أفكار وآراء

الثقافة في الاقتصاد الرقمي

يقدم لنا مؤشر الاقتصاد الرقمي العربي 2020 (كوفيد ـ 19 وضرورة التحول إلى الاقتصاد الرقمي) الصادر عن مجلس الوحدة الاقتصادي العربي في جامعة الدول العربية، التحولات العالمية التي طرأت بعد جائحة كوفيد ـ 19، والتي تستدعي بناء المنطقة العربية لقدرات جديدة ومبتكرة لمواجهة التحديات التنموية؛ فبعد تعرُّض الاقتصاد العالمي لأزمته الكبيرة خلال الجائحة، والتي كانت نتيجة لتوقف الأعمال والتعليم والحياة بشكلها العام أو الجزئي، جعل العالم يلتفت إلى الأهمية المضاعفة التي تمثلها التكنولوجيا والحلول الرقمية، التي أثبتت فاعليتها وقدرتها على المساهمة في ضمان استمرارية تقديم الخدمات أثناء الأزمات.

وهكذا أثبت الاقتصاد الرقمي (موقفا تاريخيا واستثنائيا) ـ بتعبير التقرير ـ أثناء الجائحة. وقد تفاوتت الدول في الصمود والمواجهة حسب استعدادها للتحول الرقمي، وقدرتها على تسريع آفاق هذا التحول ومجالاته، واعتمادًا على نتائج هذا المؤشر فإن السلطنة تأتي في المركز (الخامس) وفقا للأسس التسعة التي اعتمد عليها المؤشر وهي (المؤسسات، والبنية التحتية، والتعليم والمهارات، والحكومة الإلكترونية، والابتكار، والمعرفة والتكنولوجيا، وبيئة الأعمال والجاهزية الرقمية، ونمو سوق التمويل، والتنمية المستدامة)، وهي مؤشرات تُظهر قدرة السلطنة وجاهزيتها للعمل على تنمية (الاقتصاد الرقمي) وازدهاره، ولهذا فإن التقرير يصنفها ضمن (الدول القائدة) الجاذبة للاستثمار الدولي في المجال الرقمي.

ولأن الاقتصاد الرقمي أساس التنمية المستدامة فإن اعتماد السلطنة لـ (البرنامج الوطني للاقتصاد الرقمي) يأتي خطوة مهمة لتحقيق رؤية عمان 2040 التي نصت ضمن أولوية (التنويع الاقتصادي والاستدامة المالية) إلى التوجه الاستراتيجي (اقتصاد متنوع ومستدام قائم على التقنية والمعرفة والابتكار. أطره متكاملة وتنافسية متحققة، مستوعب للثورات الصناعية، ويحقق الاستدامة المالية). وهو التوجه الذي تعتمد عليه القطاعات التنموية كلها من أجل تحقيق (مجتمع المعرفة).

والحق أن هذا البرنامج يُعد نقلة نوعية للتخطيط الرقمي في السلطنة؛ ذلك لأنه يعتمد على (التحول للاقتصاد الرقمي) من خلال الحكومة الذكية، ورفع الكفاءات التقنية في المجتمع، وتميكن رقمنة الأعمال، وهي محاور تقوم عليها أسس الجاهزية، سواء جاهزية البنية الرقمية التحتية، أو جاهزية (مستقبل الإنتاج الرقمي)، لذا فإن هذا البرنامج يستهدف مجموعة من القطاعات هي (النقل واللوجستيات والسياحة والصناعات التحويلية، والثروة السمكية والتعدين والتعليم)، وهي من القطاعات المرتبطة بالخطة الخمسية العاشرة.

والحال أن هذا البرنامج على أهميته الوطنية التنموية، وعلى أهمية تلك القطاعات التي استهدفها، إلاَّ أنه قد أغفل قطاعا مهما في الاقتصاد الرقمي هو قطاع (الثقافة والإعلام)؛ ذلك لأن إنتاج (مجتمع رقمي) ينطلق من محددات ثقافية أساسية، كما أن مهارات المستقبل المرتبطة بالإبداع والابتكار تتأسس مما تقوم عليه ثورات التكنولوجيا في قطاع الإعلام وتوظيف التنوع الثقافي واستثماره اقتصاديا من خلال الرقمنة والابتكارات الرقمية المتطورة خاصة في مجال إنترنت الأشياء، وصناعة المحتوى. فكيف يمكن صناعة محتوى دون (الثقافة والإعلام)؟ وكيف يمكن التركيز على قطاع السياحة والتعليم دون (الثقافة والإعلام)؟ فهما ركيزتان مهمتان للاقتصاد الرقمي لما لهما من أهمية في برامج هذا الاقتصاد ومبادراته وبالتالي قدرتهما في تحقيق (مجتمع المعرفة)، باعتبار اعتمادهما على التنوع والتواصل وقدرتهما على تحقيق التنمية المجتمعية.

