة تسارع إلى الجواب بنفسها فتقول: وماذا في أن ازداد تفكيرا فأتغير؟ إن إيمان المرء ليزداد بفكرته إذا ما جاءت بعد شك فاحص متعمق ؟». ولذلك مضى زكي حياته بهذا التوجه الجديد، وكانت تعبيرا عن عودة للذات بعيدا عن الانبهار والإتباع.