نوافذ .. "ريش" بين فيلم الزهيري، ومقهى محفوظ
السبت / 16 / ربيع الأول / 1443 هـ - 18:21 - السبت 23 أكتوبر 2021 18:21
سليمان المعمري-01
نستطيع أن نسمي أسبوعنا هذا الذي مضى 'أسبوع ريش' بامتياز، فقد استطاع فيلم سينمائيّ مصري أن يخطف الأضواء الإعلامية المصرية والعربية، بشكلٍ لم يفعله حتى عندما فاز قبل أربعة أشهر بجائزة النقاد في مهرجان «كان» السينمائي، وهنا تكمن المفارقة المُضحِكة المُبكِية في الآن نفسه، والتي لطالما تكررتْ في وطننا العربي؛ أن يكون الاهتمام بمبدع أو بعمله الإبداعيّ لأسباب أخرى، تافهة في الغالب، لا علاقة لها بهذا الإبداع.
الفيلم الذي أتحدث عنه هو 'ريش' للمخرج عمر الزهيري الذي عُرِض هذا الأسبوع في مهرجان الجونة السينمائي فأثار جدلًا في مصر، مازال مستمرًّا حتى كتابة هذه السطور. ولستُ هنا في وارد الإشادة بالفيلم أو نقده، ببساطة لأنني لم أشاهده، لكن يبدو لي من بعض المراجعات التي قرأتُها عنه أنه فيلم يستحق الجائزة التي نالها في كان، خصوصًا مراجعة الناقد السينمائي المصري أمير العمري -وأعرف أنه ناقد لا يجامل فيما يخص السينما- الذي قال: إن 'علينا أن نحتفل بفيلم جديد مختلف، طموح، لا يدّعي، ولا يزايد، ولا يزعم أنه يقدم بيانًا سياسيًّا، يعارض أو يؤيد، بل هو عمل فنيّ أصيل، يعبّر عن رؤية مخرجه لهذا العالم'.
إذن، أستطيع الزعم، أنا الذي لم أرَ الفيلم، أنه فيلم جيد، ليس فقط لإشادة النقاد به إلى درجة أن منحوه جائزتهم في كان، بل أيضًا للأسباب المضحكة التي طُرحِتْ إعلاميًّا في انتقاده. هناك من انتقده لأنه يصوّر بيئة مصرية مُدقعة الفقر، وكأن على السينما أن تصوّر فقط القصور وناطحات السحاب وحمامات السباحة!، وهناك من هاجمه لأن ممثليه لم يكونوا نجومًا، بل ليسوا ممثلين حتى، وإنما أناس عاديون وضعهم المخرج أمام الكاميرا وطلب منهم التصرف على طبيعتهم، وهذا لعمري أمرٌ يُحسب للمخرج لا عليه. أما بعض موزعي صكوك الوطنية على هواهم، وكأن الله لم يخلق 'وطنيين' سواهم، فقد اتهموا المخرج بخيانة وطنه مصر بهذا الفيلم، بزعم أنه قدّم فيلمًا من نوعية الأفلام التي تُصنع لنيل الجوائز بتصدير صورة غير حقيقية عن مجتمعاتها، وحتى إن سايرنا هؤلاء وافترضنا جدلًا أن اتهامهم هذا صحيح (وهو بالتأكيد غير صحيح) فقد فات هؤلاء للأسف أن بلدًا عظيما كمصر أكبر بكثير من أن يسيء إليه فيلم أو رواية.
