أفكار وآراء

حرية المعلومات ضمانة للحكم الرشيد

أ.د. حسني محمد نصر

من فترة إلى أخرى ومن حدث إلى آخر يتأكد لي- كباحث في الإعلام- أن معظم المشاكل التي يعاني منها العالم كان يمكن ألا تحدث لو كانت هناك شفافية كافية ومستوى عال من حرية تدفق المعلومات، وأن السرية التي تفرضها الحكومات والمؤسسات المختلفة العامة والخاصة على حد سواء على نوعيات كثيرة من المعلومات، واحدة من أهم أسباب سوء الفهم وتراكم الأخطاء وتعقد المشكلات، إلى أن يصبح حلها صعبا بل ومستحيلا في بعض الأحيان.

انظر حولك، واستعرض كل القضايا العالقة سواء في الإقليم الذي نعيش فيه أو في العالم والمتعثر حلها منذ سنوات، تجد دائما أن منشأها كان حجب المعلومات الصحيحة من البداية، ومنع وصولها إلى الناس أو وصول الناس لها، استنادا إلى مخاوف ضبابية غير محددة من أن يؤدي نشر تلك المعلومات إلى تهديد السلامة العامة أو الأمن الوطني أو الآداب العامة، وغيرها من المصطلحات المطاطية، التي قد تضيق وقد تتسع إلى الحد الذي تريده الجهات التي تحجب المعلومات.

لهذا السبب نعود مرة أخرى للتذكير بالحق في المعرفة والوصول إلى المعلومات الذي يجب أن توليه الدول اهتماما أكبر خاصة في هذا العصر الذي أصبحت فيه المعلومات- كما يقال- على قارعة الطريق تبحث عمن يستهلكها بصرف النظر عن صحتها أو عدم صحتها. وبالتالي فإن تسهيل وصول المعلومات الصحيحة أصبح يمثل حاجة ملحة ليس فقط لحماية الشعوب من المعلومات المضللة ولكن أيضا للحكم الرشيد ومساعدة الحكومات على العمل بناء على إدراك راسخ بأن الشعوب تعرف أو سوف تعرف الحقيقة.

لقد كانت السرية، على مر التاريخ، إحدى الدعائم الأساسية للسياسة وأدواتها في أنظمة الحكم، فرفعت هذه الأنظمة من شأن السرية. وكان عصر التنوير نقطة تحول في فهم دور السرية والشفافية في المجال السياسي. فالسرية صارت محط تساؤل وانتقاد. ومع التوسع في ترسيخ مفاهيم «حقوق الإنسان والمواطن»، التي رفعت الثورة الفرنسية رايتها، أخذت الشرعية التقليدية للسرية تتلاشى، وحلت محلها شرعية الشفافية العقلانية. ومع ذلك، لا تزال المشاكل تحيط بقدرة العديد من البلدان، ومنها الديمقراطيات المتطورة، على تحقيق التوازن بين حرية الحصول على المعلومات وبين تعريف السرية وأسرار الدولة.

إن المبدأ الأساسي الذي يحكم الموازنة بين حرية المعلومات وبين الحفاظ على المصلحة العامة هو أن حماية أسرار الدولة تعدّ مشروعة بقدر مشروعية مسوغاتها، بينما لا تتطلب الشفافية وحرية تداول المعلومات أي مسوغات، ولكن هذا المبدأ أبعد ما يكون عن الواقع في العديد من البلدان، حيث الوضع الغالب هو أن الحق في المعرفة وحماية أسرار الدولة يسيران في اتجاهين متعارضين.

ولا يزال الاعتقاد سائداً لدى الكثيرين، عن خطأ، أن الأمن الوطني والدفاع الوطني يجب أن يظل خارج نطاق عمل القانون. ومع ذلك، يتزايد عدد المقتنعين بأن أفضل طريقة لحماية الأمن الوطني والدفاع هي إخضاعهما لرقابة عامة الجمهور والمراجعة القضائية.

ويمكن القول إن الثقافة السياسية السائدة اليوم تُعلي الانفتاح والشفافية باعتبارهما من الفضائل الحميدة، بينما تُصنّف السرية والتكتم في عداد الآثام. وفي هذا السياق، فإن امتياز الدولة الذي يمنحها الحق التقديري في تصنيف المعلومات على أنها سرية صار محط انتقادات ومراجعات كثيرة، ربما لأنه امتياز شابه سوء الاستغلال على أوسع نطاق. واليوم، يرى الكثيرون أن المصلحة العامة، وبالتالي المصلحة الوطنية، تصان على أفضل وجه من خلال الشفافية، وليس السرية.