يربط تقرير (التكنولوجيا والابتكار 2021. اللحاق بركب موجات التقدم التكنولوجي.التوفيق بين الابتكار والإنصاف) الصادر عن مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية (الأونتكاد) بين الازدهار الرقمي وعدم المساواة، وذلك من خلال عدم التوازن بين النمو الاقتصادي والتنمية البشرية؛ ذلك لأن العولمة والتغير التكنولوجي من أهم محركات التفاوت الاقتصادي، ولهذا فإن قدرة التنمية الرقمية على تميكن الشباب وإيجاد وظائف إبداعية سيسهم في تعزيز الإنتاجية وبالتالي الرفاه الاجتماعي. ولهذا فإن التقرير يعتمد على (التكنولوجيا الرائدة) التي تستفيد من أساليب الرقمنة والاتصال الإلكتروني في مضاعفة آثارها الاقتصادية؛ وهي (الذكاء الاصطناعي، وإنترنت الأشياء، والبيانات الضخمة، وتقنية الكتل المتسلسلة، وشبكة الجيل الخامس، والطباعة الثلاثية الأبعاد، والتشغيل الآلي، والطائرات بلا طيار، والتعديل الوراثي، والتكنولوجيا النانوية، والطاقة الفلطاضوئية الشمسية).

إن (التكنولوجيا الرائدة) تمثل ـ حسب التقرير ـ “سوقا تبلغ قيمتها 350 بليون دولار، وسوقا يمكن أن تنمو بحلول 2025 لتبلغ قيمتها أكثر من 3.2 ترليون دولار”، ولهذا فإن انتعاش هذه التكنولوجيا يعتمد على قدرة الدول على (تنفيذ) خطط الاقتصاد الرقمي عبر حكومة ذكية قائمة على توجهات استراتيجية وخطط وطنية للبحث والابتكار، لمواءمة (سياسات الابتكار الوطنية مع السياسات الصناعية) التي تعتمد عليها الدولة.

ولهذه العلاقة بين (الابتكار والإنصاف) من ناحية، وبينهما بين (التنمية المستدامة) من ناحية أخرى، فإن (إقامة مدن أكثر ذكاءً واستدامة) هو الهدف الأصيل الذي سيضمن (الرفاه الاجتماعي) وتحقيق أهداف التنمية؛ فاستثمار الاقتصاد الرقمي يقتضي وجود سياسات متعلقة بالتكنولوجيا والابتكار واستثمارها وليس فقط استخدامها في تنمية القطاعات، خاصة تلك القطاعات المتنامية والتي تتميز بالتنوع كالقطاع الثقافي، لما يمثله من قدرة على تعزيز نُظم الإبداع والابتكار سيما في علاقته مع القطاعات التنموية الأخرى (الاجتماعية والثقافية والبيئية).

إن قطاع الثقافة في علاقته بالاقتصاد الرقمي يُقدم نفسه باعتباره (إمكانا) للتطوير الرقمي والإبداع، والابتكار التكنولوجي المتنوع، و(قدرة) على تعزيز نُظم الابتكار وتوسعة آفاقه من خلال برامج الاستثمار والنشر وحقوق الملكية الفكرية، وتبادل المعارف، إضافة إلى الاستثمار التقني الواسع في مجالات الفنون، والصناعات الثقافية والإبداعية. ولهذا فإن (البرنامج الوطني للاقتصاد الرقمي) في رؤيته ورسالته العامة يؤسس للتمكين والتوطين والصناعة الرقمية، من أجل تحقيق (مجتمع رقمي)؛ وهذا المجتمع لن يتحقق سوى بإيجاد منظومة وطنية متكاملة في القطاعات التنموية كلها.

عليه فإن (المستقبل التقني) الذي يعمل عليه هذا البرنامج يوازن بين (تمكين المهارات) و(تحقيق البرامج)، وعلى القطاعات المختلفة العمل ضمن منظومة وطنية تحقق أو تسهم في تحقيق آفاق استدامة برامجه التنفيذية، ولهذا فإن التمكين المجتمعي أحد أهم معززات تحقيق هذا البرنامج، بما يُسهم في تنمية المدن باعتبارها (ذكية) قادرة على تفعيل التحوُّل الرقمي، الأمر الذي سيضمن التطويرالرقمي المؤسساتي في المحافظات من ناحية، وتطوير الإنتاج الرقمي الاقتصادي بما يمكِّن قدرات الشباب من ناحية أخرى.

لقد قدَّم (مؤشر الاقتصاد الرقمي العربي 2020) خلال تحليله لنتائج المؤشر مجموعة من التحديات التي تواجه المنطقة العربية في (الاقتصاد الرقمي)، وقد كان من بينها إشكالات (التمكين الاقتصادي والفجوات بين الجنسين والمدن الذكية والتحضر)؛ ذلك لأن التمكين الرقمي وتأهيل القدرات وبالتالي إيجاد المدن الذكية يعتمد على قدرة الحكومات على تحقيق التحول الرقمي في المدن والحواضر على السواء، بما يضمن المساواة والتمكين.

إن الاقتصاد الرقمي اليوم يمثل ضرورة تنموية في القطاعات الاجتماعية والثقافية والاقتصادية؛ وبالتالي الرفاه الاجتماعي، والهُوية الوطنية والتنوع الثقافي؛ التي تُعد دعامة أساسية للاقتصاد الرقمي والتنمية الرقمية في المجتمعات، ولهذا فإن الاقتصاد الرقمي يرتبط ارتباطا مباشرا بأهداف التنمية المستدامة ومؤشراتها باعتباره أساسا حيويا للبنية التحتية للمجتمعات والتصنيع والابتكار والوصول إلى تكنولوجيا المعلومات والاتصالات بما يضمن المساواة بين أفراد المجتمع ومدنه المتعددة.