فيلم 'ريش' أحالني للوهلة الأولى التي أسمع فيها به إلى مقهى 'ريش' الشهير في مصر، دون أن أعرف أن بينهما رابطا مشتركا؛ وهو أن المقهى كان يجلس فيه الأديب الكبير نجيب محفوظ، الذي لاقى بسبب إبداعه ما لاقاه الزهيري بسبب فيلمه، خصوصًا ممن يُطلق عليهم في مصر 'أهل الكار' أي زملاء المهنة الذين يفترض بهم أن يكونوا أول من يفرح لنجاح زميلهم الذي ناب عنهم في هذا النجاح. غير أن المفترض شيء والواقع شيء آخر. فإذا كان الفنان شريف منير قد تصدر الصفوف في الهجوم على الزهيري وفيلمه متهمًا إياه بأنه يقدم مصر بصورة سيئة، فإن يوسف إدريس –لا سواه- هو من تصدّرها في الهجوم على محفوظ بعد فوزه بنوبل في الأدب عام 1988 متهمًا إياه أنه ما كان لينالها لولا تأييده لاتفاقية كامب ديفيد، بل إن إدريس لم يتورع عن التصريح العلني أنه أحق من محفوظ بهذه الجائزة، ولكنها لم تمنح له للسبب نفسه الذي مُنحت فيه لمحفوظ، وهو أنه –أي إدريس- لم يؤيد الاتفاقية.
والحال أن رأي شريف منير في فيلم 'ريش'، وقبله رأي إدريس في فوز محفوظ، لا يمكن النظر إليهما أبعد من حسد 'أهل الكار' لبعضهم البعض. وهما رأيان يذكرانني بحسد مماثل حصل منذ سنتين؛ عندما انبرتْ روائية عربية معروفة فكتبتْ على صفحتها في فيسبوك بعد إعلان فوز الروائية العُمانية جوخة الحارثي بجائزة مان بوكر العالمية عام 2019: 'يبدو أن الكاتب العربي الذي سيحصل قريبًا على نوبل سيكون من الخليج. العزاء لأدونيس، والبركة في البترودولار'!. إنه 'الاستخلاج' الذي سبق أن كتبتُ عنه قبل هذه الحادثة بسنوات، وهو مصطلح أول من نحته الأديب عبدالله حبيب سنة 1994 في مقال له في جريدة 'الخليج'، على غرار 'الاستشراق'، ليصف به النظرة الدونية لبعض العرب لإخوتهم في الخليج.
وعلى أية حال، فإني عرفتُ أن في فيلم 'ريش' –الذي أتمنى أن أشاهده قريبا- ساحرًا حوّل إنسانًا إلى دجاجة، ثم فشل بعد ذلك في إعادته إلى إنسانيته. وأظن أن هذا خير ما يمكن أن أختم به هذا المقال.
الفيلم الذي أتحدث عنه هو 'ريش' للمخرج عمر الزهيري الذي عُرِض هذا الأسبوع في مهرجان الجونة السينمائي فأثار جدلًا في مصر، مازال مستمرًّا حتى كتابة هذه السطور. ولستُ هنا في وارد الإشادة بالفيلم أو نقده، ببساطة لأنني لم أشاهده، لكن يبدو لي من بعض المراجعات التي قرأتُها عنه أنه فيلم يستحق الجائزة التي نالها في كان، خصوصًا مراجعة الناقد السينمائي المصري أمير العمري -وأعرف أنه ناقد لا يجامل فيما يخص السينما- الذي قال: إن 'علينا أن نحتفل بفيلم جديد مختلف، طموح، لا يدّعي، ولا يزايد، ولا يزعم أنه يقدم بيانًا سياسيًّا، يعارض أو يؤيد، بل هو عمل فنيّ أصيل، يعبّر عن رؤية مخرجه لهذا العالم'.