من المهم في هذه المرحلة في تاريخ الإنسانية أن تتم إعادة التأكيد على الحق في المعرفة والحق في الوصول للمعلومات وتداولها باعتباره أحد أهم آليات الحكم الرشيد ووسيلة من وسائل تعزيز ودعم ممارسة الحقوق الأخرى على اختلاف أنواعها، وكونه يعني كما يرى البعض الحق في الحياة، على أساس أنه إما أن يكون جزءا ومكونا أساسيا متضمنا في ممارسة حقوق أخرى كحرية التعبير والحق في محاكمات عادلة، أو يعزز ويحمي حقوقا أخرى كالحقوق الاجتماعية والاقتصادية، أو يدعم الدفاع عن الحق في ممارسة الحقوق الأخرى، أو يمنع المزيد من الانتهاكات للحقوق الأخرى بتوفير مجال الرقابة والمحاسبة الموضوعية والمنظمة.

ويُعد احترام وتأدية وحماية الحق في المعرفة مؤشرا مهما لحالة الحقوق المدنية والسياسية بشكل عام في أية دولة. وإعمالا لمبدأ أن الحقوق كل غير قابل للتجزئة، فإن الحق في المعرفة لا يعتبر -فقط - حقا في حد ذاته ولكنه أداة لتفعيل ممارسة حقوق أخرى، فمن واجب الدول أن تتيح لمواطنيها حق الوصول للمعلومات بما يحقق تمتعهم بكافة الحقوق الأخرى، فتوافر وتداول المعلومات يتيح إمكانية المعرفة الموضوعية الشاملة بأوضاع الحقوق الأخرى، وإمكانية الحكم على مدى وفاء الدولة بما التزمت به من معايير وأهداف أعلنتها في موازناتها وخططها العامة، وفشلها في ضمان حرية وتداول المعلومات يعني بشكل أو بآخر فشلها في الوفاء بكافة الحقوق الأخرى التي التزمت بأدائها وحمايتها .

وقد بلورت منظمة المادة 19، وهي منظمة غير حكومية تأسست في لندن في العام 1987 وتكرس جهودها لمراقبة الاستجابة الفردية للدول مع القواعد الدولية لحماية حرية التعبير، عددا من المبادئ المتعلقة بالحق في المعرفة وحرية تداول المعلومات، كمعايير أساسية يمكن الاسترشاد بها حال صياغة التشريعات المنظمة لحرية تداول المعلومات.

ويتمثل المبدأ الأول في الإفصاح المطلق عن المعلومات، استنادا إلى أن القاعدة العامة هي أن لكل فرد الحق في الحصول على المعلومات التي تحوزها الجهات الحكومية، إلا إذا كانت هذه المعلومات واردة ضمن نطاق الاستثناءات المقيدة لهذا الحق.

أما المبدأ الثاني فهو وجوب النشر ويعني التزام الجهات الحكومية بموجب هذا المبدأ ليس فقط بالإفصاح عن المعلومات عند طلبها، ولكن أيضا بالنشر الروتيني والتلقائي لأصناف معينة من المعلومات مثل المعلومات الإدارية حول عمل الجهة الحكومية، خاصة عندما تكون من الجهات التي تقديم خدمات مباشرة للشعب.

ويركز المبدأ الثالث على الترويج للحكومة المنفتحة، ويعني أن هناك التزاما يقع على الجهات الحكومية بضرورة الترويج لثقافة الإفصاح عن المعلومات، ومكافحة ثقافة السرية الرائجة بين الموظفين العموميين، وضوابط السرية ومقتضياتها.

ويتناول المبدأ الرابع نطاق الاستثناءات المحدودة. ويقضي هذا المبدأ بأنه على الجهات الحكومية أن تستجيب لجميع الطلبات الفردية للحصول على المعلومات، إلا إذا ارتأت الجهة أن هذه المعلومات تقع ضمن نطاق الاستثناءات المحدودة. ولا يمكن رفض كشف المعلومات إلا إذا أثبتت الجهة الحكومية أن الإفصاح عن المعلومات سوف يضر بالهدف من إبقاء هذه المعلومات سرية، وأن يكون الضرر المترتب عن الإفصاح يفوق المصلحة العامة التي قد تتحقق منه. ويشمل المبدأ الخامس إجراءات تسهيل الوصول إلى المعلومات. وتتضمن تلك الإجراءات أن تقوم الجهة الحكومية باتخاذ كل ما من شأنه تسهيل الاطلاع عن المعلومات، ووضع نظام يتضمن استئناف رفض طلب الإفصاح عن المعلومات، لدى جهة مستقلة عن الجهة الحكومية التي رفضت الإفصاح.

لقد شهدت السنوات الأخيرة تزايدا كبيرا في توجه الدول نحو وضع تشريعات لحرية المعلومات على مستوى العالم، ومع ذلك ما زالت الدول العربية تفتقر إلى قوانين لتقنين الحق في الحصول على المعلومات، باستثناء ثلاث دول فقط، هي الأردن وتونس والمغرب التي بادرت إلى إصدار قوانين لحرية المعلومات، لها ما لها وعليها ما عليها، وهذا موضوع مقالنا القادم بإذن الله.