إذن، أستطيع الزعم، أنا الذي لم أرَ الفيلم، أنه فيلم جيد، ليس فقط لإشادة النقاد به إلى درجة أن منحوه جائزتهم في كان، بل أيضًا للأسباب المضحكة التي طُرحِتْ إعلاميًّا في انتقاده. هناك من انتقده لأنه يصوّر بيئة مصرية مُدقعة الفقر، وكأن على السينما أن تصوّر فقط القصور وناطحات السحاب وحمامات السباحة!، وهناك من هاجمه لأن ممثليه لم يكونوا نجومًا، بل ليسوا ممثلين حتى، وإنما أناس عاديون وضعهم المخرج أمام الكاميرا وطلب منهم التصرف على طبيعتهم، وهذا لعمري أمرٌ يُحسب للمخرج لا عليه. أما بعض موزعي صكوك الوطنية على هواهم، وكأن الله لم يخلق 'وطنيين' سواهم، فقد اتهموا المخرج بخيانة وطنه مصر بهذا الفيلم، بزعم أنه قدّم فيلمًا من نوعية الأفلام التي تُصنع لنيل الجوائز بتصدير صورة غير حقيقية عن مجتمعاتها، وحتى إن سايرنا هؤلاء وافترضنا جدلًا أن اتهامهم هذا صحيح (وهو بالتأكيد غير صحيح) فقد فات هؤلاء للأسف أن بلدًا عظيما كمصر أكبر بكثير من أن يسيء إليه فيلم أو رواية.
فيلم 'ريش' أحالني للوهلة الأولى التي أسمع فيها به إلى مقهى 'ريش' الشهير في مصر، دون أن أعرف أن بينهما رابطا مشتركا؛ وهو أن المقهى كان يجلس فيه الأديب الكبير نجيب محفوظ، الذي لاقى بسبب إبداعه ما لاقاه الزهيري بسبب فيلمه، خصوصًا ممن يُطلق عليهم في مصر 'أهل الكار' أي زملاء المهنة الذين يفترض بهم أن يكونوا أول من يفرح لنجاح زميلهم الذي ناب عنهم في هذا النجاح. غير أن المفترض شيء والواقع شيء آخر. فإذا كان الفنان شريف منير قد تصدر الصفوف في الهجوم على الزهيري وفيلمه متهمًا إياه بأنه يقدم مصر بصورة سيئة، فإن يوسف إدريس –لا سواه- هو من تصدّرها في الهجوم على محفوظ بعد فوزه بنوبل في الأدب عام 1988 متهمًا إياه أنه ما كان لينالها لولا تأييده لاتفاقية كامب ديفيد، بل إن إدريس لم يتورع عن التصريح العلني أنه أحق من محفوظ بهذه الجائزة، ولكنها لم تمنح له للسبب نفسه الذي مُنحت فيه لمحفوظ، وهو أنه –أي إدريس- لم يؤيد الاتفاقية.
والحال أن رأي شريف منير في فيلم 'ريش'، وقبله رأي إدريس في فوز محفوظ، لا يمكن النظر إليهما أبعد من حسد 'أهل الكار' لبعضهم البعض. وهما رأيان يذكرانني بحسد مماثل حصل منذ سنتين؛ عندما انبرتْ روائية عربية معروفة فكتبتْ على صفحتها في فيسبوك بعد إعلان فوز الروائية العُمانية جوخة الحارثي بجائزة مان بوكر العالمية عام 2019: 'يبدو أن الكاتب العربي الذي سيحصل قريبًا على نوبل سيكون من الخليج. العزاء لأدونيس، والبركة في البترودولار'!. إنه 'الاستخلاج' الذي سبق أن كتبتُ عنه قبل هذه الحادثة بسنوات، وهو مصطلح أول من نحته الأديب عبدالله حبيب سنة 1994 في مقال له في جريدة 'الخليج'، على غرار 'الاستشراق'، ليصف به النظرة الدونية لبعض العرب لإخوتهم في الخليج.
وعلى أية حال، فإني عرفتُ أن في فيلم 'ريش' –الذي أتمنى أن أشاهده قريبا- ساحرًا حوّل إنسانًا إلى دجاجة، ثم فشل بعد ذلك في إعادته إلى إنسانيته. وأظن أن هذا خير ما يمكن أن أختم به هذا المقال.